ويبقى الإنسانُ عمادةَ الكون التي يُسند ظهره بكل آفاقه وأبعاده عليه .. وخلاصةَ عصارةِِ فلسفة الوجود الأزلية والذي وإن سبقه هذا الوجود مجيئاً وتدحرجا في مخلوقات الله إلا أنه فاقه تصورا وفكرا وألمعية .. فكل ما في الحياةِ من حركة وسكونٍ يبقى عاجزاً أمام شموخ البشرية اللامتناهي ..
فبالرغم من انزياح المجرات اتساعاً ، ولهث نجومها سرعةً واتقادا إلا أنها تبقى حبة خردل تائهة في مشاعر وأحاسيس إنسانية تتسع كلما ذرعتها عرضا وطولاً .. فعندما أودع الباري – سبحانه – أمانة إعمار الكون لبني آدم جعل قلوبهم وعقولهم تتسع اتساعا يكاد أن يكون لا محدود ، حتى يكون خير خليفة له .
تذكرتُ كل هذه المعاني الجدلية وأنا أتابعُ بشغف كغيري من مليارات البشر الستة ملحمة إخراج عمال تشيلي القابعين في رحم أمهم الأرض في مخاض مؤلم تجاوزوا به الشهرين وازدادوا تسعة أيام ،، ربما باغتهم يأس في لحظاتهم الأولى وكبر معهم حتى صار بعُمر أملهم وتطلعاتهم كان رفيقهم في دورانهم بلا هدىً داخل قعر مساحته خمسون متراً يعلوه سقف بلا عمد سمكه 700 مترا .. يا للهول بمجرد إشغال الذهن في التفكر بهذا البعد الكوني الذي أغلق عليهم ست جهات يُشعرك باختناق الذي يصّعد في السماء ، ويدنيك من الزهايمر كالذي يتخبطه الشيطانُ من المس ، لستُ أدري في ماذا انصب تفكيرهم في تلك اللحظات الحرجة هل كانوا يُفكرون كما يفكر غيرهم إن كُتب عليه السجنُ في هذا الكهف المظلم هل سيبقون يقظين في صحو سرمدي لا يعلمُ نهايته إلا الله جلت قدرته .. أم سيضربون على آذانهم في المنجم سنين عددا .. إذ ربما النومُ سيمنحهم حلماً يصعدون به إلى سطح الأرض ليلتقوا أحبابا لهم هناك في هذا العلو ( السحيق ) ولكن من أين للنوم أن يأتي وقد سدَّ ترقبُ مصير مجهول عليهم كل الأبواب ، هل ستصمد أعصابهم أمام زحف قنوط أطل برأسه في قلوبهم ، أم سيُغلبون على أعصابهم كما قال عمنا أحمد شوقي :
غُلبوا على أعصابهم ، فتوهموا
أوهام مغلوب على أعصابهِ
واقعا وخيالا ويقينا وظنا لستُ أدري .. ثم ما قدر منتظريهم هل سيولون منهم فرارا وسيُملئون منهم رعبا إن هم تذكروا ما حلّ بهم .. هل سيحسبونهم أحياء ؟ أكرر لستُ أدري .
كل هذه الأخيلة التي انسابت فيَّ انسياب ماءٍ بجوف ( هِيم ) في يوم قائظ ليست مهمةً في بعدها الإدراكي العقلي ،، ولكن ما هو أهمُّ من كل هذا هو قيمة الإنسان الذي جعله الله سبحانه وتعالى خليفته في الأرض مع علمه بفساده وسفكه للدماء .
هذا العامل الذي صارع الحياة بكل ما أُوتي وأوتيت من قوة من أجل لقمة العيش ، من أجل النهوض والارتقاء بوطنه ، يراوده حلمُ أن يرى بلده في مصاف الدول الكبرى يُشعره أن هناك فرضا عينيا لا كفائيا عليه ، وماذا عساه أن يفعل وهو يرى كنوز بلده تعلوها مئات الأطنان من التراب والصخور .. الحل هو الغوص بكل عزيمة وثبات في جوف الأرض ليستخرجها جواهر ولآلىء تزين جيد أمه الرؤوم .
هذا واجبه تجاه دولته ، ولكن ما هو واجبها تجاه .. ؟؟ واجبها تلك الملحمة التي سطرتها طيلة ما يربو على أربعين يوماً لإخراجهم من حضن أمٍ لم تصدق أنها التقت بهم بعد فراق طويل فتشبثت بهم تشبث مفارق .. وهل كانت العشرون مليون دولار التي التهمتها هذه الملحمة وفتهم حقهم ، وهل تسمُّرُ رئيسهم بقضه وقضيضه ستا وعشرين ساعة حتى طوت هذه الملحمة فصولها بنهاية سعيدة كفيلم هندي ..
نعم كانوا يستحقون كل هذا بجداره ، سواء بالبعد الإنساني.. أو بالبعد الوطني الذي خدموه أي خدمة لا متناهية
يا للروعة .. يا للسعادة كلما لفظت الأرضُ واحداً منهم في مخاضها العسير انفرجت أسارير العالم من حولهم .. وكلما صعدوا ليتنفسوا الحرية تنفست الدنيا الصعداء بهم ..
هنا انحناءة حتى ينقصم الظهر لطاقم الإنقاذ الذي أخرجهم في هذه المدة الوجيزة رغم أن أكثر التوقعات تفاؤلا قالت بأن العملية ستستغرق ثلاثة أشهر ..
وتحية إجلال وإكبار لهؤلاء الصامدين سبعين يوماً في بطن الأرض وعندما تشاحوا في البقاء حيث كان الواحد منهم يفضل أن يُنقذ زميله قبله ، وتحية تقدير لربانهم ( لويس اورزوا ) الذي استطاع بصموده أن يبقيهم على قيد الحياة بنظام صارم اختزله في ملعقتين من التونة ونصف كوب حليب كل 48 ساعة لكل منهم ، ومرة أخرى لإصراره أن يكون آخر الخارجين من هذا القبر المظلم بعد أن يطمئن على زملائه الواحد تلو الاخر ..
آه .. هذا هو الإنسان ذو المشاعر المتقدة والأحاسيس المرهفة التي لولاها لما كان عمادة الكون وخلاصة عصارة فلسفة الوجود ..
التعليقات (0)