ملف العولمة و الهوية الثقافية
تقديم عام
لكل عصرٍ مفاهيمه ومصطلحاته ومفرداته، ولكل مرحلةٍ من مراحل التاريخ البشري، اهتماماتها وقضاياهاوانشغالاتها
ومن المفاهيم الجديدة التي تُطرح في هذا العصر، وتحديداً منذ العقد الأخير من القرن الماضي، مفهومُ (العولمة) الذي اقترن ظهورُه بانتهاء الحرب الباردة وابتداء ما يُصطلح عليه بـ (النظام العالمي الجديد) إظافة إلى مفهوم الهوية الثقافية فقد شكلت هذه المفاهيم محورا أساسيا لعدد كبير من الندوات و الملتقيات الفكرية والثقافية وكان الإجماع منعقدا على أن العولمة تمثل تحديا كبيرا في العصر الحالي خاصة بالنسبة للشعوب النامية والإسلامية وهي بذلك من الموضوعات التي تحتاج معالجتها إلى قدر كبير من الفهم لعمقها وجوهرها، والإدراك لبُعدها وغايتها كما اعتبرت قضية الهوية الثافية منذ آلاف السنين وحتى اليوم إشكالية غير قابلة للتجاوز في الوضع البشري مفهوم غامض ومعقد ومتشعب برز محركا للتحرر
محور مفاهيمي
مفهوم العولمة
والعولمة تعني في معناها اللغوي: تعميم الشيء وتوسيع دائرته ليشمل العالم كله
أما اصطلاحا فهي منظومةً من المبادئ السياسية والاقتصادية، ومن المفاهيم الاجتماعية والثقافية، ومن الأنظمة الإعلامية والمعلوماتية، ومن أنماط السلوك ومناهج الحياة، يُراد بها إكراه العالم كلِّه على الاندماج فيها، وتبنّيها، والعمل بها، والعيش في إطارها.، فالعولمة نظام عالمي يعمل على تعميم نمط حضاري يخص بلدا بعينه، هو الولايات المتحدة الأمريكية بالذات، على بلدان العالم أجمع
ولذلك فإن للعولمة وجوهاً متعددة؛ فهي عولمة سياسية، وعولمة اقتصادية، وعولمة ثقافية، وعولمة إعلامية، وعولمة علمية وتكنولوجية. والخطير في الأمر كلِّه، أن لا وجه من هذه الوجوه يستقل بنفسه؛ فعلى سبيل المثال، لا عولمة ثقافية بدون عولمة سياسية واقتصادية تمهد لها السبيل وتفرضها فرضاً بالترهيب والإجبار تارة، وبالترغيب والتمويه، تارة أخرى
العولمة نظام يقفز على الدولة والأمة والوطن. نظام يريد رفع الحواجز والحدود أمام الشبكات والمؤسسات والشركات المتعددة الجنسية، وبالتالي إذابة الدولة الوطنية وجعل دورها يقتصر على القيام بدور الدركي لشبكات الهيمنة العالمية. والعولمة تقوم على الخوصصة، أي على نزع ملكية الوطن والأمة والدولة ونقلها إلى الخواص في الداخل والخارج. وهكذا تتحول الدولة إلى جهاز لا يملك ولا يراقب ولا يوجه. وإضعاف سلطة الدولة والتخفيف من حضورها لفائدة العولمة يؤديان حتما إلى استيقاظ وإيقاظ أطر للانتماء سابقة على الأمة والدولة، أعني القبيلة والطائفة والجهة والتعصب المذهبي الخ… والدفع بها جميعا إلى التقاتل والتناحر والإفناء المتبادل
يجدر بنا التميزبين هذين المصطلحين العولمة شيء و"العالمية" شيء آخر. العالمية تفتح على العالم، على الثقافات الأخرى، واحتفاظ بالاختلاف الثقافي وبالخلاف الإيديولوجي. أما العولمة فهي نفي للآخر وإحلال للاختراق الثقافي محل الصراع الإيديولوجي
مفهوم الهوية
قد أثار مفهوم «الهوية» ء ولا يزال ء جدلاً واسعاً في صفوف المثقفين ليس فقط في ما يختص بتعريف المفهوم، بل حتى في ما يتعلق بوجوده. فقد اعتبر البعض أن تعميق الإحساس بخصوصية كل هوية هو محاولة اختلاق مفاهيم لا وجود لها واستغلال تباين الهويات لإثارة نعرات عدائية في ما بين البشر لتحقيق المصالح
والهوية معناها: تعريف الإنسان نفسه فكرًا وثقافة وأسلوب حياة.. أو هي مجموعة الأوصاف والسلوكيات التي تميز الشخص عن غيره.
وكما أن للإنسان هوية كذلك للمجتمع والأمم هوية.. فهناك مجتمع إسلامي، ومجتمع علماني، وهناك النصراني، وأيضا الشيوعي والرأسمالي.. ولكل منها مميزاتها وقيمها ومبادؤها.
فإذا توافقت هوية الفرد مع هوية مجتمعه كان الأمن والراحة والإحساس بالانتماء، وإذا تصادمت الهويات كانت الأزمة والاغتراب
هذه الهوية هي التي تتبناها النفس، وتعتز بالانتساب إليها، والانتماء لها، والانتصار لها، والموالاة والمعاداة على أساسها، فبها تتحدد شخصية المنتمى وسلوكه، وعلى أساسها يفاضل بين البدائل.
وبالنسبة للمجتمع تعتبر الحصن الذي يتحصن به أبناؤه، والنسيج الضام، والمادة اللاصقة بين لبناته، فإذا فقدت تشتت المجتمع، وتنازعته المنتاقضات.
ولا شك أن مقومات الهوية هي العناصر التي تجتمع عليها الأمة بمختلف أقطارها من وحدة عقيدة، ووحدة تاريخ، ووحدة اللغة، والموقع الجغرافي المتميز المتماسك، وأعظمها لا شك هي العقيدة والتي يمكن أن يذوب فيها بقية العناصر
مفهوم الثقافة
إننا نقصد بـ "الثقافة" هنا: ذلك المركب المتجانس من الذكريات والتصورات والقيم والرموز والتعبيرات والإبداعات والتطلعات التي تحتفظ لجماعة بشرية، تشكل أمة مأو ما في معناها، بهويتها الحضارية، في إطار ما تعرفه من تطورات بفعل ديناميتها الداخلية وقابليتها للتواصل والأخذ والعطاء. وبعبارة أخرى إن الثقافة هي "المعبر الأصيل عن الخصوصية التاريخية لأمة من الأمم، عن نظرة هذه الأمة إلى الكون والحياة والموت والإنسان ومهامه وقدراته وحدوده، وما ينبغي أن يعمل وما لا ينبغي أن يأمل
من خلال هذا التعريف نستشف النتيجة التالية وهي أنه: ليست هناك ثقافة عالمية واحدة، وليس من المحتمل أن توجد في يوم من الأيام ، وإنما وجدت، وتوجد وستوجد، ثقافات متعددة متنوعة تعمل كل منها بصورة تلقائية، أو بتدخل إرادي من أهلها، على الحفاظ على كيانها ومقوماتها الخاصة. من هذه الثقافات ما يميل إلى الانغلاق والانكماش، ومنها ما يسعى إلى الانتشار والتوسع، ومنها ما ينعزل حينا وينتشر حينا آخر
محور علائقي
العلاقة بين الهوية والثقافة
الهوية الثقافية مستويات ثلاثة: فردية، وجمعوية، ووطنية قومية. والعلاقة بين هذه المستويات تتحدد أساسا بنوع "الآخر" الذي تواجهه.
إن الهوية الثقافية كيان يصير، يتطور، وليست معطى جاهزا ونهائيا. هي تصير وتتطور، إما في اتجاه الانكماش وإما في اتجاه الانتشار، وهي تغتني بتجارب أهلها ومعاناتهم، انتصاراتهم وتطلعاتهم، وأيضا باحتكاكها سلبا وإيجابا مع الهويات الثقافية الأخرى التي تدخل معها في تغاير من نوع ما.
وعلى العموم، تتحرك الهوية الثقافية على ثلاثة دوائر متداخلة ذات مركز واحد
:
- فالفرد داخل الجماعة الواحدة، قبيلة كانت أو طائفة أو جماعة مدنية (حزبا أو نقابة الخ…)، هو عبارة عن هوية متميزة ومستقلة. عبارة عن "أنا"، لها "آخر" داخل الجماعة نفسها: "أنا" تضع نفسها في مركز الدائرة عندما تكون في مواجهة مع هذا النوع من "الآخر
".
- والجماعات، داخل الأمة، هي كالأفراد داخل الجماعة، لكل منها ما يميزها داخل الهوية الثقافية المشتركة، ولكل منها "أنا" خاصة بها و"آخر" من خلاله وعبره تتعرف على نفسها بوصفها ليست إياه
.
والشيء نفسه يقال بالنسبة للأمة الواحدة إزاء الأمم الأخرى. غير أنها أكثر تجريدا، وأوسع نطاقا، وأكثر قابلية للتعدد والتنوع والاختلاف
.
هناك إذن ثلاثة مستويات في الهوية الثقافية، لشعب من الشعوب: الهوية الفردية، والهوية الجمعوية، والهوية الوطنية (أو القومية). والعلاقة بين هذه المستويات ليست قارة ولا ثابتة، بل هي في مد وجزر دائمين، يتغير مدى كل منهما اتساعا وضيقا، حسب الظروف وأنواع الصراع واللاصراع، والتضامن واللاتضامن، التي تحركها المصالح: المصالح الفردية والمصالح الجمعوية والمصالح الوطنية والقومية
العلاقة بين الهوية و العولمة
توجد بين مفهومي الهوية والعولمة وشائج علاقات جدلية فريدة من نوعها في طبيعة العلاقة بين المفاهيم والأشياء .إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان في آنٍ واحدٍ . وفي دائرة هذا التجاذب والتقاطب والتكامل ، يأخذ مفهوم الهوية على الغالب " دور الطريدة بينما يأخذ مفهوم العولمة دور الصيّاد "
فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتُجْهز عليها ثم تتغذّى بها ، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان والفناء وتحتدّ في طلب الأمن والأمان ، وتتشبث بالوجود والديمومة والاستمرار .
إن العولمة تعني ذوبان الخصوصية والانتقال من الخاص إلى العام ، ومن الجزئي إلى الكلّي ، ومن المحدود إلى الشامل .وعلى خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية والعمومية ؛ فالهوية انتقال من العام إلى الخاص ، ومن الشامل إلى المحدود ..إذْ تـبحث عن التمايز والتباين والمشخص والمتفرد والمعيّن ..أما العولمة بحثٌ عن العام والشامل واللامتجانس واللامحدود .
قضية العلاقة بين مفهوم الهوية والعولمة طُرحت على أكثر من صعيد ولا تزال تطرح لكونها من أهمّ القضايا وأكثرها صعوبة وتعقيدا وأقربها حضورا في عمق الجدل الدائر ليس لدى النخبة الثقافية والسياسية فحسب ، بل حتى لدى العديد من الناس العاديين ، ذلك أن انعكاساتها الفكرية والمعنوية ونتاجاتها المادية اقتحمت كل مجالات الحياة
العلاقة بين العولمة والثقافة.
تعمل العولمة على اغتصاب ثقافي وعدواني رمزي على سائر الثقافات، أنها بذلك رديف الاختراق الذي يهدد بالعنف السيادة الثقافية في سائر المجتمعات التي تطالها تلك العولمة وذلك لم تكن الثقافة المكتوبة هي ثقافة العولمة بل ثقافة ما بعد المكتوب أو ثقافة السمعيء البصري، بكل وسائطها وأدواتها التي تحطم الحجز اللغوي وتصل إلى الناس في عقر دراهم متجاوزة في تعاملها حرمان الهويات الثقافية علما إن هذه الثقافة العالمية تخضع لشركات عالمية متعددة الجنسيات تكون الصورة هي ذاتها الأساسية في خلق الوعي الفكري، لأن (الصورة بمفهومها خطاب ناجز مكتمل يمتلك سائر مقومات التأثير الفعال في مستقبله، وهي لغة تستكفي بذاتها إذ لا تحتاج الصورة اختراقا مع الكلمة التي غدت وعيا فكريا على امتداد تواريخ السلف الثقافية إلى مصاحبة لغوية كي تنفذ إلى إدراك المتلقي فهي بحد ذاتها خطاب ناجز مكتمل سائر مقومات التأثير الفعال)، كما أشرنا وفي ثنايا تلك الفاعلية تكمن شعبيتها وخطورتها في أن واحد ومع صيرورة الصورة سلطة رمزية على الأقوى النتاج وصناعة العتم والرموز وتشكيل الوعي والوجدان والذوق ولذلك أثاره الخطيرة على الصعيدين:
1ء النمط الثقافي المنتج والمقترح عولميا.
2ء درجة التناسب النمطية بين ثقافة المعولم وثقافة الأصل وما يترتب على تلاقحهما الثقافي من أفق مستقبل والذي يحدده الواقع المعاصر المعمول به.
تسعى العولمة إلى بلورة ثقافة عالمية تتسم خاصة تستفيد منها الفئات لا مسيطرة على العمليات الاقتصادية والسياسية والإعلامية حيث تحتكر التقنية والإنتاج الإعلامي على المستوى العالمي، ومن ثنايا السيطرة والاحتكار ما يمكنها من التحكم في أهم الأدوات المطلوبة للتغير لترسيخ قم عالمية رأسمالية تكون قادرة على توجيه عمليات التحول الاجتماعي والاقتصادي في إطار تحقيق مصالحها
عوامل وآليات انتشار العولمة
إلى جانب أن العولمة تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا، هي أيضا إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة، عن إرادة الهيمنة على العالم وأمركته. وقد تظافرت مجموعة من العوامل المساعدة والمسهلة لنشر و تغلغل الفكر ونمط العيش الأمريكي من بينها
1 استعمال السوق العالمية أداة للإخلال بالتوازن في الدول القومية، في نظمها وبرامجها الخاصة بالحماية الاجتماعية.-
2 اتخاذ السوق والمنافسة التي تجري فيها مجالا لـ"الاصطفاء"، بالمعنى الدارويني للكلمةأي وفقا لنظرية داروين في "اصطفاء الأنواع والبقاء للأصلح". وهذا يعني أن الدول والأمم والشعوب التي لا تقدر على "المنافسة" سيكون مصيرها ، بل يجب أن يكون، الانقراض.
3 إعطاء كل الأهمية والأولوية للإعلام لإحداث التغييرات المطلوبة على الصعيد المحلي والعالمي، باعتبار أن "الجيوبوليتيك"، أو السياسة منظورا إليها من زاوية الجغرافيا، وبالتالي الهيمنة العالمية، أصبحت تعني اليوم مراقبة "السلطة اللامادية"، سلطة تكنولوجية الإعلام التي ترسم اليوم الحدود في "الفضاء السيبرنيتي": حدود المجال الاقتصادي السياسي التي ترسمها وسائل الاتصال الإلكترونية المتطورة
العولمة و العالم الإسلامي
إن العالم الإسلامي لا يملك أن يمنع العولمة الثقافية من الانتشار، لأنها ظاهرة واقعية تفرض نفسها بحكم قوّة النفوذ السياسي والضغط الاِقتصادي والتغلغل الإعلامي والمعلوماتي التي يمارسها النظام العالمي الجديد. ولكن العالم الإسلامي يستطيع أن يتحكم في الآثار السلبية لهذه العولمة، إذا بذل جهوداً مضاعفة للخروج من مرحلة التخلف إلى مرحلة التقدم في المجالات كلِّها، وليس فحسب في مجال واحد، للترابط المتين بين عناصر التنمية الشاملة ومكوّناتها.
إنَّ التعامل مع ظاهرة العولمة الثقافية لابد وأن يقوم على أساس القوة الاِقتصادية والاستقرار السياسي والسلم الاِجتماعي والتقدم في مجالات الحياة كلِّها، وهذا ما يتطلّب، في المقام الأول إصلاح الأوضاع في العالم الإسلامي في هذه المجالات كافة، وترسيخ قواعد العمل الإسلامي المشترك، على مستوياته المتعدّدة، من أجل الدفع بالتعاون بين المجموعة الإسلامية نحو آفاق أرحب تطلعاً إلى مستقبل أكثر إشراقاً.
والقضية في عمقها مرتبطةٌ بمدى قوة الإرادة الإسلامية وتماسك جبهة التضامن الإسلامي وتضافر جهود المسلمين كافة، في سبيل بناء النهضة الحضارية للعالم الإسلامي، بالعلم، وبالفهم، وبالوعي، وقبل ذلك كلِّه، بالإيمان واليقين والتضامن والأخوة الإسلام
. ويقتضي ذلك أن يغيّر العالم الإسلامي وسائل العمل الثقافي وأدواته وأهدافه أيضاً، وأن يعمل على تطوير مناهج التربية والتعليم وتجديد الدراسات الإنسانية على وجه العموم، وأن يتجه نحو الأخذ بالأساليب العلمية في العمل الثقافي والإعلامي، حتى تتوافر له الوسائل الحديثة الكفيلة بالنهوض الثقافي العام. وبذلك يستطيع العالم الإسلامي أن يصمد صموداً ثابتاً أمام ظاهرة العولمة الثقافية
تهديد التعددية الثقافية
التعليقات (0)