مناهج الاستشراق والمستشرقين في دراسة التاريخ والحضارة الإسلامية
الدكتور مفيد الزيدي- جمهورية العراق
إن الاستشراق هو مظهر من مظاهر صلة الغرب بالشرق, وهو نتاج لهذه الصلة وتنبعث عنه حقيقتان, الأولى أن تنوع صلات الغرب بالشرق قد فرض بدوره تنوع الاستشراق فأصبح لدينا استشراقاً سياسياً يعبر عن مصالح الغرب السياسية والاستعمارية, واستشراقاً دينياً يترجم دوافع التبشير, واستشراقاً أدبياً يستلهم فيه بعض الأدباء سحر الشرق وغرابته, واستشراقاً أكاديمياً جعل المعرفة همه الأساس , ولذلك فإن دراسة الإستشراق تتطلب من الدارس أو الباحث أن يضع نصب عينه هذه الحقيقة(1).
أما الحقيقة الثانية, فإن الموقف من الغرب قد خلق أنماطاً متباينة من نقد الاستشراق, فالموقف من الاستشراق الذي يحدده (بالطبع) موقف صاحبه أي الغرب, فبقدر تنوع الصلات والمواقف من الغرب تنوعت المواقف من الاستشراق, وتشكلت مدارس ومناهج بالغة الاختلاف إلى حد كبير في نقدها للاستشراق, فمنها ما له منظور ديني وآخر قومي, وثالث ماركسي, وأضاف إدوارد سعيد إنجازه الكبير في كتابة عن الاستشراق الذي وظف مقولات المدرسة البنيوية في نقده للاستشراق.
إن السير تحت راية هذا المنهج أو ذاك يحدده الهدف أو الغاية من العمل بقدر ما يحدده انتماء صاحبه لهذا الاتجاه أو سواه, والباحث الذي كانت له اسهامات سابقة في نقده للاستشراق انطلاقاً من رؤية دينية أو قومية تملي عليه المقام الأول أن ينشد وهو يعمل عمل أكاديمي أن تكون وجهته أكاديمية قدر الإمكان حسب معرفته وخبرته, ومحاولة إيقاف عواطفه وانفعالاته, ولكن لا تعني إغفال الثوابت الإسلامية والحقائق التاريخية التي لا يرقى إليها الشك.
إن أبرز نموذج لدراسة الاستشراق الأوروبي هو الاستشراق الإنجليزي لكونه الأقدم والأعرق والأكثر إنجازاً والأكبر حجماً في مجال ظهور المستشرقين.
وقد تنوعت أنماط ومناهج الاستشراق الديني, وأهم المستشرقين فيه هم يوحنا الدمشقي (680-750م) بطرس المبجل (1092-1156م) ريموند لول (1235-1316م) في فترة العصور الوسطى, وكل واحد منهم يمثل مرحلة مهمة على صعيد دراسة الشرق والإسلام بدأت مع الأول الذي دخل في مجادلات مع المسلمين, أما الثاني فقد أنجزت تحت رعايته أول ترجمة لاتينية للقرآن الكريم عام 1143م في دير كلوني في جنوب فرنسا, وارتبط الثالث بإقرار مجمع فينا الكنسي إنشاء كراسي لدراسة اللغة العربية في كل من باريس وبولونيا في عام 1312م, والهدف المشترك بين جهود الرجال الثلاثة هو دراسة الإسلام بهدف محاولة نشر النصرانية, وإنكار الرسالة المحمدية.
ثم أعقبته دعوات أخرى في الاتجاه نفسه مثل كتابات همفري بريدو (1648-1724م) وسيمون اوكلي (1648-1720), ثم تبعه في القرن التاسع عشر حيث شهدت بريطانيا المزيد من السيطرة الاستعمارية على الأراضي الإسلامية, وتجلت الفرصة سانحة أمام المبشرين لينقضوا على البناء الإسلامي وأبرز المستشرقين الويز شبنكلر (1813-1893), ووليم ميور (1819-1900), وكتب آخرون ماركو ليوث (1858-1940) ودنكان مكدونالد (1863-1942) وأبرزت مجلة طٌُْل تحت إشراف صموئيل زويمر منذ عام 1911 حيث طغت عليها فكرة أن الإسلام بات يلفظ أنفاسه الأخيرة(2).
وشهد القرن التاسع عشر اهتماماً أوروبياً بالشرق, وأسماء معروفة في دراسة الشرق ولغاته وحضارته بفعل دوافع سياسية مثل هنري بالمر وريتشارد بيرتن وتشالز دوتي والأول (1840-1883) درس الجغرافية والطبيعة البشرية لصحراء سيناء بعد احتلال إنكلترا لمصر عام ,1882 وظهرت دراسات جغرافية مثل دراسة كتشنر, وكلود كوندر, وكي لسترينج, وريتشارد بيرتن (1821-1890) له مصالح تجسدت عبر بلاده في مناطق الوطن العربي وخاصة الجزيرة العربية, وعمل ضابطاً عسكرياً في الهند, ثم عمل في خدمة بلاده في مصر, وقام برحلات في الجزيرة ونشر وصفاً لها في كتابة (الحج إلى المدينة ومكة) أما دوتي (1843-1926) فقد درس الجغرافية الخاصة بشبه الجزيرة العربية من خلال رحلاته, ونشر بعد عودته إلى إنجلترا كتابة (رحلات الجزيرة العربية) معلومات تفصيلية عن مناطق لم يعرفها الإنجليز.
أما ديفيد هوكارث (1862-1927) فكان أميناً لمتحف أكسفورد, وعمل في الحرب العالمية الأولى في السياسية البريطانية في المنطقة العربية وتولى رئاسة (المكتب العربي) في القاهرة وأدى دوراً كبيراً في التنسيق بين القوات العربية والإنجليزية في الثورة العربية الكبرى عام ,1916 ووضع كتابة (اختراق الجزيرة العربية) وهو دليل مهم للسلطات الإنجليزية في معرفة المنطقة.
إن هذا النوع من الاستشراق وجهود المستشرقين جاء تعبيراً واضحاً عن الاستشراق السياسي الإنجليزي مع كتابات كبار الإداريين البريطانيين الذين سجلوا فيها تجاربهم في حكم المستعمرات البريطانية ومنها العربية والإسلامية مثل اللورد كيرزون, واللورد كرومر, وارنولد ويلسن, وكلهم عملوا تحت راية مؤسسة مهمة هي في (الجمعية الآسيوية الملكية لآسيا الصغرى)(3).
أما المنهج الآخر فهو الاستشراق الأدبي, وجذوره في المؤثرات الشرقية في كتابات البريطانيين, والأدب الإنجليزي في حكايات كانتربري, ومسرحيات العصر الإليزابيثي, و(عطيل) لشكسبير, وهو استشراق أدبي خالص, ومارلوا في مسرحية (تيمور لنك) ثم ازدادت في الحركة الأدبية الإنجليزية في الحركة الرومانتيكية إبان القرن الثامن عشر, وأدت ترجمات ألف ليلة وليلة والحكايات الشرقية أثرها في الأدب والرواية والإنجليزية, ونقل الروائي الإنجليزي السير والتر سكوت وروايته الشهيرة (الطلسم) ثم أثر المعلقات والشعر العربي حيث ترجمت إلى الإنحليزية على أيدي المستشرقين مثل وليم جونز, ثم أعادها ويلفرد بلنت ونظمتها زوجته الليدي إن بلنت, وترجمة رباعيات الخيام لإدوارد فيتر جيرالد في الآثار الخالدة في الأدب الإنجليزي.
أما الاستشراق الأكاديمي فهو المنهج الأرصن والأهم, وكل الأنماط السابقة والمناهج إنما ترجع في نشأتها إليه, فغالباً ما يتلقى المستشرق السياسي أو الديني وإلى حد ما الأدبي عملية إعداد تمهيدية أساسية على أيدي نظيرهم الأكاديمي مثل بالمر أستاذ العربية في جامعة كبمردج (1871-1882) وهو كارث وماركوليوث وغيرهم, ويعود الاستشراق الأكاديمي إلى عام 1632 عندما قدم الإنجليزي ورئيس بلدية لندن لاحقاً توماس ادامز منحة مالية إلى جامعة كمبردج لتأسيس كرسي للعربية فيها. ثم بعد أربع سنوات وليم لود رئيس أساقفة كانتريري حذا حذو آدمز حينما قدم منحة مماثلة لإقامة منحة مماثلة لإقامة كرسي للعربية في أكسفورد, ومنها تعاقب أساتذة العربية في كمبردج واكسفورد حتى الوقت الحاضر(4).
وأول من شغل كرسي كمبردج هو إبراهيم ويلوك ولكن كان عمله متواضعاً في مجال البحث, أما بوكوك (1604-1691) فقد درس تاريخ العربية في انجلترا وخلال القرن السابع عشر, وكان عمله غزيراً لمعرفته بالعربية والتأليف ونشر لامية العجم للطغرائي, ومختصر تاريخ الدول لابن العبري وغيرها.
ثم خلفه ادموند كاستل (1606-1685) وكان أكثر نشاطاً من سابقيه وألف قاموساً مشتركاً لعدد من اللغات الشرقية, وظل يعمل ثمانية عشر عاما من العمل المضني, وكتب عام 1655 (مقدمة لقراءة اللغات الشرقية) وهو قواعد لدراسة اللغات الشرقية.
وظهر في القرن التاسع عشر في عالم الاستشراق الإنجليزي أسماء كبيرة مثل ادوار لين, ووليم رايت, وانطوني بيفان, والأول كتب كتابة الشهير (طبائع المصريين وعاداتهم وشمائلهم في العصر الحديث) وصف مصر بالاعتماد على ملاحظة المهمة ورحلاته 1833-1834,1834-,1835 وله القاموس العربي -الإنجلزي مكث سبعة وعشرين عاماً في إعداده واستند فيه على تاج العروس للزبيدي«.
أما رايت (1840-1889) فقد درس في الجامعات الإنجليزية في ليون على أيدي رينهارت دوزي, ثم أصبح أستاذاً للعربية في لندن, ودبلن, ثم أستاذ كرسي توماس آدمز في كمبردج, ونشر نصوصاً عربية مثل الكامل في اللغة والأدب للمبرد, ونفخ الطيب للمقري, وترجمة رحلة ابن جبير إلى الإنجليزية وكتابة النحو العربي(5).
أما انطوني بيفان (1859-1933) فقد درس العبرية ثم اللغات السامية في ترنتي في كمبردج, وعام 1893 أصبح أستاذ كرسي اللورد مونير وبقي حتى وفاته حيث درس التاريخ العربي القديم.
إن أهم سمات النشاط الأكاديمي الاستشراقي الاهتمام باللغة العربية أو أحد أهم السمات اللغات السامية, وتعمق مع حركة النقد للنصوص في العهد القديم خلال القرن التاسع عشر, وأن الكتاب المقدس وكأنه وثيقة تاريخية يجب أن تخضع للنقد والتحليل. ولم يصبح للدراسات الإنسانية حقل خاص به إلا في مطلع القرن العشرين على أيدي المستشرق الألماني كارل هاينريش وبيكر والهولندي ستوك هور خروينة والنمساوي اكناس كولد زيهر(6).
وظهر ماركو ليوث كمستشرق ديني وسياسي, ثم إدوارد كرانفيل ثم رينولا ألن ينلكسون (1868-1945) وتم دراسة قضايا التصوف ودراسة خصائصه الإسلامية وكتبت عن التصوف ترجمات لابن عربي, والعطار وجلال الدين الرومي(7).
وهكذا فإن مجالات ومناهج الاستشراق والمستشرقين تجعل أمام الباحث العربي أو الإسلامي ضرورة التسلح بالمعرفة التاريخية والخبرة الأكاديمية لكي يدرس بدراية ووعي وعمق مناهج المستشرقين والتعامل مع الأكاديميين منهم لكي يكون أكثر موضوعية وقدرة, ولذلك يخضع الآن تعريف أكثر عمقاً وعلمية للمستشرق فهو من تعلم العربية, ودرس الشرق وتخرج من جامعة أكاديمية حين ذاك يصبح في مصاف المستشرقين الأكاديميين الذين يمكن التعامل معهم فكرياً ودراستهم علمياً والرد عليهم أكاديمياً.
هوامش :
1- بالنظر للتفاصيل الدراسية القيمة للدكتور ناصر عبد الرزاق ملا جاسم الموسومة: المستشرق هاملتن أ.د. كتب دراسة نقدية لتطور مواقفه من التاريخ والحضارة العربية الإسلامية, رسالة الدكتوراه, جامعة الموصل .1998
2 - اربري, المستشرقون البريطانيون, لندن, .1946
3 - واشنجتن ارفنخ, حياة محمد, مصر, .1960
4 - ميشال جحا, الدراسات العربية الإسلامية في أوروبا, بيروت, .1986
5 - جب, الاتجاهات الحديثة في الإسلام, بيروت, .1986
6 - إدوارد سعيد, الاستشراق, المعرفة, السلطة, الإنشاء, بيروت .1981
7 - نجيب العقيقي, المستشرقون, القاهرة, .1964الدكتور مفيد الزيدي
http://www.ju.edu.jo/old_publication/cultural64/oriantalisim.htm
التعليقات (0)