بعد انتظار طويل حصلت على نسخة من كتاب الصديق عبد العزيز الخضر "السعودية: سيرة دولة ومجتمع"، الذي روى فيه قصة ثلاثة عقود من تاريخ المملكة العربية السعودية، وخصوصاً سنوات الغليان، وسنوات الجمر، وقصة التحولات التي أسهمت إلى حد كبير في تشكيل الساحة الفكرية والإجتماعية في البلاد حتى الآن.
وفي البدء أقول إن علاقتي بالأستاذ الخضر علاقة محبة وتقدير وإعجاب بالرقي الإنساني اللامحدود الذي يمتاز به. وهذا يعني أن بي ضعفاً تجاهه لا يمكنني أن أغالبه إلا بشق الأنفس، الأمر الذي جعلني أسير على سراط المحبة المستقيم محاولا قدر الإمكان أن أكون رفيقاً ورؤوفاً، ومحاذرا من أن أتسبب في طلقة طائشة أو إصابة بنيران صديقة !
وأقول أيضاً أنني لستُ طرفاً في المعركة التي دارت مع الكتاب، وحول الكتاب، وعلى الكتاب، رغم أن الأستاذ العزيز وضعني في قائمة ضمت أساتذة كبار من رؤساء تحرير الصحف السعودية، واصفاً إيانا بأننا كنا "مُوجهين" حين كتبنا سلسلة مقالات رداً على هجوم نائب الرئيس السوري فاروق الشرع حينما وصف دور المملكة في المنطقة بأنه "مشلول"، وما إلى ذلك من موجة الردح تلك، التي كانت أبرز دليل على طفولة الثورية العربية.
لقد ساوى بيننا وهم أصحاب المقامات العالية في تاريخ الصحافة السعودية، وما أنا إلا صحافي صغير العمر والحجم وليس لدي فئة ينصرونني من دون الله !
والغرض من هذه المقالة هو أنني أريد أن أوضح ملتبساً يخصني، أو يتعلق بمعطيات أعرفها، أما عرض الكتاب وتدقيقه، فهي مؤجلة إلى وقت آخر، وموضع آخر..
إذاً الرؤية واضحة؛ فمن ناحية أنا معجب بالكتاب وقوة البحث والتدقيق التي "أشتغل" عليها الزميل المؤلف، ومن ناحية أخرى لست طرفاً مباشراً في المفرقعات الصحافية والإلكترونية التي تنشط في مهاجمة الكتاب والكاتب، بحق أو بدون حق؛ وهذا ما يعطيني – حسب ما أظن- مكانة المراقب المحايد، الذي يرصد، ثم يسأل، علّه يجد إجابة، ويكشف ثم يوضح، عله يزيل سوء فهم، أو سوء علم.
وأستميح الأستاذ العزيز عذراً في أن أبدي رأيي في الكتاب، من مرصد محايد وبعيد عن صخب الساحة المحلية ولعبها وألاعيبها، ودافعي إلى ذلك هو أنه أعطى لنفسه الحق في إنتقاد ثلاثين سنة من تاريخ البلاد ونجوم مراحل حراكها التاريخي – وهذا حقه المشروع كباحث ومهتم- بينما يتحدد دوري في إنتقاد فصل واحد أحسب أنني وثيق الصلة به منذ مطلع العمر، ونعومة الأظافر، وفيها سنين عمري المهني الذي يقارب عمر الأستاذ العزيز في المهنة، رغم فارق العمر الذي بيننا، والأعمار بيد الله سبحانه!
الفصل الذي يعنيني هو الفصل السادس الذي يتعلق بالإعلام والإعلاميين في السعودية وكان عنوانه "العقل الإعلامي".
وقبل أن أعود إليه أريد أبدأ بالقصة المثيرة التي أستوقفتني، وهي "الحملة" التي قُصف بها الشرع حينما كان الخلاف السعودي – السوري في أعنف مراحله. و أحب أن أذكر الأستاذ العزيز بأن "إيلاف" نفسها هي أول من وصف الأمر بأنه "حملة". قالتها دون عنترية زائدة، أو مزايدة على الحياد. قالتها في حينها، وهي تعرف أنها جريدة دولية لها قيمتها، وحقوقها المهنية، بعيداً عن قناعاتها، وعلاقاتها. قالتها ولم تنتظر سنوات كما فعل الأستاذ الصديق الفاضل.
بالنسبة لي أعتبر أن القضية أكبر من كونها سؤالاً أكانت "حملة" أم لم تكن، أو "توجيها" أم لم يكن.
إنها مسألة مبدأ، وإقتناع، ودور.
كانت حادثة الشرع تطاولا مستفزاً على المملكة فاق قدرتي على الإحتمال. إنه ليس كاتباً، وليس موظفاً، وليس صحافياً مقرباً من السلطة، بل كان نائباً للرئيس، يملك البلاد والعباد، ويسيّر سياستها كما يشاء. قال الشرع حينها كلاماً كبيراً لا يمكن وصفه بغير أنه "إعلان حرب" على السعودية.
وماذا يفعل المواطن السعودي في هذه الحالة؟ هل يسكت؟ أم ينتظر؟
ولقد قررت أن لا أسكت، ولا أنتظر.
وأستأذن الأستاذ العزيز في أن أعود به سنوات للوراء، للحاق بقصة صغيرة، أريدها أن تكون بمثابة تعويذة للنفس وإراحة للضمير ..
حاول تشرشل في الحرب العالمية الثانية عدة مرات أن يجبر "بي.بي.سي" على إذاعة خطبه، وإعطاءها مساحة أكبر من غيرها، وحاول إقناعها بأن تهاجم النازي، وحاول وحاول وحاول، فقبلت أن تفعل القليل مما هو في حدود مهنيتها، ورفضت الكثير مما يتجاوز دورها واستقلاليتها.
وظلت على هذه الحال أياماً وأياماً تغلق الأبواب والنوافذ ومخارج الطوارئ في وجه رئيس الوزراء المقاتل، لدرجة أن تشرشل قرر أن يوزع خطبه بنفسه كي تصل إلى الناس، وإلى ما هو أبعد منهم، هناك خلف المحيط، إلى أميركا المترددة التي كانت تعتقد أن البحر هو السياج الآمن الذي سيحميها من جنون النازي وطموحاته.
ومضت المعركة الجانبية على هذه الحال بين رئيس وزراء دولة يقاتل على الحدود، وبين مؤسسة إعلامية تقاتل للحفاظ على حيادها.
ولكن حينما بدأت قذائف النازي تلمع في سماء لندن، ومدافعها تهدم أعز ما تملكه الإمبراطورية، من أحلام وذكريات ومجد، قررت "بي.بي.سي" أن تلبس ملابسها العسكرية، وتنظم إلى رئيس وزراء آمن بالحرب ليصنع السلام.
هذه قصة مؤسسة إعلامية هي المبتدأ والخبر في دنيا الاعلام أنتقلت من الحياد إلى القتال لأن الواجب أستدعى، ولأن الدور ليس وسام شرف بقدر ما هو إلتزام ومبدأ وفعل.
وقصتي تشبهها.
كنت مراقباً لكل تفاصيل الخلاف، وكان في ظني أنه أختلاف في وجهات النظر، يمكن أن يحل بالوقت، والبحث، والتفاوض. بيد أن تسلسل الأحداث فيما بعد كشف إلى أي حد كنت مخطئاً، وكم كنت بعيداً عن جادة الصواب. لقد شعرت بأن كلام الشرع كان مثل صواريخ النازي ومدافعه التي أزعجت لندن الحالمة، ووافق الهواء الأشرعة فمضت السفينة، ولا يمكن محاسبة السفينة على رأيها، إلا إن عبرت البحر مرغمة والسياط تجلدها على الظهر، واليد، والرقبة !
وأظن أن فهم الأستاذ الفاضل يكفي ويزيد.
لم أذهب مع ما ذهب إليه كثيرون بأن كتاب الصديق الخضر هو "فك أرتباط" من جانب واحد عن الدولة وسياستها وواجبها تجاهها، فهذه مبالغة لا تليق.
ولست مع الذين قالوا أن الصديق بلغ درجة الحياد، لأن ذلك إدعاء فضيلة بعيدة المنال.
وأحاول أن أشرح للسيد العزيز أن الموجه في "الحملة" – على حد تعبيره – ضد الشرع لم يكن السلطة بقدر ما كان "الجو" أو "الرأي العام" أو "صوت المجالس" المحلية. تلك هي المؤثرات الحقيقية ودافعي إلى الكتابة، وبعد ذلك تأتي المؤثرات الأخرى.
إنني أعترف للزميل العزيز، وهو سبق له أن رأس صحيفة "المحايد" ومجلة "المجلة"، بأن "الموجات" التي نشاهدها من وقت لآخر في الصحافة السعودية هي أكبر خطر يتهدد المهنة وأهلها؛ بل إنها تُفسد القضية حتى وإن كانت نبيلة، لأن القارئ يشعر أن "ماكينة السلطة" كلها تتحرك ضد شخص بعينه – وهذا شعور ليس في محله غالباً- وبدوافع النفس الإنسانية وغريزتها فإن الناس تميل للطرف الأضعف، فما بالك إن رسخت هذه الحملات في ذهنه صورة أن الطرف المضاد هو الحكومة أو الدولة.
وهذا لا يمنعني من مصادرة حق أي جهاز رسمي في أن يستخدم كل أسلحته في مواجهة طرف خارجي، لأن ذلك حقه الذي لا يحق لأحد منازعته فيه.
..... ( ولا أخفي أنني أشعر بإحتقار شديد تجاه أي طرف يحرّض الدولة ضد طرف آخر، لأن ذلك دليل ضعف لا دليل قوة، ودليل على إنعدام القدرة على الحوار والإقناع، مما يستدعي الإستقواء بسلطة أعلى.
وعلينا الإعتراف أن كل التيارات فعلتها حينما أتيحت لها الفرصة، ولم يتعفف سوى القلة.
وأقول آسفاً إن صحافتنا أصبحت مسرح تحريض كبير. لم يعد همنا تصحيح الأخطاء بقدر ما يهمنا التحريض ضد بعضنا الآخر، دون أن نتذكر أننا شركاء في الوطن ومصلحته، لا مصالحنا الشخصية، وأطماعنا).
أعود إلى الكتاب مرة أخرى - بعد أن أنهيت ما يخصني - وتحديداً إلى أحد أقسام الفصل السادس والمعنون بـ"الكتاب العرب والسعودية".
إنني أعتب على الصديق الأستاذ أن يبدأ هذا الفصل بإستشهاده بمقولة للكاتب أسعد أبو خليل جاء فيها أن "صحافيي اليوم لا يمكنهم إنتقاد السعودية" لأنهم لن يجدوا مكاناً يعملون فيه. وأبو خليل يصف نفسه بأنه أستاذ في جامعة كالفورنيا. وأبو خليل، الذي يمكن أن أصفه بأنه أستاذ في جامعة الجهل، كتب مقالة في صحيفة الأخبار اللبنانية عن الأمير بندر بن سلطان يمكن أن تكون المقياس لفكر الرجل، وثقافته، ومنطقه.
وبعيداً عن اللمسة الهوليودية في تلك المقالة لفتتني قصة الجهل المطبق حينما هاجم الصحافي الكبير بوب وودورد قائلاً إنه لا يملك مصادر صحافية في واشنطن. هكذا بجرة قلم قرر الأستاذ أسعد أن الصحافي الذي كشف "ووترغيت" وأسقط رئيسا أميركياً ليس لديه مصادر.!
وهل يمكن لباحث جاد أن يبدأ إحدى فصول كتابه لشخص كهذا؟
إنني أعتب على الأستاذ الفاضل أن يروج لما قاله رياض الريس عن قصة العرض الذي تلقته صحيفة "النهار" لطباعة "الشرق الأوسط" مدعياً أن الشرط الوحيد لتلك الصفقة هو أن يتوقف الريس عن الكتابه فيها لأنه كان دائم الإنتقاد للسياسة السعودية.
وهذا إدعاء بطولة زائد لا يقبله العقل ولا المنطق. وقد كنت حاضراً مع طرفي القضية وهم الأستاذان غسان تويني وعثمان العمير، وطرح ضمن ما طرح في تلك الجلسة المفتوحة مع عدد من الزملاء قصة إدعاء الأستاذ الريس وقصة الصفقة إياها، فقال تويني أن العقد كان عقداً تجارياً لم يحتو على أي بند سياسي.
(رياض الريّس للأسف واحدٌ من إشكالات المرحلة المهنية بل من صورها القبيحة. رأيته في إحدى دورات معرض الرياض الدولي للكتاب وفي يديه من المال السعودي نقداً ما لم أره بعيني طوال حياتي، وأضع هنا نقطة آخر السطر وأتوقف، لأنني لا أريد أن أفتح صفحات مدعي النزاهة في العالم العربي، فهم كثر ولا أفكر في إضاعة الوقت بهم).
واعتذر انني سرقت وقت القارئ، لكن كانت لدي تعليقات أحببت أن أطرحها في العلن دون أن أتناسى أن الكتاب مرجع مهم لكل باحث يريد الكتابة عن الشأن السعودي.
وبعد كل هذا الحديث أتمنى أن أكون قد أوضحت الصورة، وأخرجت بعضاً من الماء الذي كان في فمي !
التعليقات (0)