(قصــــــــــــــــــــة قصيــــــــــــــــــــرة)
مليونيــــــــــــــــــة نابليـــــــــــــــــــون
بقلم / مجدى المصرى
إنتظمت الصفوف للصلاة الجامعة, همهمات يتردد صداها في الميدان الفسيح قطعها صوت الشيخ (مظهر شاهين) عبر مُكبر الصوت من المنصة الرئيسية بالبسملة, ليلف الصمت الرهيب جنبات الميدان, وقبل أن يسترسل, تصاعد وقع سنابك خيل تجلجل حداواها علي الأسفلت قادمة صوب الميدان, فاشرأبت الأعناق وتلفت الشيخ, وإذ بجواد يمتطي صهوته فارس أحمر البشرة يزيدها حماراً زيه الأحمر الزاهي داخل إلى الميدان, إستوقفه الشباب حراس الميدان وسألوه:
- من أنت؟
- ألا تعرفوني يا شعب مصر .. أنا نابليون بونابرت
فانتفض الجمع المليوني كله عازمين على الثأر لدم الشهداء الذين قضوا من طلقات مدافعه, صاح الشيخ في الناس أن يكفوا أيديهم عنه, فقد جاء اليوم بمفرده زائراً وليس غازياً, ومن دخل مصر بسلام فهو آمن, هكذا علمنا الإسلام.
طلب منه الشيخ الانتظار وزيارة المتحف المصري حتى الانتهاء من الصلاة الجامعة, ثم ألقى خطبة الجمعة في عُجالة, وكان موضوعها (وحدة المصريين) هي ما أدى إلى النصر ودحر الغُزاة الفرنسيس عندما أرادوا بمصر سوءاً.
عقب الإنتهاء من الصلاة, دعا الشيخ نابليون لاعتلاء المنصة والتحدث إلى المصريين, فسأل نابليون أول ما سأل عن حجر رشيد, ولماذا لم يضعه المصريون في متحفهم؟
ثم سأل عن عمر مكرم والثوار والشيوخ الأزهريين؟
وانفعل مُحذراً المصريين من المماليك وكيدهم وقال بالحرف:
- لن تتقدم مصر وترتقي إلا بالقضاء نهائياً على فلول المماليك.
حكى نابليون أنه ما أراد بمصر سوءاً, ولكنه قرأ التاريخ المصري كله, وخبر كم تملك مصر من مقومات لتصبح الدولة العظمى الأولى في العالم, ومن العار أن تكون مصر مصراً من أمصار الأتراك, من العار بعد سبعة آلاف عام أن يتحكم في مصائر هذا الشعب العظيم مجموعة مماليك كانوا في السابق بضاعة أسواق النخاسة.
وأردف نابليون: وجدت شعب مصر خانع خاضع ذليل, يوحي لهم الترك بأن طاعتهم من طاعة الله ويعيث في جنباتهم المماليك فساداً.
- كيف وأنتم خير أجناد الأرض؟
كيف تستسيغوا الذل والهوان؟
لماذا قبلتم أن يُفكر غيركم لكم؟
كيف قبلت أدمغتكم وإقتنعت بأن يستعبدكم حاكم بالوكالة عن الله؟
شعب مصر لم أأتكم غازيا, وهل يأتي الغازي وبمعيته جيش من العلماء؟
جئتكم بالحداثة والتنوير, ألا تذكرون يوم شاهدتم مدافعي وهي تطلق قذائفها فظننتم أنها من شاطين الجن؟
ألا تذكرون المطبعة التي حملتها معي لأجعل القراءة للجميع, وليس لمن لديه القدرة علي إكتراء النُساخ.
هل نسيتم علمائي النوابغ الذين فكوا لكم الغاز الكتابة الهيروغليفية, وكشفوا لكم سبل أغوار حضارتكم؟
حملت لكم مشروع حضاري, يحدوني حلم أن أقود جيشاً من المصريين أفتح به العالم كله, كما حلم الإسكندر, أن أجعل العالم كله دولة واحدة مفتوحة الحدود, ولكن الإنجليز عدوي اللدود لم يمكننوني من حلمي.
وقاطعه الشيخ:
- ألا تعلم نابليون أن مصر مقبرة الغزاة؟
- أعلم جيدا .. لذلك تقربت منكم, وتوددت لكم, وشاركتكم أعيادكم, وحضرت موالدكم وطاردت مماليككم في البراري والوديان.
- حتى لو كنت تحمل حلماً حداثياً تنويرياً, فلا مكان للفرنجة بيننا
- نعم عرفت هذا, دعونا من الماضي, أنا الآن جئتكم سائحا فما رأيكم؟
- الآن يدور لغط بشأن السياحة, حلال هي أم حرام؟
- آآآآآآه .. اللغط عندما يتملك شعب, حذاري حتى لا تشتروا يوماً صكوك الغفران!
ولكن لماذا تتجمعون اليوم في الميدان؟
- إنها مليونية من أجل إستعادة روح الثورة.
- وهل سُلبت منكم ثورة؟
- لا .. لقد خرجنا كلنا, كل أطياف الشعب وفئاته, ولم يتخلف أحد في ثورة أطاحت بالحاكم.
- وماذا بعد؟
- بدأت أطياف الشعب في التفكك عن بعضها, بعد أن كنا يداً واحدة أصبحنا أياد كثيرة بمسميات عديدة كل يبحث عن ذاته ومصلحته, كل له أجندته ومطالبه.
- وأين قائد الثورة ومجلس قيادتها؟
- لا قائد لنا, ولا مجلس قيادة.
- فهمت الآن, دعوني أقول لكم شيئا من خلال معرفتي بطبيعة شعبكم, أنتم لا تتجمعون معا وتصبحون يداً واحدة بحق إلا في مواجهة الغزاة, وهنا لا يكون لكم مطالب شخصية ولا تطلعات فئوية ولا مطامع في الحكم, فقط يجمعكم حب مصر.
والآن أترككم لاستكمال جولتي, فأنا لم آت مصر لأحل مشاكل شعبها, أنا ذاهب لأري رشيد, أستودعكم الله
بعد أسبوعين, إمتلأ الميدان عن بكرة أبيه حتى الشوارع المؤدية إليه امتلأت بأطياف الشعب المصري, لم يتخلف أحد وخطب الشيخ فيهم وقال:
- أيها المصريون أسميناها (مليونية نابليون), نعم مصر اليوم في أشد الاحتياج إلى نابليون, يأتيها غازياً, حتى تتوحد الأمة على حب الوطن, وحتى نتوقف عن المطالبات الفئوية, وعن المطامع الشخصية, اهتفوا معي:
هي لله هي لله, لا للمنصب ولا للجاه.
هي لله هي لله, لا للمنصب ولا للجاه
التعليقات (0)