مواضيع اليوم

منسيون في قلب المدينة القديمة-حارة النشار والمهاترة مساكن العيش المكتوم بالاهمال والبؤس0

صهيب ايوب

2010-01-09 09:53:51

0

منسيون في قلب المدينة القديمة
"حارة النشار" و"المهاترة" مساكن العيش المكتوم بالاهمال والبؤس (1/2)

يروي هذا التحقيق مشاهد وصوراً من حياة سكان الزواريب والاحياء الفقيرة في قلب المدينة القديمة. هذه حلقة اولى تليها حلقة ثانية.


صور الحياة الفقيرة والمعدمة في احياء طرابلس القديمة و"زواريبها" الضيقة، لا تتعلق بنمط العيش المكتوم والغامض والواقع تحت ظروف معيشية بائسة فحسب، بل ان الامر برمته يرجع الى صورة مسبقة يكونها الناس عن هؤلاء البشر من الاحياء، واهمال حقيقي يتعرضون له من دولة "آخر همها" ان تسمع او ان "تقشع" حياة الفقراء. والشقاء المغموس في تفاصيل الحياة اليومية لاهالي وسكان حي"المهاترة" و"حارة النشار" خير دليل واقعي عن سياسة الاهمال الذي تعاني منه احياء طرابلس الفقيرة.
يركض الطفل علي ابن التسع سنوات عندما يرانا ويختىء وراء والدته، التي تستقبلنا بلهفة. فيما يقترب منا اخاه الصغير رامي (5 سنوات) ضاحكا لعدسة الكاميرا. الام ترتدي ثيابا شتوية. الجو ليس باردا كثيرا. فالحي الداخلي محمي من كتل الهواء الباردة. تدخلنا الى بيتها الصغير والضيق. بضع اثاثات قديمة ومهترئة. تلفزيون يتربع في وسط الغرفة. ومنقل صغير مليء بالدق والفحم المشتعل، يبث الدفء في جو الغرفة المشحون برائحة نفاذة من الرطوبة والعفن. اطفال صغار نائمون على اسرة صغيرة " انها قيلولة قصيرة. سيستيقظون ليدرسوا من بعد ذلك" تقول الوالدة بابتسامة هادئة. حقا انها قيلولة قصيرة فما لبث الاطفال ان رأونا حتى استيقظوا ليتعرفوا الى الزائر. يجلسون قرب والدتهم حفاة وهم يتجدبون، يسألونها "بوشوشة" خفيفة عنا. لا ترد عليهم. تجيب عن الاسئلة وكأنها ضمن قسم التحقيق تقول:" اعيش في الحي منذ 12 سنة. تركت عائلتي في باب الرمل وجئت للسكن مع زوجي هنا. لان العيش في الحارات ايجاره قليل". وتضيف باقتضاب" ان العيش في الحي سيء للغاية . لكن ليس باليد حيلة".


بؤس وفقر


حارة" النشار" قديمة بابنيتها الاثرية. لكنها ابنية مهترئة وآيلة للسقوط وتحتاج الى ترميم والاهمال يسكنها والاتربة المبللة بالحرمان تعشعش في نتوء حجارتها. قصص المعاناة اليومية كثيرة في هذا الحي. سكانه يفتقدون لادنى شروط العيش الصحي و البيئي والتربوي. اطفاله ضحايا عنف واهمال وابناء معرضون دوما للانحراف في جو من الامية وقلة التعليم والفقر و الحرمان المزمنين.
نتوغل أكثر وأكثر في المهاترة وحي النشار، وكلما توغلنا فيهما ازدادت شدة مظاهر الفقر والبؤس، وأهمها التسرّب المدرسي للأطفال، والذي يؤدي إلى العمالة المبكرة، أولاد يعملون في مجالات غير صحية لا بل مضرة لصحتهم، فيما آخرون يتلهون بألعاب الموت، ولأن لا فسحة للأطفال بين الزواريب الضيقة وفي المنازل المظلمة يجعلون من الشوارع مكاناً للهوهم، أو محلات التسلية غير ملائمة لنموهم السليم.


ضمور الحياة


حكاية احد الشبان في الحي، تتلخص بكيفية نزوعه الى ايجاد طريق للهرب من ضمور الحياة وتخثرها في مكان سكنه الرث. فهو يشعر انه سجين الحياة اليومية الموقوفة والواقعة في شروط سلبية. لا يجد سوى مساكنة الكمد والقنوط الصامتين في بيته، يقف وراء احد نوافذ البيت المحطمة، يشعل سيجارته الرفيق اليومي والانيس الوحيد في "شلة" افكاره الموحشة، يحدق النظر بين الحارات وشقوق المنازل المكتظة والمتلاصقة، عله يستشرف مستقبله بين كومة البيوت والابنية القديمة الصامتة. يسرح بنظره فيشاهد البيوت المكدسة فوق بعضها بعضا." لا افق حقيقي هنا" يحدث نفسه قائلاً.داخل حارته الاثرية والقديمة، كل البيوت الفت حياة الفقر وعايشت تفاصيله.


مجموعات "العيش الهامشي"


مجموعات من الشبان يشترون القهوة بـ250 ليرة ويتعاملون مع الجلوس في احد مقاهي الحي الضيق والعابق برائحة سجائرهم، بصفته الترف الوحيد الممكن. يجلس الشبان الفقراء في زواريب الحي يسندون ظهورهم الى جدرانه الموشومة بكلمات وشعارات، ويقفون امام طبقات بيوت بُنيت عشوائياً، و يتفقدون بنظرهم تفاصيل منازلهم الفقيرة، التي لا ترى في محيطها من يسير وهو يضحك. بعض الأطفال يلعبون الكرة وهم متّسخون الى حدّ المرض، وبين جلسات هؤلاء الشبان يرتفع السخط على حال لا تتغير. فقرهم لا فكاك منه، وقلة تعليمهم لا مهرب منها إلا العمل او لنقل التسكع. هنا في كثرة الحياة المتنازعة والمركبة، يعيش الناس في حياة متضاربة من الخوف على مستقبل اسرهم المكتظة. معظم الاشخاص الذين التقينا بهم يعيشون المهانة المكتومة في صدورهم، وعيونهم تحاذر ان تتبادل النظرات. بعضهم يمشي كسير الخطى في مسافة ممغنطة من الاحباط، وبعضهم يصطنع الشدة.


مستسلمون لفقرهم


الحاج احمد (60 عاما ) يقول:"كثرة من سكان الحي، يناضلون ويتعبون يوماً بعد يوم من دون أن ينتشلهم كدهم المتواصل من أدنى مستويات الفــقر والحــرمان". ويؤكد متحسرا " يمكنك ان تلمس بكل حواسك ان ثمة فراغاً راعباً يملأ تلك الأماكن، فهي متروكة بالفعل الى هؤلاء الذين لا يستطيعون الا ان يستسلموا للفقر في بقايا منازلهم الصغيرة والكامدة".


نظرة سلبية


يشكو معظم سكان الحي من النظرة السلبية التي يغرقهم بها الناس على اساس "انه لا يمكن لاحد الاقامة في الاحياﺀ الشعبية دون ان يتخلى، عن حس اللياقة والتهذيب، عليه ان يتخلى عــن اعــتــبــار المناقشة السلمية مدخلا لمنع تفاقم اي حادث بسيط مهما صغر شأنه، فلا بد من ان يتمتع المرﺀ بالشجاعة الكافية ليحمي ساحته منذ الــبــدايــة، على المرﺀ ايضا التكيف مع فكرة انه لا يمكن العيش منعزلا دون اقامة علاقات مع السكان. كل هذه الامور تفرض نفسها على المقيم الجديد، وما من امكانية للتفلت من احكامها" هذا ما يقوله احد السكان بامتعاض.


حماية الممتلكات


و يضيف مفسرا انه "كـي يحمي الساكن ممتلكاته من اعتداﺀ الآخرين، وجب عليه ان يكون مرهوب الجانب وهذا يشمل كل شــيﺀ تقريباً من موقف "الدراجة" النارية الاكثر استخداما فقليلون من يستخدمون السيارات او يمتلكونها، مــن ساعة الكهرباﺀ إلى عداد المياه، لا شيﺀ بمأمن هناك طالما أنه لا يملك جرأة الوقوف في وجه العابثين. حتى انه لا يمكن له تأمين الحماية اللازمة لــلــزوار الــذيــن يــأتــون للاطمئنان عليه، من خارج الحي".


حلقات السهر الشبابية


اما اكثر ما ينزعج منه السكان من بعضهم، يقول:" الازعاج اليومي بفعل حلقات السهر التي يجريها شبان المنطقة أمام مداخل البيوت، حيث انهم يراقبون الداخل والخارج ويميزون بسرعة البرق ولو تحت جنح الظلام الغرباﺀ عن الحي". سكان الحي لا تفوتهم شاردة، وهم مشغولون بأجمعهم في اشباع حشريتهم بمثل هذه التفاصيل. يضيف"ممنوع أن يبقى ساكن الحي الجديد، دون ملف كامل عنه متوافر لدى الجميع. الحياة مُراقبة، مراقبة شديدة، لا أمــل لأحــد في التفلت منها". لذلك نستطيع القول أن لا حياة خاصة لأحــد هناك. ولا أمــل لأحد في البقاﺀ فرداً إذا كان كذلك في السابق، وممنوع على المقيم من التحول إليه طالما أنه يحيا هناك.


حياة "مراقبة"


وطبيعة هذه الأمكنة باكتظاظها السكاني وبضيق مساحتها تجعل مــن العسير إخــفــاﺀ شــيﺀ عــن أحد فالمحادثات جميعها مسموعة ولو كانت تجري في غرف مغلقة إضافة للحياة الزوجية وعلاقات الأهل مع الأولاد وما يقطعها من المشكلات إلى ساعات الفرح، جميعها تجري على مرأى ومسمع الآخرين. والأمر الذي يمنع تداول أخبار أحد ما في حضوره عائد فقط لمشاركته سكان الحي حياتهم في تقاليدها وعاداتها، أما إذا كان من العناصر الغريبة والنافرة واللائقة في آن معاً، فيجري تداول أخبارهم وتفاصيل حياتهم الخاصة والحميمة على مرآه ومسمعه وأمام الجميع، لذلك يمكن القول ان ثمة امتيازاً يكمن في الانضمام إلى حياة "الجماعة". في نهاية المطاف يجد المرﺀ نفسه واحداً منهم يقوم بالمخالفات والتعديات ويمارس ذات الطقوس والعادات وإلا فمصيره الطرد والرحيل. ولا شك أن حياة هذه الاحياﺀ قاسية وعنيفة والأمور تسير فيها على حدود شفافة ودقيقة من السهل والصعب في آن تجاوزها.
فالسهولة تكمن في وفرة الأحداث التي تجري يومياً وتسمح بتجاوز الممنوع فيها. ومكمن الصعوبة ناجم عن الآثــار الخطيرة المترتبة على هكذا قرار. لذلك يلتزم الجميع بما هو متفق عليه ضمناً ويعملون فيه علناً وذلك لتسهيل الحياة عليهم في ظل استحالة وجود سلطة أخرى تغير من حياتهم وتنافس سلطة الأمر الواقع التي أدى إليها تضافر مجموعة من الظروف تجعل من الصعوبة بمكان إلقاﺀ اللوم على أحد أو تحميله مسؤولية هذا النمط من الحياة.


صهيب ايوب

 

 





التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !