منعطفات الليالي الطويلة
رحل عنه الجميع إذن، رحلوا فجأة إلى مكان لا يعرف اتجاهه و لا فاكهته ولا لون عيون نسائه، وحدهن يعرفن المأساة و الملهاة و صمت الحانات في آخر الليل.من يمر أمام المسرح البلدي غيره شارد الفكر، مكسور الجناح، يظنه مجرد صعلوك قذفته إحدى المقاهي البائسة المتاخمة للغمام القادم من هناك.. بالأمس صباحا حمل حقيبته و مضى باتجاه جبل الأقحوان، عساه يرى امرأة الأربعين ترفل في فستانها البنفسجي و مذكراتها التي لا تفارقها أبدا.لا احد يفهم سرا صمته حين يتكلم المتكلمون سواها. كلهم غارقون في الفضيحة و الخراب عدا الأطفال والباعة المتجولين و أهل البساتين الذين ما إن يروننا حتى يباغتوننا بكؤوس الشاي و الفاكهة الطازجة. صديقي الذي يجالسني قبالة مكتبي لم يفهم بعد أن ناسا عابرين للمدائن والعواصم هم الآن على مشارف المدينة، حفاة عراة، يقبلون على التلال و الجداول و الينابيع.لا أحد يعترضهم وهم يعبرون الجسر صامتين، زينتهم على وجوههم إناثا وذكورا، صبية و عجائز، كثير من الأقلام والأوراق في الأيدي و على الأكتاف تتربع انكسارات السنين، يمرون سريعا أمام النفق المخيف، كأنهم مقبلون على صمتهم وسط غابة من الحديث الممل عن رصيف المتاهة. هذا الاتجاه لا يعكس اتجاه الريح و هذا الضباب ليس أقل من دخان القرى. أولادهم يأتون غاضبين من طفولة لا تليق بأحلام أجسادهم. حدائقهم لا تتسع لضجيج الصبية و النساء، و الصخور الناتئة لا يمكن أن نرى فوقها صور الأسلاف و أقدام الغزاة. لن يعودوا إلى صباحاتنا الدافئة، حتما لن يعودوا، وحدهم فتياننا يرحلون في اتجاه سماء حيفا، يزرعون شجر السنديان وزهرة اللوتس لن تغيب عن بهجة الكرنفال، حملوا الحجارة تلو الحجارة لضرب الأخطبوط العجيب ورجم خيوط المتاهة. عائدون يا جنود الغرابة إلى سماء البلاد الخارجة من كهوف السراب
و العذاب و كأنهم لايعرفون سوى عذاب اللحظة الفاصلة ما بين الحياة و الموت. ضاحية من المدينة التي أنجبتك و مقعد شاغر على تلال المنافي البعيدة، كأنهم لايدركون خطورة ما يكتبون. نراهم دائما غاضبين و يبتعدون عن مرافئ الهدوء حينما نرحل عن صمتنا الرشيق.غرقوا في هشاشتهم و ناموا على فراش القلق قبل أن تفر صباياهم من دماء الجسد ووهج و سامة الولد العاشق للرذاذ و صمت شجر السنديان. مرور هذا الفتى أمام الحدائق يبعث فيهم كوابيس العهود السابقة. لاينامون إلا إذا رحل آخر صبي نزق بعيدا عن مواقع الخوف و الرهبة. فجأة صاروا فتيانا، و هاهم الآن ذاهبون إلى حقول الغناء و طقوس الفرادة. هل بإمكاننا أن نواصل العزف و الكتابة إن كسروا أوتارنا و أقلامنا؟ على صبية الأزقة أن يستمروا في البحث عن لحظة رائقة لبدء إنشاد القصيدة و سرد تفاصيل الحكاية. هؤلاء الرجال الذاهبين مع زوجاتهم إلى دورالسينما ليسوا سوى أولادا يعيشون أجواء الطفولة. و البنات الذاهبات إلى جدول في الخيال أو نورس حذو الغروب لسن سوى راهبات يقمن صلوات العطش في محراب المياه. انهار من سنين العصور الغابرة و أقداح من الخمر الذي يباع في الأسواق، تعود إلى الينابيع: كتب مبعثرة على الرصيف، شحاذون يحلمون بالأناقة، فيسرعون الخطى نحو مغازات الملابس الجاهزة، رسامون يلقون بلوحاتهم في البحر و صيادون يلقون بألواحهم خلف النوافذ. هذا السحاب القادم من وراء التلال لا لون له و لا رائحة. و الأوراق التي وجدناها ملقاة على هيكل الروح نقرأ ما يلي في أولى صفحاتها: لا يموت الفتى إلا إذا فاجأه النعاس و لا تندثر آثار العناق سوى في الصباح، قبل مرور الغيوم على طلال التخوم وانقطاع أصوات القادمين من ثقوب الذاكرة. هذا الخريف فاجأني بالعاصفة و الشتاء باغتني بالهذيان و الجندي الذي لم يعرف أسباب المعركة، يغادر الحلبة و يمضي إلى غرفة قابلة للانكسار. كل خفقة في الحرف تفضح عشق الكاتب للطبيعة و الأزهار و الطيور. أي مكان من الأرض يمنحك الدهشة و المباهج، و يبعث في شرايينك دماء التجاوز لفضاءات الضيق و العتمة. أي امرأة من نساء المدينة تمنحك خصرها، فمها، صمتها، كلامها، علانية و بمحض إرادتها، فلا تقتل في المساء. أهذا دمها المسفوك على الجدران، و فساتينها قد بعثرتها رياح الشمال ام ماذا؟ من بدأ برمي الحطب على النار ووأد الصبايا في الخنادق؟ هاهي حدود البلاد تحتضن من فر منها هاربا، قبل عقود، ليس خوفا من رهبة الحيف إنما عشقا لصور الثلج في الصباح هابطا من تلال النسيان، قادما من أسور الجنوب.هل بإمكان أي كان أن يمنع أي طير من حقه في الطيران والتحليق في السماء؟ من يقدر على كسر ريشة الرسام و هو في أوج عطائه وفي قمة جنونه سوى الذين لا يعرفون أن للوحة مكانا في القلب و الروح كما للقصيدة مكانا رفيعا في الذاكرة و الجسد.هؤلاء الجالسين في المقاهي لا يدركون بهجة الأشياء و رونق المشهد، ملامح الزمن القادم، صور الأزهارفي المرايا، صدى الأصوات في النفق، عناق الشبيبة و هم يرفعون اللافتات، لهم الآن أن يضحكوا طويلا طالما هذا التراب صالح لزرع الفرح و قتل كوابيس العصور القديمة. من قال بأن القلم عليه أن يكتب ما يراد له أن يكتب.. ما من شك أن كل النساء لا يعرضن مفاتنهن للعابرين، و ليس كل من دخل الكنيسة حاملا الإنجيل صار كاهنا. يختلف الحبر مثلما تختلف الضحكات والملامح و المدائن. هذه الطيور الطالعة من كهوف الغرابة، لها أن تنام و أن تعود إلى أعشاشها وزقزقاتها متى شاءت، و لكل الجنود أن يرحلوا عن حروب ما كان لها أن تكون. إلى أين ذهبت امرأة الأربعين؟ إلى ضاحية في العاصمة، أو ركن مفتوح على الدنيا في إحدى المنعطفات.. تقرأ صحف الصباح والمساء، ترسم رسوما عن الحلم و صبية الأزقة الضيقة و العاصفة. منذ أسابيع لم تر الولد المهاجر، بضحكته الدافئة و سخريته النادرة. عادة ما يكتب مذكراته آخر الليل، مستمعا لألحان هادئة و بجانبه قطه الرمادي الذي لا يحلو له أن ينام سوى قرب صاحبه.
البشير عبيد
كاتب صحفي و شاعر E-mail :abidbechir@yahoo.fr
التعليقات (0)