هؤلاء الذين يعتزون بما تحقق في العراق من "ديمقراطية بعد عهد طويل من الاستبداد"، ويهنئون أنفسهم بهذا "النصر"، هم يعلمون جيدا أن "انتصارهم" هذا ما كان ليحصل لولا الاحتلال، وتلك هي المفارقة الغريبة والعجيبة في دعواهم، القبول باحتلال الوطن من أجل "تحرير المواطن" زعموا ذلك.
تجارب البشرية في مقاوماتها للظلم، لم تأتنا أبدا بهذا النموذج الفريد في التحرير من الاستبداد والظلم، والغريب أن هذا المنطق الذي أسست له تجربة "التحرير" هذه المعاصرة، ظل يولد من داخله عناصر تنسجم مع بنائه الهرمي، هكذا شهدنا ولادة "ديمقراطية" يسهر على إرسائها الاحتلال، ومؤسسات يبنيها الاحتلال واحدة واحدة، وجيش يتكلف بتدريبه الاحتلال، وبناء دولة بكاملها يعيد بنائها هذا الاحتلال، وتوزيع ترابي وجغرافي و إثني يقيم صرحه هذا الاحتلال، أقاليم ومحافظات قسمت على مقاس الاحتلال بمنظور طائفي طبعا،
وطن ودولة وديمقراطية وجهوية كلها أسماء جميلة وحلوة التداول اللغوي لكن في مضامينها: طائفية وانقسام وقابلية للانقسام بسهولة بالغة، هذه هي العناصر المؤسسة لهذا المنطق الجديد في تحرير الشعوب والأوطان والأمم وإن شذ على الصواب فهو لازال يشتغل من داخله ليأتينا بالجديد،
ثقافيا ومصطلحيا أتانا بقاموس جميل من التعبيرات والمصطلحات تؤسس لسيادته في حقل المفاهيم والمصطلحات،
أتانا باسم القوات المتعددة الجنسيات بدل تسمية الأسماء بمسمياتها الحقيقية (قوات احتلال)، فأضحت عندهم قوات المحتل صديقة،
أتانا بمسمى الديمقراطية والشرعية السياسية، فأضحت عندهم حكومة المركز والتأسيس للفيدراليات وحكومات الأقاليم، تجربة فريدة ولو تأسست على أساس عرقي مقيت قابل لتفكيك المركز والوطن،
أتانا بمسمى الإرهاب هذا الاسم المطاطي الذي يحتمل التركيب والتأويل والتوظيف، فأضحت مقاومة المحتل عندهم جرما خارجا عن القانون والشرعية والعملية السياسية السلمية والإجماع الوطني، وتبدلت الأولويات بحسب الخطورة فكان أن أصبحت أولوية محاربة هذا"الإرهاب/المقاومة" مقدمة عن مقاومة المحتل العلة في كل ذلك،
والآن آخر منتجات قاموس هذا المنطق العجيب "الاتفاقية الأمنية"، فأضحت عندهم مسألة تحرير الأرض والوطن من الاحتلال مسألة أوراق وتعديل في القوانين وتصديق عليها من لدن هذا البرلمان الذي أتت به هذه الديمقراطية الفريدة في زمن الاحتلال،
منطق الغصب هذا، هو من سوق لنا مقولات محرفة لحقائق التاريخ وواقع الحال، هو من أراد أن يقنعنا بكل ما أوتي من قوة في التدليس والتلبيس، أن السبيل إلى التحرير من ربق الاحتلال هو المفاوضات والحوار والجلوس مع المغتصب لانتزاع الحق في الأرض ولإخراجه منها، وهو الذي بمسلسله التحليلي يصل إلى تخوين الشريف وتصديق الخائن، واتهام المقاوم وتبرئة المغتصب،
أجل مرت أمامنا في العقدين الأخيرين تجارب ميدانية لسريان هذا المنطق في أفغانستان، في العراق، وقبله في فلسطين، وهو نفسه بإنتاجات تشغيله في أرض الواقع، من أعطانا نموذج رام الله مقابل نموذج غزة الصامدة، ونموذج المنطقة الخضراء ومحيطها مقابل نموذج "الأنبار" و"الرمادي" و"الفلوجة" وكل مدن المقاومة العراقية الشريفة، تقسيم نموذجي جغرافي يعكس تقسيم في المواقف ومنطق إنتاجها ما بين غصب ومقاومة، ما بين إرادة في التحرير وما بين تزييف وتحريف للحقائق والوقائع،
حقا إنه زمن التراجعات والتخاذلات وظهور الخيانات في واضحة النهار، دون حياء ولا خوف ولا حشمة ولا وقار، زمن أضحت فيه للخيانة وجهة نظر وفريق وجماعة بل حتى كيان دولة، كان المشكل سابقا بين محتل للأرض ومقاوم له بوضوح تام، ومن يخون: يختبأ وراء الستار ويداري ويرتب الدسائس ولا يتجرأ أن يبوح بخيانته، أما الآن فالمشكل بين محتل وغريمه الخائن من جهة وبين مقاوم يلقى أشد التنكيل والدعايات المغرضة ناهيك عن الحرب الشعواء التي تشن ضده من كلا الطرفين،
وهو زمن انبعاث نماذج جديدة في المقاومة، شهدناها في فلسطين ترفض أن تخضع لابتزاز الحصار الغاشم، ولو تطلب الأمر تضحيات، و شهدناها في العراق وهي تؤكد على أن طريق التحرير من الاحتلال ومقاومته، لن تنتهي إلا بخروجه من الأرض، حتى وإن ادعى إرسائه للمؤسسات وللديمقراطية وللتعددية وللحرية،
وهو زمن التدافعات بين إرادة عالمية ناهضة للتحرر ، وإرادة للهيمنة آفلة بإذن الله، وبينهما تتذبذب إرادات الخيانة آملة أن تعيش لحظاتها فقط، بدون أفق ولا أمل ولا تطلع متحرر عن الذات والمنافع المرتبطة بها،
عشنا قبل أشهر محنة غزة الصامدة، وشهدنا بطولات المقاومة هناك، مقابل إرادات تأبيد الهيمنة من لدن هؤلاء الذين لم يتحرروا بعد من الرغبة في الانهزام، والقابلية للانصياع للغاصب، وصناعة ثقافة الهزيمة وتبرير الظلم، كان بعضهم يتحرك باسم ضرورة "حقن دماء الأبرياء"، ليؤسس بها مفهوما جديدا للانبطاح، وهو لا يعلم حينها أنه لا يحقن دماء بذلك ولكن يؤسس لمجازر أخرى مستقبلا يرتكبها مجرمو الحرب من الصهاينة والأمريكان، وكان بعضهم يوجه سهامه السامة إلى الشرفاء مما تبقى من رمز عزة هذه الأمة وكل أحرار العالم، فيلوم الضحية وقد يعتريه بعض من هذه الشجاعة الحربائية فيلوم الجلاد بلطف، ويدعوه إلى أن "لا يفرط في قوته" أو "أن يكف عن إطلاق النار" أو "أن لا يمس المدنيين"، ويالها من خساسة في التعبيرات، قاموس كله خياني مقيت وإجرامي، وحين تقترب معادلة النصر بين ميزان قوة مادي وميزان قوة إرادي أن تترجح لصالح هذا الأخير، يتحرك بعضهم داعيا لاجتماع طارئ، ومهرولا بكل ما أوتي بقوة كي يوقف حسب زعمه "هذا العدوان، وهذه المأساة"، معتبرا أن "سيل الاعتداءات بلغ زباه"، وهو يعلم علما يقينا أن المسألة منتهية إلى نصر وقد انتهت إلى نصر بإذن الله وقوته وفضله، لكن عليه أن يتحرك كي يدس سمه في التاريخ وفي الأحداث وفي المفاهيم، ولكي يجدد من مصطلحات قاموسه الإجرامي المقيت، حتى لا تتفرد إرادة الانتصار بربح ميدان الثقافة والسياسة والتاريخ والذاكرة كما ربحت ميدان الحرب والمعركة العسكرية،
هكذا إذن تتحرك نوايا خبيثة، لكي تحبط كل إرادات الأمل في التحرر والانتصار على "الجيش الذي لا يقهر"، كما سوق لنا قاموس الإجرام والغصب، ولكي يستمر الوضع على ما هو عليه، ولكي تظل لاءات هذا التيار المنهزم في كل شيء هي المهيمنة بإرادة الهيمنة: لا للحرب، لا للمواجهة، لا للمقاطعة، لا للممانعة، لا لململة موازين القوى والوضع الدولي،
هؤلاء المنهزمون يريدون وضعا ستاتيكيا لا يتحرك ولا يتغير، وكأن استمرار الهيمنة والعدوان على الأرض والذاكرة والهوية، واستمرار رفع الشكاوى إلى مجلس الأمن والمنتظم الدولي كلما حصل عدوان همجي أو حصار غاشم أو جرائم حرب، واستمرار مصادرة إرادة المجتمعات في التحرر من الاستبداد والظلم، واستمرار ممارسة الوصاية على الشعوب في تحديد مصائرها، أضحى قدرا محتوما لا يمكن الإفلات منه أو تغييره نحو الأفضل،
لكن هذه الإشراقات التي تظهر لنا حينا بحين في غزة وقبلها في لبنان وفي العراق وما تحققه من انتصارات، وكذا انتفاضة شعوب الأمة العربية والإسلامية وكذا أحرار العالم، حتما هي المعول عليها في تحريك ركود هذا الوضع ولململة المعادلات القائمة وإرباك الموازين التي يراد لها أن تظل كما هي، ولا أظن أن هؤلاء المنهزمون المتسلحون بإرادة البقاء وتأبيد كل كوابيس الظلم والاستبداد وتبرير العدوان وتحريف الحقائق سيستمرون،
ذلك أن المراهنة كل المراهنة على كل هؤلاء الممانعين أولا، والمراهنة كل المراهنة ثانيا على التأسيس لهذه الثقافة المقاومة التي تحفظ أصالة المفاهيم وأصالة الأحداث والذاكرة والتاريخ، والتي ينبغي أن يؤسس لها لمواجهة كل إرادة للانقضاض على الأحداث، والالتفاف على الانتصارات والإشراقات التي تظهر لنا هنا وهناك، إن المعركة الراهنة هي معركة بث الأمل في انبثاق فجر حرية جديد والتأسيس لمنطق يحفظ هذا الأمل من التبديد والعبثية، ودون هذه المعركة مقاومة وكفاح حتى تثبيت هذا المنطق في العقول والنفوس، وحتى غرس هذا الأمل في القلوب وفي الإرادات، إن المعركة العسكرية قد تظهر أحيانا وتنتهي، واستثمارها مفاهيميا وثقافيا هي المعركة الأساس...
التعليقات (0)