منظومة اسمها الشعر ماذا نريد من الشعر ؟ ولماذا الشعر ؟
إذا استطعنا ان نجيب على هذين السؤالين ، نستطيع عندئذ ان نحل ّ هذه الإشكالية الكبيرة التي وقع فيها الشعر العربي الآن
فقد الشعر العربي احساسه بالزمان والمكان ، مثل طائرة تعطل فيها جهاز تحديد الإرتفاع
القصيدة اليوم تبدو وكأنها عانس ، لا تريد ان تتزوج أحداً ولايريد احد ان يتزوجها
إنها قصيدة تعيش المنفى ، لم ينفها أحداً ولكنها هي التي نفت نفسها ، وهذا تحول خطير في تاريخ القصيدة العربية ، فبعدما كانت هذه القصيدة تختصر الوطن بأكمله ، ثقافيا ً وقوميا ً وحضاريا ً وفكريا ً وعاطفيا ً ، أصبحت بحجم قرص الاسبرين ، أو حجم الزنزانة الانفرادية ، وبعدما كانت القصيدة العربية ، مؤسسة المؤسسات والبرلمان والقصر الملكي والقصر الجمهوري ووزارة الثقافة ووزارة الاعلام ووزارة العدل جميعاً ، أصبحت مثل المرافيء غير الشرعية في لبنان تمتهن التهريب
وبعدما كانت القصيدة العربية ، تُشعل الثورات وتُسقط الحكومات وتهز ّ العروش وتمشي على رأس المظاهرات هربت من الجندية واتخذت مقراً دائما ً لها في مقهى ( الإكسبرس ) في بيروت
وإذا كان شعراء القصيدة الحديثة لايعترفون بالارض وبثقافة الارض وبهموم الارض وبلغة الارض وباللذين يمشون على وجه الارض فلماذا يحملون جواز سفر هذه الارض ؟ ولماذا يكتبون في جرائدها ؟!
إنني ألاحظ ان جغرافية الشعر بدأت تنكمش ، ورقعته بدأت تضيق والشعب العربي الذي هو من أكثر الشعوب حساسية شعرية بدأ ( يطفش ) ويعود الى دفاتره القديمة باحثاً عن قبر المتنبي ليقرأ الفاتحة على روحه
والعودة الى الدفاتر القديمة ليس فيها شيء من الرجعية كما قد يخطر ببال البعض ، ولكنها حنين الى الماء والعشب واللون الأخضر ، بعد هذا الجفاف العظيم الذي يحاصر حياتنا الشعرية
الشعر العربي عظيم ويملك كل اللياقات الجسدية والروحية ليسافر الى العالم فلماذا لانشجعه على السفر ؟ كفى نقرأ شعرنا على بعضنا ونصفق لبعضنا ونصرخ ( أحسنت – أعِدْ- ياسلام – هائل – مش معقول – بتجنن – بتعئد ) ان الأنتولوجيات التي صدرت في أوربا وأميركا لعدد من الشعراء كانت ناجحة جدا وعلينا أن نستمر في هذه التجربة لأن العالم ليس لديه الوقت ليبحث عنا ، علينا أن نبحث عنه
ماذا نريد من الشعر ؟
لانريد منه شيئا ً كثيراً كل مانريد منه أن يشبهنا ان يحمل ملامحنا ولون عيوننا ونبرة صوتنا ونبض شرايينا ويكون الناطق الرسمي بلسان افراحنا وأحزاننا
وشعر اليوم بكل أسف لايشبهنا لامن قريب ولا من بعيد إنه يشبه مستشرقاً تعلّم اللغة العربية على كبر ، لذلك نجد صعوبة كبرى في التفاهم معه ، ان مجرد ان يقول لك الشاعر ( أنا حديث ) لايكفي إذا لم يبرز نصّاً شعرياً واحداً يقتنع به العالم
والعالم العربي لم يبلع النصوص الحديثة بكاملها ولم يستطع ان يتفاهم او يتصالح معها ،
قد يكون العالم العربي ( دقة قديمة ) أو متخلفاً أو أميّاً أوسطحيا ً كما يروجون عنه ، ولكنه أمام النصوص الشعرية الرديئة لايمكنه ان يكون شاهد زور
أرجو أن لايُفهم من كلامي أنني ضد الحداثة ولكنني ضد الفلتان الشعري كما انا ضد الفلتان الأمني
المفروض ان لانقبل بالتخريب على انه ممارسة ديمقراطية أو تقدمية ، ولايمكن قبول أي هذيان مكتوب على أنه تفجير في داخل اللغة كما لايمكن الموافقة على قلع أي شجرة من حديقة الشعر ، قبل أن أزرع مكانها شجرة بديلة ، لأنني لا أريد أن أموت كالبعير في الربع الخالي
لقد سئمنا من هذه التعابير المأخوذة من قاموس حرب العصابات كتفجير اللغة وأغتيال الأبجدية ووضع عبوة ناسفة تحت قاموس محيط المحيط فهذا كلام يقوله أصحاب الميليشيات المسلحة ولايقوله شاعر مسؤول عن تأسيس المستقبل
لغتنا العربية جميلة ودودة حنونة ولودة ايضا ، لغتنا العربية تتفجر تلقائياً كبراعم الازهار وقت الربيع واننا نستيقظ يومياً على تحولات لغوية لم تكن موجودة قبل أن ننام
اعتقد ان ولادة الشعر وولادة اللغة الشعرية ضد العمليات القيصرية ، إن الربيع يبقى تسعة أشهر في مختبر تحت الأرض بين القوارير وزجاجات الألوان ليصنع زهرة صغيرة ، فكذلك الشعر يظل في مخاض حتى تلد القصيدة مولودة بعيون خضراء وجسد أشقر وقوام جميل يسر الناظرين
ونسأل مرة أخرى
لمن الشعر ؟ ومن المستفيد منه ؟
إذا كان الشعر شركة محدودة الأسهم لخمسة أو عشرة أشخاص يجتمعون في غرفة مغلقة ، ويتعاطونه كنشرة سرّية فهذا يجعله مؤسسة نخبوية ويعطيه صفة النوادي الخاصة كنوادي البريدج ونوادي العراة أو نسميه حزباً سرياً ، وهذا النوع من الشعر يعيد الشعر الى سلطة البلاط والنبلاء والخلفاء ويرجعه الى مرحلة العهود السالفة حينما يكون الشاعر شاعر السلطة يتحول بطبيعة الحال الى موظف حكومي لااكثر
وإذا كان الاقطاع على الارض قد ولى وراح ، والإقطاع على جسد الانسان قد سقط فمن الأولى أن يسقط الإقطاع الشعري وامتيازات الطبقة المستفيدة من الشعر وتتحول القصيدة الى شاطيء شعبي تسبح فيه كل طبقات الشعب دون تذاكر دخول
إن الشعر هو ذلك المطر الذي يهطل على الانسانية كلها وتلك الشمس التي تشرق على نافذة الفقير والغني ، والأبيض والأسود والمثقف ونصف المثقف وعلى الذين يعيشون في باريس وافريقيا ومجاهيل الكونغو وبنغلاديش ومدغشقر على حدٍ سواء
وظيفة الشعر تحريضية ، انقلابية ، تغييرية ، وظيفته أن يحرض الإنسان على نفسه ، على جلده ، على عظمه ، على تأريخه ، على الكساد المتراكم في داخله ،
الشاعر يأتي ليغير وجه العالم ، فاذا بقي العالم كما هو بأفكاره العتيقة بعاداته وتقاليده البالية فماهي الفائدة من الشاعر ؟
إنَّ كرسي من الخشب يكون عندئذ أهم ّ منه
كيمياء القصيدة الشعرية
من الصعب ان ندخل في تفاصيل كيمياء القصيدة الشعرية فهي عملية معقدة جداً وليس لها نظام تسير بموجبه أو روزنامة تتقيد بها
هي مزاجية جداً وكاذبة في مواعيدها ومحتالة جداً تنتظرها من الشرق فتأتيك من الغرب أو لاتأتي أبداً
وهي المرأة الوحيدة بين النساء التي تخطب الرجل وتتزوجه،
القصيدة تلعب بنا كما تريد ننتظرها على المكتب فتدخل علينا في غرفة النوم نخطط لأستقبالها في الصالون فنجدها تأخذ ( دوشاً ) في الحمام ، نضعها في الفراش ونغطيها في الشتاء فنجدها عارية تحت المطر في الشارع العام
ليس لها مكان معروف تتردد عليه فهي في كل الأمكنة ولاتعطي عنوانها لاحد وليس في بيتها تلفون ولاموبايل ولاأيميل
كاذب من بقول أن القصيدة تزوره كل يوم وتتناول إفطار الصباح معه ، وكاذب من يقول لك إن القصيدة أقامت معه شهراً كاملاً في أحد الفنادق
وكاذب من يقول لك أنه رأى القصيدة في حالة عري كامل
القصيدة لاتسكن مع أحد أكثر من خمس دقائق ثم تتركه
كل ما يمكن قوله ان طبيعة الشعر تشبه طبيعة الزلزال
ومن ذا الذي يستطيع أن يكتب تاريخ زلزال ؟!
الشعر هو نهر عظيم يتدفق باستمرار ويتغير باستمرار ولا نستطيع ان نتصوره تمثالا من البرونز في إحدى ساحات روما ، أو عمودا من أعمدة بعلبك أو مسلة فرعونية في معبد الكرنك
والشعر ليس سمكة سردين محفوظة في علبة ولكنه سمكة قزحية الألوان تجوب البحار السبعة وليس لها وطن محدد ولا عنوان معروف
ان الشعر هو فن التوعية لافن النعمية ولاسيما في بلادنا التي تحتاج الى ضوء نجمة تضيء ليلها الطويل والى كلمة جميلة تنقلها من مرحلة أهل الكهف الى مرحلة الفضاء
كل شعر لايتجه الى الأنسان ولايصبّ ُ فيه هو شعر عبثي وهامشي ، الانسان هو محور هذا العالم وهو القضية الكبرى التي تستحق النضال من أجلها والكتابة عنها
بدون الانسان لايوجد شعر ، ولانثر ولافلسفة ولافكر ولانحت ولاتصوير ولامسرح ولافنون تشكيلية
وقصة الفنون والادب كلها هي قصة الانسان مع الارض كما أن الديانات هي قصة الانسان مع السماء
ليس هناك أدب عالمي كبير وصلنا ، إلا كان الانسان بطله الرئيسي من إلياذة هوميروس الى ملحمة كلكامش ، الى ألف ليلة وليلة
كل هذه الأعمال الخالدة روت قصة الانسان في حربه وسلامه ، في خوفه ِ وطمأنينته في موته وانبعاثه ، في عشقه وفي انكساره في بطولاته وفي شهواته وفي إيمانه وفي كفره في انتصاراته وفي هزائمه
والشاعر العربي كان دائماً باحثاً عن الحقيقة ، فعنترة كان يبحث عن الحقيقة في سيفه ، وأبو فراس الحمداني كان يبحث عن الحقيقة في فروسيته ، والمتنبي كان يبحث عن الحقيقة في فلسفته وأبو نؤاس كان يبحث عن الحقيقة في كأسه
إذن فالحقيقة الشعرية ليست واحدة وإنما هي حقائق وكل شاعر يصنع الحقيقة على الشكل الذي يناسبه
وعلينا نح ان نضع انفسنا في خدمة الانسان العربي ونحرره بواسطة الشعر من الكوابيس المرعبة التي تطحنه سواء على صعيد الحب او على صعيد السياسة او على صعيد القهر النفسي والثقافي والاجتماعي
لايوجد في الشعر والفنون الاخرى مصادفات فالشاع يخطط لقصيدته كما يخطط المناضل لثورته
على الشاعر الذي يحترم نفسه ويحترم تأريخه أن يعرف ماذا يريد وعلى أي أرض يقف والى أي مكان يريد ان يذهب ، والا تحول الشعر الى لعبة قمار أو ورقة يانصيب
والشاعر الذي يعتبر الشعر ورقة يانصيب يربح مرة واحدة ، ويخسر آلاف المرات
وعلى الشاعر ان يؤمن بالواقعية الملموسة والمعاشة بكل ما فيها من نتوءات ومفارقات وتناقضات
الشيء أمامي هو الشيء والشجرة هي الشجرة ، والمرأة هي إمرأة واللون الاخضر هو لون أخضر ولاأجد ضرورة للالتفات حول الاشياء وتسمية الاشياء بغير مسمياتها
التعليقات (0)