وليد الزبيدي
وقف رجل يرتدي زياً بسيطا أمام المبنى الخاص بمنظمات المجتمع المدني، الذي تأسس في العراق عام 2003 وسط العاصمة بغداد، وخاطب أحد الموظفين بالقول، إنه حضر إلى هنا بغرض تأسيس إحدى المنظمات التي يجري الحديث عن انتشارها في العراق بعد مجيء الأمريكيين، وعندما بادره الموظف بالسؤال عن الميدان الذي تعمل فيه هذه الجمعية، أطلق الرجل ضحكة عالية، وقال إنه يريد مبلغاً من المال كما يفعل الآخرون، فقد سمع أن الكثيرين يأتون إلى العاصمة ويحصلون على الأموال لمجرد أنهم يقولون إن لديهم مشروع تأسيس إحدى الجمعيات في مدينته أو قريته.
حصل ذلك عام 2003، وتناقل البعض هذه الواقعة، وربما حصل مثلها أو ما يشابهها الكثير من المواقف والأحداث، وأخضع تلك القصة أكثر من طرف للنقاش، واتفق العدد الأكبر من الذين تصدوا لهذه الحادثة بالنقاش والتحليل، بأن المشكلة ليست بالأفراد، وإنما يرتبط ذلك بعدم وجود ثقافة "منظمات المجتمع المدني في العراق" في حين رأى آخرون وهم قلة قليلة جداً، أن المشكلة في الانفلات العام، وعدم وجود أرضية سليمة وآليات عمل واضحة ومحكمة لإطلاق منظمات المجتمع المدني، وأن أولى النتائج السلبية لهذه التجربة، قد ظهرت في طريقة فهم الناس لهذه المنظمات، التي وجدوا فيها إفساداً للنفوس من خلال البحث عن الفلوس، بدلاً من النظر إليها من زاوية أنها تؤسس لمجتمع مدني، ينظر إلى الآخرين بعين المسؤولية الثقافية الواعية، وإدراك ضرورة البناء الحضاري بعيداً عن التشوهات الاجتماعية، التي يتقدم فيها المال والرغبة بالحصول عليه بأي طريقة وأي أسلوب على أي شيء آخر.
لا أعرف إذا حصل المزارع على فرصة تأسيس منظمة مجتمع مدني، أم أنه قد أقفل عائدا ليمارس الزراعة والرعي في اختصاصه، أم أن الموجة قد حملته بين دفقاتها بين من حملة وأطلق جمعية ليكسب تحت عنوانها المال الوفير مثلما كسب الكثيرون من تلك الجمعيات، فقد انتشرت أسماء هذه المنظمات وبأعداد هائلة في العراق، وتحدثت معلومات عن وجود عشرة آلاف منظمة، وهناك من يقول إن الأرقام أقل من ذلك، إلا أن المهم ليس العدد وأعداد المنضوين تحت عناوين تلك المنظمات، وإنما الدور الذي تؤديه تلك المنظمات في أهم تخصصاتها، وبدون أدنى شك أن حجم المصائب والويلات التي تتعاظم في العراق، تستدعي معالجات متنوعة في زوايا وخبايا بأعماق المجتمع، وهنا نعود الى بداية حديثنا للوصول الى إجابة دقيقة لذلك النوع من النقاش، الذي دار في ضوء حادثة حضور أحد القرويين الى العاصمة بغداد، بهدف الحصول على المال تحت عنوان "تأسيس منظمة غير حكومية"! وهل اقتصر الهدف من تأسيس المنظمة عليه "أي القروي" أم أن الغالبية العظمى من تلك المنظمات قد اندرجت تحت هذا الهدف الخاص؟.
إن الغرض من البحث في هذه الزاوية، لا يهدف الى الكشف عن صفحة من صفحات الفساد الذي يضرب العراق من القمة الى القاع، ومن أقصى اليمين الى أقصى الشمال، وإنما الهدف من ذلك التنبيه الى أن مسارات ومسارب عديدة قد تأسست بعد الغزو الأمريكي للنخر في النسيج المجتمعي في العراق، وأن خطورتها تكمن في العناوين البراقة، التي تحملها والشخصيات التي تربعت على تلك العناوين ، في البداية ساد حديث واسع عن إطلاق منظمات مجتمع مدني بعناوين لم يألفها المجتمع العراقي، وتردد أن شخصيات معروفة قد تم تكليفها لإطلاق منظمات تعمل على إشاعة حريات خارج السياقات والتقاليد المتعارف عليها، وعبر الكثيرون عن خشيتهم من التأسيس لهذا النوع من الثقافة الطارئة بل والمرفوضة في المجتمع العراقي، إلا أن مجمل مشروع ما بعد عام 2003 قد أصابه الإنهاك ثم الارتباك والفشل، وسقط في مساره الكثير من ظلال المشاريع التي تكمل في حلقاتها المشروع الاكبر، لكن السؤال الأهم، هل يمكن الانطلاق في تجربة جديدة في عالم المنظمات غير الحكومية بعيدا عن ذلك التأسيس، الذي وفد إلينا بعد عام 2003؟
أعتقد أن دراسة ذلك من الضروريات، التي يمكن أن تدفع بالمشاركة الشعبية في صياغة الكثير من المفردات اليومية في العراق، وفي مقدمتها التثقيف الواسع بحق المواطنة والدفاع الجمعي عن هذا الحق.
التعليقات (0)