مواضيع اليوم

منع بيع الخمور بالمغرب من فتوى دينية إلى جدل سياسي وإعلامي كبير

شريف هزاع

2010-02-21 21:57:56

0


        بعد قضية جمعية "كيف كيف المغرب" للشذوذ الجنسي، وقضية "الإفطار العلني" لحركة مالي، يتصاعد الجدل الديني والسياسي داخل المغرب هذه المرة على خلفية فتوى دينية أصدرها العالم المقاصدي وعضو حركة التوحيد والإصلاح أحمد الريسوني؛ حرم فيها التبضع من المراكز التجاري الكبرى التي تعرض الخمور للبيع على أروقتها.
    واستند الريسوني في فتواه على مارد في النص القرآني: (ويسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما) -البقرة - الآية 29، وعلى الحديث النبوي: (لعن الله الخمر وعاصرها وغارسها وشاربها وبائعها ومشتريها وآكل ثمنها وحاملها والمحمول إليه).
     أما من الناحية القانونية فقد أقام الريسوني فتواه بتجريم بيع الخمور للمسلمين على ما ورد في الدستور المغربي الذي ينصص على أن الدين الإسلامي دين للمغرب والملكية نظاما للحكم فيه.
     وهو ما ردت عليه جمعية بيت الحكمة مؤسسة مدنية علمانية مقربة من حزب الأصالة والمعاصرة -(سبق لها وأن آزرت انتظام المثليين المغاربة داخل جمعية خاصة بهم)-، إلى إصدار بيان شديد اللهجة اعتبرت فيه أن ما عبر عنه أحمد الريسوني لا يعدو أن يكون رأيا شخصيا وليس "فتوى" دينية، واتهمت الريسوني بأنه يريد استنساخ حالة القرضاوي في مصر. وأضافت في بيانها أن الإفتاء شأن مؤسساتي بالمغرب وليس فرديا.
    كما أكدت في البيان ذاته أن رأي الريسوني تضمن تحريضا وتشهيرا بالأشخاص وبالمؤسسات، وهو بذلك حسب البيان يزرع الحقد ويشيع الكراهية ويخلق أجواء من الاحتقان، ويصادر الحريات الفردية الأساسية، التي لا مجال فيها لتدخل السلطة أو غيرها بالردع أو المنع أو المصادرة.
    وقد تحدى الريسوني في رده مهاجميه حين ربط مطالبهم بإلغاء قانون حظر الخمور على المسلمين بتغيير الفصل 6 و 106 من الدستور المغربي أولا، وهي الفصول التي تؤكد على أن "الإسلام دين الدولة، والدولة تضمن لكل واحد حرية ممارسة شؤونه الدينية"، وينص الفصل (106) "أن النظام الملكي للدولة وكذلك النصوص المتعلقة بالدين الإسلامي لا يمكن أن تتناولها المراجعة". وبالتالي فإن الملك "هو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات" حسب (الفصل 19) من الدستور.
    وهكذا تطور الجدل الذي بدأ دينيا لينتهي سياسيا، حين اعتبر المكتب الوطني لحزب الأصالة والمعاصرة (ذي التوجه العلماني) فتوى الريسوني بأنها "تطرف ديني وتشدد أعمى لا موجب له"!. وما لبث هذا الجدل يتطور حتى وصل صداه إلى البرلمان المغربي، حيث واصل حزب الأصالة والمعاصرة مهاجمة الفتوى واعتبار صاحبها قد تعسف وتطاول على صلاحيات جهات وأشخاص مسؤولة عن الإفتاء في المغرب في إشارة إلى المجلس العلمي الأعلى. ويقول: "لا مجال في بلادنا للوقوع في فوضى الإفتاء التي تعرفها بعض الدول المشرقية، والتي تؤدّي إلى الإضرار بمصالح الناس وإلى تهديد الاستقرار السياسي والأمن الاجتماعي والروحي بتلك البلدان.
       ويعتبر عدد من المتتبعين أن الجدل الديني والسياسي الذي أثارته فتوى الريسوني، تحكمت فيه اعتبارات سياسية واقتصادية، لأنها تدعم فلسفة حزب العدالة والتنمية (المعارض)، في وقت ينافسه في دكة المعارضة حزب الأصالة والمعاصرة، إضافة إلى ما تنطوي عليه الفتوى من مخاطر على مصالح اللوبي المستثمر في صناعة الخمور وتهدد تجارته بالكساد والبوار.
      وهو ما دعا بهذا اللوبي إلى استنفار درعه المدني من خلال جمعية "بيت الحكمة"، لترد على الفتوى في بيان شديد اللهجة، ثم أردف تحركه ذلك بذراعه السياسي عبر حزب الأصالة والمعاصرة. 
     ومعلوم أن تجارة الخمور تنتشر في كافة أطراف المغرب برخص تمنحها الدولة إلى التجار بناء على شروط قانونية، منها الظهير الملكي (قانون صادر عن الملك) في يوليوز 1967، والذي يقضي بنده الـ28 بمنع بيع المشروبات الكحولية للمغاربة المسلمين أو منحها لهم مجانا. إلا أن السلطات المغربية دأبت على غض النظر عن ذلك، فيبقي بيع الخمور مباحا للجميع في المراكز التجارية الكبرى وفي الحانات، حيث سبق لوزير الداخلية المغربي الأسبق شكيب بن موسى أن أكد في يناير من السنة الماضية بأن عدد المحلات المرخص لها ببيع الخمور تبلغ 414 محلا.
     بل وسبق لهوليدنغ الخمور بالمغرب أن نظم مهرجانا لتذوق الخمور بمدينة مكناس والدار البيضاء نظمته شركات الخمور المغربية، منها شركة "زنيبر" التي تسيطر على أكبر حصة من إنتاج الخمر بالمغرب، وشركات خمور غربية من إيطاليا وفرنسا وإسبانيا والشيلي... ويعد هذا حدثا فريدا من نوعه في العالم العربي الإسلامي، حيث يعد الخمر أم الخبائث.
     كما أن عددا من الشركات تنشر قصاصات إخبارية وإشهارية للتعريف بأنواع الخمور التي تنتجها في بعض الجرائد والمجلات أو في المنشورات الاستشهارية، دون أن تجد أي متابعات قضائية بتهمة مخالفة الدستور والقانون.
     والمثير في ذلك أن الإحصائيات الرسمية كشفت أنه يتم استهلاك (85 بالمائة) من الخمور التي ينتجها المغرب محليا، حيث يتراوح مجموع إنتاج المغرب ما بين 30 و 40 مليون لتر أكثر من نصف هذه من النوعية الممتازة.
     وتشير إحصائيات أخرى أن المغاربة استهلكوا في سنة 2006 ما يناهز 50 مليون لتر من الخمر، منها 30 مليون لتر من النبيذ الأحمر وحده، وهو ما يعادل لتر ونصف من الخمور لكل مواطن، على اعتبار أن عدد سكان البلاد يقدر بقرابة 30 مليون نسمة.
    وتدر تجارة بيع الخمور بالمغرب مصدرا ضريبيا مهما لخزينة المملكة المغربية، حققت بفضله سنة 2008 عائدات ضريبية قدرت بما يقارب 522 مليون درهم، وفي سنة 2009 ارتفعت عائدات الدولة من بيع الخمور ارتفاعا مثيرا وصل إلى ما يقارب 800 مليون درهم، ضمنها 508 ملايين درهم تستخلص من تجارة (البيرة) لوحدها، وقرابة 283 مليون درهم للخمر الأحمر وباقي أصناف المشروبات الكحولية.
     وقد تأتى لخزينة الدولة ذلك بعدما اضطرت بفعل الأزمة العالمية إلى الرفع من الضرائب المفروضة على تجارة الخمور بالمغرب في قانون مالية سنة 2010، حيث ارتفعت عائداتها الضريبية على الجعة (البيرة) من 550 درهما للهيكتولتر إلى 800 درهم، في حين تم رفع الضريبة على الخمر الأحمر العادي من 260 درهما للهيكتولتر حاليا إلى 390 درهما.
    كما تم أيضا الرفع من الضريبة على المشروبات المقوية غير الكحولية التي ظلت إلى حدود اليوم، لا تتجاوز 20 درهما للهيكتولتر قبل أن يتقرر استقرارها خلال السنة القادمة في حدود 150 درهما، أما خمر الفقاعات (الشمبانيا وما شابهها) فقد تضاعفت الرسوم الضريبية المفروضة عليه وستصبح في حدود 600 درهم للهيكتولتر عوض 300 درهم التي كان معمولا بها سابقا.
     وتستفيد خزينة الدولة من ما يقدر بـ 220 مليون درهم مغربي من الضرائب على الخمر الأحمر وحده الذي ينتج منه المغرب 70 مليون قنينة في السنة، دون ذكر الأنواع الأخرى، كما أن عدد مناصب الشغل الثابتة في هذا المجال تتجاوز 10000 منصب قار، وأزيد من 50000 منصب غير قار.
     وتفيد الإحصائيات أن إنتاج مختلف أنواع الخمور بالمغرب، يتم في مدينة مكناس التي تستحوذ على 70% من الإنتاج، حسب دراسة قامت بها البعثة الاقتصادية الفرنسية بالمغرب.
     والحق أن تطور فتوى دينية تحرم التبضع من مراكز التجارية الكبرى التي تبيع الخمور يجعل منها شجرة تخفي غابة من الصراعات الايديولوجية والسياسية داخل المغرب، صرفت في جدل سياسي عميق.
     فقد طالبت الأحزاب المغربية المحافظة وعموم المؤسسات الوطنية والشرائح المجتمعية إلى تشديد تطبيق قانون حظر بيع الخمور على المسلمين. ورد حزب الاستقلال الحاكم على لسان جريدته "العلم" على العلمانيين بأنه لا مبرر للمطالبة بإلغاء قانون حظر بيع الخمور إلى المسلمين، وعززت موقفها بالاحتكام إلى الدستور المغرب الذي ينص على أن المغرب دولة إسلامية وملكية، وهو ما يجعل مطلب إلغاء قانون منع الخمور للمسلمين مناقضا لفلسفة الدستور.
      ويلاحظ وعلى الرغم من مرجعية الحزب الدينية فإن وجهة نظره انحصرت على الشق القانوني والسياسي دون الجدل الديني، عكس ما ذهب إليه حزب العدالة والتنمية الذي استند إلى القيم الدينية التي تحرم استهلاك الخمر ليشدد على ضرورة التطبيق الصارم لنص بيع الخمور للمسلمين. واعتبر أنه لا بالانطلاق من الدين ولا زاوية المجتمع المغربي الحريص على حماية قيمه الدينية والحضارية كلها تدعو إلى تجريم بيع الخمور إلى المسلمين.
      ويعتبر عدد كبير من المغاربة أن ارتفاع نسب الجريمة في عدد من المدن المغربية إنما يعود إلى انتشار محلات بيع الخمور في عدد من نقط البيع، حيث يرتكب جرائم بشعة، منها جريمة اغتصاب فتاة على يد أخيها المخمور بمدينة فاس وتقطيعها إلى أشلاء، وتطورت هذه الجريمة بحدث مماثل أقدمت عليه الأم التي قتلت ابنها القاتل وتقطيع جثته إلى أشلاء. وتؤكد محاضر الضابطة القضائية في المغرب أن مستهلكي الخمور أو المخدرات بكل أنواعها يرتكبون جرائم خطيرة.
     وكشفت دراسة ميدانية شملت 1259 سائقا، قامت بها لجنة حوادث السير نشرت تفاصيلها في يناير 2008 أن الخمر والمخدرات احتلا المرتبة الثانية في أسباب حوادث الطرق التي وقعت خلال 2007.
     في حين تصر الأحزاب العلمانية وبعض الجمعيات الحقوقية على المطالبة بإلغاء القانون، حيث تعتبره مسا بالحريات الفردية، ومناقضا لما صادق عليه المغرب في جميع الاتفاقيات الدولية التي تنص على احترام الحريات الفردية والجماعية وحرية الاعتقاد والتدين كما هي متعارف عليها دوليا، مما يحتم بالتالي ملاءمة قوانينه الوطنية مع هذه المرجعية الدولية.
     ودعت جمعية بيت الحكمة إلى تعديل ومراجعة أو إلغاء كل القوانين التي تعتبر بحسبها ماسة بالكرامة أو التي تهدف إلى التضييق على الحريات أو إلى تشديد رقابة الدولة على الحياة الخاصة للأفراد، لأنها لم تعد تتماشى وما تعلنه الدولة من توجهات في إطار الانتقال الديمقراطي.
     وقالت خديجة رويسي رئيسة جمعية "بيت الحكمة" أن التطور الذي يعرفه المجتمع المغربي، لم يعد يحتمل قانونا يتناقض مع الممارسة الاجتماعية والحريات الفردية، وأضافت "لقد تخلينا عن عدة أمور في الشريعة الإسلامية كقطع اليد"، و"أن القانون الذي يحظر علي المغاربة استهلاك الكحول وشراءه يجب أن يلغي لان الأمر يتعلق بالحرية الفردية".
      ويتخذ حزب العدالة والتنمية (ذي التوجه الإسلامي) من القضاء على الخمر بالمغرب أولوياته في مبارزاته السياسية، بحيث لا يتوانى في الدعوة إلى تطبيق بند تشديد الرقابة على تجار الخمور لعدم بيعها للمسلمين، وقد تمكن هذا الحزب وتحت تأثير الحاحاته إضافة إلى الأزمة الاقتصادية أن تم الرفع من قيمة الضرائب على الصناعات الكحولية بالمغرب.
     وليس هذا الصراع بالجديد على هذا الحزب فقد سبق له أن نظم وقفات احتجاجية أمام مركز تجاري أقيم بمدينة سلا، تضم أروقته الخمور المعدة للبيع، وقامت بالتوقيع على عريضة ضمنتها أن المجلس العلمي المحلي لسلا يتوفر على ظهير ملكي صدر في عهد الملك محمد الخامس يؤكد أن مدينة سلا مدينة العلماء والأولياء، وبالتالي لا يمكن بيع الخمور فيها".
    وفيما اعتبر حزب العدالة والتنمية هذا مكسبا أجبر الحكومة عليه، فإنه قد حاول من جديد كسب مزيد من النقط في هذا المجال وتحسين صورته لدى الرأي العام المغربي، وهو ما يعد سياقا وردت فيه فتوى الريسوني عضو حركة التوحيد والإصلاح الدرع الديني للحزب، حيث اصطدم هذا التجاذب السياسي مع زميله في دكة المعارضة حزب الأصالة والمعاصرة، الذي يتأهب الفرصة لتزعم الحكومة المغربية في 2012، والمؤتمن على مصالح لوبيات المال والأعمال المنتمية إليه وخاصة اللوبيات المستثمرة في قطاع الخمور.
     ويرى عدد من المراقبين أن الجدل حول هذا الموضوع يتجاوز المستويين الديني والقانوني ليشمل الصراع على المصالح الاقتصادية والسياسية للأحزاب في المغرب، حيث ذهب محللون أنه من الطبيعي أن لا تلقى فتوى الريسوني قبولا لدى المستثمرين في تجارة الخمور، حينما تهدد تجارته بالكساد، خاصة وأن القطاع عرف زيادة في الأداء الضريبي تم تضمينها في قانون مالية 2010 في إطار تفهم لأزمة مداخيل خزينة الدولة بفعل الأزمة العالمية.
     وتشير اسقراءات الرأي أن معظم المغاربة قد انتصروا للرأي الداعي إلى التطبيق الصارم لمنع بيع الخمر على المسلمين.
      ونعث المغاربة جمعية بيت الحكمة بأنها "بيت الفتنة"، "بيت الردة" و"بيت الجهل" و"بيت الخمر"... وانتصر العدد الهائل من آراء المغاربة للفتوى في حين انخفضت الأصوات المؤيدة لإلغاء قانون بيع الخمر للمسلمين، واتهموا الجمعية ومن يقف في صفها بأنها تشرف على ما أسموه مخطط تخريبي ضدا على السواد الأعظم للمغاربة من خلال الدفاع على القيم الشاذة عن الثقافة المغربية والدين الإسلامي.

عبـد الفتـاح الفاتحـي
elfathifattah@yahoo.fr




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات