مملكة دقـلــو القــادمـة بقــوة
مصعب المشرّف
16 يونيو 2019م
في لقاء أجرته معه صحيفة نيويورك تايمز كشف حميدتي عن خبايا ما يجول بصدره ، وواقع أنه في طريقه إلى حكم السودان من منظور أنه الوحيد القادر على فرض الحل. وتجنيب البلاد مسالك الرمال المتحركة ؛ وإنزلاقات الفوضى والتفكك.
من حق حميدتي وغير حميدتي أن يفكر كما يشاء . فلا حجر على التفكير سواء أكان في صخب المدن أو براحات الخلاء ..... ولكن حين يخرج التفكير إلى حيز التنفيذ فينبغي التوقف والبحث.....
دونا عن غيره في المجلس العسكري الإنتقالي وعلى الرغم من أميته ؛ يبدو حميدتي هو الوحيد الذي يمتلك رؤيا واضحة وخارطة طريق ... وأنه ربما لإلتصاقه الطويل بأرض الواقع المعاش ومعاشرة مختلف الناس ؛ قد فهم أن فرض الحلول السياسية في دولة متخلفة كان حاميها حراميها وحاشيته أفاقين ومنافقين وقرود. إنما يعتمد هذا الحل على قوة السلاح والبطش والقمع والجبروت.
منذ البدايات كان الذي يتتبع حميدتي ؛ يلاحظ أنه كأنّـما رسم لمصلحته سيناربو المشهد برمّتِهِ .....
إن كل من يبعد عن نفسه الهواجس والتفكير في ماضي وحاضر ومستقبل حميدتي وتقدمه المضطرد كالرمح الملتهب ؛ ليس سوى حالم يهرب من التفكير في الآت. وصدى الصرخات والأنين في نفق الجحيم ونيران الحُطمة المُوصدة..
إستطاع حميدتي إقناع البشير المرتعش ، بأن تواجده وقوات الدعم السريع في حاميات ومعسكرات قريبة من الخرطوم ، هي الضمانة الوحيدة لحمايته من كيد أعدائه وخصومه .. ووسيلة غايته الإستمرار في الحكم ، وعدم تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية.
إستطاع حميدتي أن يقنع البشير بإفراد بند مالي في الميزانية العامة خاص بقوات الدعم السريع من الرصاصة إلى المدرعة والدوشكا ويشمل ذلك الرواتب الحوافز والمكافآت .. إلخز وتوزيع ومنح الرتب العسكرية كيفما شاء.
إستطاع حميدتي أن يقنع البشير بضم قوات الجنجويد إلى الجيش. وبما مكنه وأركان مليشياته هذه من التموضع داخل مفاصل القوات المسلحة. والدخول والخروج من ثكناتها وحامياتها وقيادتها العامة كما يحلو لهم ويشاءوا.
ثم سرعان ما أقنع حميدتي البرهان بضم جهاز الأمن هو الأخر إلى القوات المسلحة . وبما أدى إلى دخول الجميع اليوم داخل قفص حميدتي الحديدي.
وكأنِّي بحميدتي قد قرأ لسلاطين كتاب "السيف والنار" فحفظه رأسا على عقب وأدرك أهمية المال السائل في شراء الذمم ، والحفاظ على ولاء الجنود ، وشراء تأييد ومناصرة زعماء وشيوخ القبائل في المناطق التي لا تزال تتحكم فيها هذه النزعات القبيلية .. وكذلك نراه اليوم بعد حصوله على منصب نائب رئيس المجلس العسكري الانتقالي يزور السجون ويطلق السراح ويظهر بملامح وقسمات الرجل الطيب البريء .... ويعلن عن خمسين ألف وظيفة جديدة للشباب ..... ويدفع بقوة نحو تكريس القبلية (رديفة الملوك) وإعادتها إلى المشهد الإجتماعي والسياسي. فسجل في هذا الحرك زيارة إلى رفاعة الهوي جنوب شرق النيل الأزرق وتالية إلى قـرّي شمال بحري... كما إستقبل وفودا من زعماء وشيوخ قبائل دارفور ، ونثر فوقهم جميعا الأموال والذهب الفضة . والهدايا والعطايا عرابين ورمي بياض وفتح شهية.
الطريف أن حميدتي بلغ به الذكاء والدهاء أيما مبلغ لجهة توريط الغير والتخلص من المساءلة كالشعرة من العجين .... وأدهشني أنه وبعد مشاركته الجوهرية الفاعلة بنسبة 99% في فض إعتصام القيادة بالعنف المفرط. وتحويلها إلى مجزرة العصر .... أدهشني أنه سارع بالغياب والإختفاء عن المسرح تماماً ولمدة أسبوعين تقريبا . وترك رئيسه البرهان والمتحدث الرسمي الكباشي ، وبقية أعضاء المجلس العسكري يواجهون وحدهم لعنات وحسبنات الجماهير ، وهيجان الرأي العام الأفريقي والعالمي .... ولم يتوقف الأمر بتورطهم هذا إلى هذا الحد . بل تعداه إلى إضطرارهم الكذب والفبركة لأجله ؛ والإتيان في ذلك بما لم يأتيان به الكذّاب الأشـر ، وأشقى قوم النبي صالح.
وربما لم يلاحظ البعض أن حميدتي وخلال فترة إنسحابه الناعم ؛ وسكونه كالأفعى اللادغة بعد مجزرة فض الإعتصام .. لم يلاحظوا أنه ظل يمارس أسلوب ماهر البلاي إستيشن في توريط باقي زملائه الحيارى والمغلوب على أمرهم في المجلس العسكري . ويتمثل ذلك في دفعهم إلى الواجهة والأضواء . وجعل تصرفات وإعتداءات الجنجويد على المواطنين في الشارع وإستباحتهم العاصمة والأحياء بعد مجزرة القيادة ... جعل تصرفاتهم تلك وكأنها إمتداد طبيعي مباشر ونتاج لخطاب البرهان بقف التفاوض والإعلان عن إنتخابات رئاسية .. وبحيث أعطى الإنطباع للعموم بأن البرهان يسعى لترشيح نفسه للرئاسة وطامع فيها .. وأن هؤلاء الجنجويد إنما يطبقون على الأرض شرائع البرهان والكباشي وليس حميدتي.
بعد المجزرة ؛ حشرت قوى الحرية والتغيير نفسها في خانة الأم الثكلى والأب المفجوع والأخت النائحة والأخ المضعضع في بيت البكاء المكسور وصيوان العزاء. ولم يعد لديها من جملة تددها سوى المطالبة برؤوس الجناة .... فمن أين يأتي لهم المجلس العسكري برؤوس المجلس العسكري .. ومن أين يأتي لهم المجلس العسكري برؤوس أولئك الشركاء في إجتماع الغرفة المغلقة؟
قوى الحرية والتغيير يبدون منهكين حيارى يلعقون جراحهم ؛ وقد أذهلتهم مجزرة فض الإعتصام على حين غِـرّة .. الإعتصام الذي بنوا عليه إستراتيجيتهم ومسار خططهم ، وتلكؤهم وبطء حركتهم ؛ وتعنت بعضهم طوال الفترة الماضية منذ 6 أبريل إلى 3 يونيو ..
واليوم . في الوقت الذي نفض فيه البرهان وحميدتي عن أنفسهما غبار وحطام المجزرة . فسافر ذاك إلى أسمرا وخرج هذا على أهلنا والقبائل في منطقة قـرّي بمعترك جديد ولغة عمل مشترك مدّ فيها يده إلى المجتمع يصافحه بحرارة ..... نرى اليوم قوى الحرية والتغيير لا تزال غارقة في حزنها الغير منتج . وفضلا عن ذلك يتلاومون ويتخاصمون بين بعضهم تخاصم أهل النار فيما لا طائل من ورائه.
إن المطلوب اليوم من قوى الحرية والتغيير العودة إلى قواعدها وتحريك الجماهير وتحفيزها للعودة إلى الشارع إن كانوا يريدون لهذه الثورة أن تستمر.
وليتهم لا يتوقفون عند فاكهة الوساطة الأثيوبية ..... وليتهم يتعلموا من حميدتي كيفية قراءة الواقع والتخطيط بكيد ، والبيان بالعمل .... والطرق على الحديد وهو ساخن.
وربما يتساءل البعض الآن .. من هو المستفيد الحقيقي من كل ذلك ؟
لا مستفيد في الواقع سوى حميدتي .... وهو الوحيد الذي إنفصل عن بقية الفرقاء والكسالى والبلهاء ..... وجعل لنفسه مساراً سالكا خاصا به في مضمار المتسابقان الأرنب والسلحفاة.
الآن ماذا تبقى من خطة حميدتي للوصول إلى كرسي رئاسة السودان؟
سيذهب حميدتي إلى الضغط على المجلس العسكري (وهو يستطيع) للمسارعة بتشكيل حكومة تكنوقراط يسميها كفاءات . وسيحرص أن لا يدخل ضمن مكوناتها شخص له قاعدة حزبية أو شعبية تسنده ... وبحيث تكون هذه الحكومة واجهة مدنية من فصيلة الحملان الوديعة ؛ يركب فوق ظهرها حميدتي ، ويقودها لإجراء إنتخابات عامة في البلاد لإنتخاب رئيس للجمهورية . وبالطبع لن يغلب حميدتي في الحصول على تأييد القبائل .... أو ربما تتشابك ظروف طارئة أو من نسج كيد حميدتي (وإن كيده لعظيم) لإفتعال فوضى محدودة أو زوبعة في فنجان . يخرج بعدها حميدتي ويتدخل لحسمها . ثم يحصل على تفويض القبائل ومبايعتهم له رئيسا للبلاد .... ولكن المشكلة أن حميدتي لا يصلح أن يكون وزيراً للدفاع ناهيك أن يصلح رئيسا للجمهورية بمقتضيات هذا العصر العالمي الحديث المعاصر.
إذن ما هو مستقبل حميدتي السياسي لو لم يتم تحييد آلته العسكرية. وإيقاف قاطرته المندفعة إلى الأمام بقوة وعنف وجبروت؟
إن قراءتي لسيرة الملوك وتأسيس الممالك عبر العصور تجعلني أقرب توقعا إلى أن طموح شخصية مثل حميدتي لن تتوقف عند الرئاسة وحدها .... ولكني كلما شاهدته في الفضائيات وعلى وسائل التواصل واقفا يتحدث من رأسه عوضا عن القراءة . ومن خلفه يقف أشقاؤه وأبناء أعمامه وعماته وأخواله وخالاته ونسابته وأصهاره وأدعياؤه .. كلما شاهدت ذلك ؛ غلبني الإحساس بأنه إنما يعد نفسه ليصبح ملكا على السودان بمسمى جديد ...... ويدفعني إلى إعادة قراءة بطاقة رقمي الوطني وجواز سفري وخانة جنسيتي بحرص المُودّع والبصر الحديد ..... وأتساءل هل سيظل مسمى جنسيتي "سوداني" ، أم تتغير إلى "دقلاوي"؟
التعليقات (0)