الثورة إذ تُقدَح شرارتها ليست انتقالا إلى الأفضل بقدر ما هي إطاحة بالسائد الفاسد المرفوض الذي يستوجب للإجهاز عليه نضالا بطوليا وجهودا مضنية وتغييرا لموازين القوى لصالح قوة الفعل الثوري،وهي قوّة إذ يحالفها النصر على الطغيان تغمرها سعادة المنتصر وتمارس حقها في التكريم والتعظيم وتتعاطى مع الحرية بشغف المحروم...
أرى الثورة في مشوار اندلاعها أشبه ما تكون بثور هائج فكّ عقاله للتوّ فانبرى لا يحتكم إلا لإشباع حاجته الفطرية المكبوتة إلى الحرية يمارسها على هواه وهو يدكّ الحصون التي يراها أو يُخيَّل له أنها قائمة لتقييده وأسره...تلك مرحلة "الهيجان الثوري" التي تمليها كلّ الثورات وإلا لكانت لها تسميات أخرى من قبيل "الإصلاح" أو "التغيير" أو "التطوير"،أي تلك الأوضاع التي يمرّ الانتقال فيها من حال إلى حال بهدوء وبتوافق بين قوى المجتمع،دون صراع عنيف لا ينتهي إلا بانتصار طرف وسقوط طرف آخر...ليس المجال هنا لتمجيد الثورة وتفضيلها أو ذمّها والنيل منها مقارنة بخيار آخر غير عنيف متاح،إذ العبرة بالانتقال من السائد المرفوض إلى الأفضل المنشود،بل ليته كان متاحا الانطلاق لبلوغ الغايات النبيلة بالتي هي أحسن وأسلم...المدار،إذن، في السبيل إلى الانتقال إلى الأفضل المنشود،وهو مسار شاق وصعب ومحفوف بالمخاطر التي قد تستدرجه إلى هوة سحيقة تفصح عن مآل أسوأ من ذلك الذي كان سائدا مرفوضا...
في رصيد النضال العربي تجارب مريرة من الثورات التي لم تُحقق المنشود لعلّ أهمّها وأكثرها حضورا في الذاكرة الجماعية ثورات تحرير الوطن العربي من الاستعمار الأجنبي التي انتهت بعد صراع دام وعنيف بالانتصار عليه دون أن تفي بوعودها المنتظرة،إذ اختفى حضور استبداد الاستعمار الأجنبي البغيض لكنّه فرّخ استبدادا مارسته-وما تزال-قيادات من أهل الدار لم تكن،في كثير من الأوجه،أقلّ بشاعة من سلوك المهيمِن الأجنبيّ...لم تدم نخوة الشعوب المحرّرة من الاستعمار طويلا إذ استفاقت على انتقال من استبداد الوافد الدّخيل إلى استبداد المحلّي الناشئ من ذات شعوبه بسبب افتقارها لمشروع يُؤمّن لها الكرامة والحرية ويمنع الطغيان والاستعباد مهما كان مأتاه...
لئن كانت الحالة الثورية في ذروة اندلاعها زلزالا فهي مفهومة ومبرّرة،إلا أنها تغدو مثيرة للقلق والمخاوف إن هي استعذبت ذات الفعل الغريزي المشحون غضبا وتمرّدا وداومت على ممارسته كغاية في حدّ ذاته دون أن تكون قد انكبت على إنجاز مشروع "الأفضل المنشود" برؤية واضحة وعزم صادق وقدرة على البناء أمضى وأصلب من ذات القدرة التي أطاحت بالفاسد المتداعي...إنّ إطاحة الشعوب بطغاتها لهو إنجاز رائع وعظيم،لكنّ إقامة صرح الحرية والعدل والديمقراطية هو الغاية الأسمى والأصعب منالا...الثورات التي خلّدها التاريخ هي تلك التي اهتدت شعوبها إلى الانخراط في البناء الحضاري بعد خروجها من نفق التخلّف المظلم لتُطلّ على أفق الإرادة الحرّة البديع تنهل من قبس نوره ما يُساعدها على تفجير ما اختزنته بداخلها من قدرات على الإبداع وصنع الأمجاد،وإلا فإنّ الثورات التي تعصف وتنسف ولا تبني المنشود لا تعدو أن تكون إلا من قبيل انتفاضات قد تعقبها أخرى لتشكّل بالتراكم،وعلى مرور الزمن،ما هو جدير بتسميته ثورة تجتثّ الفاسد وتبذر ما ينفع الناس...
نقف في تاريخ الثورات على مآسي وفواجع دفعت الشعوبُ مهرَها غاليا لقرون أو عقود،وهو ما لا نتمنى أن يكون عليه حال الثورات العربية التي نعيش على وقعها حاضرا،أي ألا نضطرّ للتسليم بأنّنا ننتسب لأجيال قدَرُها أن تكون وقودا لثورة لا تأتي ثمارها أو قد تُنضجها بعد قرون أو عقود فلا نأمل منها إلا بثواب الآخرة ما دام نصيبنا من الدنيا الجهاد عقابا وعذابا بسبب ذنب سوء التدبير،ولا شيء في حياتناغير الدماء والدموع والألم...
رفقا بشعوب عربية أنهكتها قرون العذاب "وهرمت" من أجل أن تعانق فرصتها التاريخية الواعدة...
قد لا يكون ثمّة ما يُبرّر نُذُر شؤمٍ نطلقها ونحن نستمتع اليوم بالاستحمام في "المسبح الثوري" العربي بعطر مياهه المتدفقة وعذوبتها،لكنّ ذات المياه المنعشة لا تصرف عنّا سخونتها المرتفعة الحارقة إن لم نسارع إلى تلطيفها حتى تكون"بردا وسلاما" فتزوّدنا بتلمّس سبيل حسن التدبير من أجل بلوغ المصير الذي ننشد...
بدت "الموجة الأولى" من الثورات العربية تنحو مسارات منها المغري(تونس ومصر) ومنها المروِّع المخيف(ليبيا واليمن وسوريا والبحرين).وبصرف النظر عن خصوصيات اندلاع شرارة كلّ ثورة منها وما حفّ بها من تداخل المحلّي بالإقليمي والعالمي وما قد ينحرف بأهدافها إذعانا لأغراض غير شريفة تمليها قوى محلية وعالمية،فإنّ ثورتي تونس ومصر السبّاقتين بَدَتا أكثر إغراء بنعومتهما ولطفهما-لنقل بتحضّرهما- ذلك أنّ الثمن المدفوع،على أهميته، كان في متناول قدرات الشعبين تضحيةً واستمتاعا(إلى حدّ الآن)،وأحسب أنّ استحقاقات الثورتين اليوم لا تستوجب بالضرورة تزكيتهما بمزيد من الشهداء والدماء والدموع والانفلات الأمني والتدهور الاقتصادي،ولا حتى رفع ضغط الخطاب "الثوروي" المشحون إثارة وتهييجا وتطاحنا وحقدا،بل المطلوب،عاجلا،هو إثبات القدرة على البناء الحضاري وفق مشروع "المنشود" احتكاما لإرادة الشعوب في التأسيس لإعلاء سلطتها التي لا تعلوها سلطة مهما كان مأتاها وورَعُ دعاتها...الإرادة الشعبية تعرف جيّدا غايتها لكنّها تحتاج إلى تعبيد طريق وعرة لبلوغها،وما على المدّعين امتلاك وسائل التعبيد الناجعة من النخب الفكرية والسياسية إلا إثبات فاعلية وسائلهم والتدليل على خبرتهم وحكمتهم في إنجاز المطلوب لبلوغ المنشود،والمطلوب اليوم هو الاقتناع بالخيار الديمقراطي ولا شيء آخر غيره لتعبيد الطريق نحو المنشود رقيّا ورغدَ عيش وإسهاما في تأكيد إنسانية الإنسان بوصفه خليفة الله على الأرض.
الثورة ولادة وخلق أو لا تكون وإلا انتهت إلى ما تنتهي إليه أعراض ولادة كاذبة لا تعمّر في الأرض ولا تستغرق من الزمن إلا بقدر ما يفرضه الوحم الكاذب...والسؤال هل أنّ ثوراتنا العربية بصدد إنتاج ولادتها الحقيقية مشروعا حضاريا أم هي مجرّد تسريع بالموت لأنظمة فاسدة ميئوس من علاجها؟
إنّ الشعوب التي خرجت من نبض رحم الثورة بإيقاعاته الخلاقة،هي وحدها التي تقع عليها مسؤولية الإجابة على سؤال استحقاقات الثورات العربية بإفرازها لنخب فكرية وسياسية ليست،فقط،واعية بالرهانات المطروحة بل تحمل مشروع وصفة علاجية ناجعة تقبل على التعامل معها الجماهير العريضة وقد ارتضتها إيمانا بفاعليتها وجدواها حتى وإن بدت غير مستجيبة لما يُعتبر ملحّا من حاجات الناس فرادى،وهي حاجات بقدر تنافرها تتقاطع في صَهْرِها ضمن رؤية شاملة لحلول جماعية لا فردية...الحاجة اليوم ملحّة إلى نخب تحمل رسالة تطمين وتحفيز،لا رسالة تهييج وتخدير،على أن تثبت ذات النخب جدارتها بتصدّر المشهد الثوري بكلّ إرهاصاته وتناقضاته ومخاطر انحرافاته من أجل تفكيك الألغام التي تهدد مساره عقلنةً وبذرا لما ينفع الناس ويمكث في الأرض.
التعليقات (0)