مواضيع اليوم

ملف العولمة والهوية الثقافية

بنعبدالعزيز 2emebacsh2

2009-12-31 14:57:00

0

 

المبحث الأول: تعريف الهوية العولمة الثقافة

تعريف العولمة

ما زال مصطلح (العولمة) من المصطلحات الغامضة التي لم تُحدَّد معالمها بدقة؛ على الرغم من كثرة الكتب والدراسات التي كتبت فيه.
العولمـة هي انفتاح عن العالم, و هـي حركة متدفقة ثقافيا و اقتصاديا و سياسيا و تكنولوجياً, حيث يتعامل مدير اليوم مع عالم تتلاشى فيه تأثير الحدود الجغرافية و السياسية, فأمامنا رأس مال يتحرك بغير قيود و ينتقلون بغير حدود, و معلومات تتدفق بغير عوائق حتى تفيض أحيانا عن طاقة استيعاب المديرين. فهذه ثقافات تداخلت و أسواق تقاربت و اندمجت, و هذه دول تكتلت فأزالت حدودها الإقتصادية و الجغرافية, و شركـات تحالفت فتبادلت الأسواق و المعلومات و الاستثمارات عبر الحدود, و هـذه منظمات مؤثرة عالمياً مثل: البنك الدولي, صندوق النقد الدولي
مصطلحات العولمة أمركة العالم – قرية عالمية – كوكبة – سلعنة – كوننة – الإخطبوط الاستعماري – النظام العالمي الجديد
تعريف الهوية:

تستعمل كلمة(هوية) في الأدبيات المعاصرة لأداء معنى كلمة Identity التي تعبر عن خاصية المطابقة: مطابقة الشيء لنفسه، أو مطابقة لمثيله، وفى المعاجم الحديثة فإنها لا تخرج عن هذا المضمون، فالهوية هي: حقيقة الشيء أو الشخص المطلقة، المشتملة على صفاته الجوهرية، والتي تميز عن غيره، وتسمى أيضاً وحدة الذات.
وفي كتابه "التعريفات" يُعَرِّفُ الجرجاني (السيد الشريف علي بن محمد) الهُوِيَّةَ بأنها: "الحقيقة المطلقة المشتملة على الحقائق إشتمال النُّواة على الشجرة في الغيب المطلق"
خلاصة الأقوال: إن الهوية الثقافية والحضارية لأمة من الأمم، هي القدر الثابت، والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة، التي تميز حضارة هذه الأمة عن غيرها من الحضارات، والتي تجعل للشخصية طابعاً تتميز به عن الشخصيات الأخرى.
مكونات الهوية:
إذا كانت الهوية هي حقيقة الشيء المشتملة على صفاته الجوهرية والتي تميزه عن غيره، فلا شك أنها تختلف باختلاف مكوناتها وعناصرها. والذي يصوغ هوية المسلم ويجعله متميزا عن غيره، "اربعة عناصر هي الدين، واللغة، والتاريخ، والبيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والمناخية".
الدين: لا شك أن سلوك الإنسان في الحياة ينبني على تصوره لنفسه أولا (ما أصله، وما مصيره) ، وتصوره للإله الذي يعبده ، ثم تصوره للكون وللحياة. والدين هو أول المكونات التي تشكل هذا التصور. فالإنسان الذي يعتقد بوجود إله واحد، بيده الضر والنفع، والموت والحياة، والرزق، والأجل، والذي يعتقد بأن هناك يوم يجازى فيه الناس على أعمالهم خيرا كانت أو شرا، سيكون همه كيف يرضي هذا الإله، وكيف يتجنب السوء والظلم والآثام خشية الجزاء الاخروي، وبالتالي يكون صالحا في نفسه، مصلحا لغيره، قائما بالحق والعدل في الأرض، ممتثلا للخير والبر، ناهيا عن الشر والفجور.
اللغة: تعد اللغة إحدى الركائز الأساسية للهوية، "وهي الوسيلة الأساسية في العلاقات الإنسانية من حيث التوصيل أو النقل والتعبير عن الأفكار والمعاني والرغبات".واللغة العربية هي وعاء الثقافة لكل الشعوب الناطقة بها، من خلالها يتم تلقي المعرفة، وتدوينها ونقلها إلى الأجيال، وبها يمارسون عباداتهم وشعائرهم. وبها يكتبون آدابهم وقصصهم وأشعارهم إلى غير ذلك. "والقرآن الكريم منح اللغة العربية سلطة مكتوبة وصفة مقدسة قائمة على إلهام آت من السماء...، بينما يقال إنها ثابتة موحى بها، أنزلها الله على عبيده لكي يتفاهموا ويتعارفوا، واتخذت صفة القداسة سلطة أقوى بفضل تحول اللغة إلى لغة الطقوس الدينية". وتعتبر هذه اللغة التي وسعت كتاب الله لفظا وغاية، وحملت نصه المعجز محفوظة بحفظ القرآن الكريم، وباقية ببقائه: (إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون) الحجر: 9
التاريخ: نقصد بالتاريخ ذلك السجل الحضاري للأمة العربية المسلمة، ويشمل إنجازاتها المعنوية والمادية، وهذا كله رصيد ثر للفرد، ومكون هام من مكونات الهوية، لأن الإنسان لا ينفك يقتفي أثر آبائه ومآثرهم، حتى ليكون ذلك جزءا من شخصيته.
"ودراسة التاريخ الإسلامي تغذي الروح الإسلامية وتقوي معانيها في نفوس الجيل بكل أبعادها النظرية والتطبيقية، وبالتالي يكسب الثقافة الإسلامية سمة الأصالة والانتماء كما يشكل رصيدا ضخما من المعلومات والمعارف الذي تنمو به ثقافة المسلم."
البيئة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية: لا شك أن البيئة التي يعيش فيها الفرد تؤثر على بنائه الفكري والعقلي، بالقدر الذي يؤثر فيه التاريخ.

مفهوم الثقافة:
مصطلح الثقافة اللغة العربية مأخوذ من الفعل (ثقف)، وله معان منها:
الحذق والفطنة، وسرعة أخذ العلم، والتهذيب والتأديب، وتقويم المعوج، وإدراك الشيء والحصول عليه.
وفي المعجم الوسيط تعرف بأنها: العلوم والمعارف والفنون التي يطلب الحذق فيها.
أما في اللغات الأجنبية، الإنجليزية، والفرنسية، والألمانية، culture، مشتقة من الأصل اللاتيني: Colere ، وتعني من ناحية مجازية الزراعة أو الحراثة أو الاستنبات. وظلت تدل على تنمية الأرض حتى استعملها شيشرون بمعناها المجازي : فلاحة العقل أو التنمية، ثم تبلورت كمصطلح حديث على يد العالم الإنجليزي ادوارد تايلور، بأنها: الكل المعقد الذي يشمل المعرفة والعقيدة، والفن والأخلاق، والقانون، والعادة، وكل المقومات الأخرى التي يكتسبها الإنسان كعضو في المجتمع. ومنذ ذلك الحين ظهرت لها تعريفات كثيرة، ولم يخرج تعريف المفكرين العرب لها عن هذا الإطار، ومن هذه التعريفات:
حسين مؤنس: يعرف الثقافة بأنها مجموعة من المعلومات والمعارف والممارسات والقيم الخاصة بشعب ما، والتي يعيش بمقتضاها، وهي التي تميزه عن غيره من الشعوب، لأنها تعبير صادق عن شخصيته وملامحها وطريقته الخاصة في الحياة.
أما ناصر الدين الأسد فيرى أن الثقافة مجموعة من الآداب والفنون والمعارف العقلية والنقلية والعلوم التجريبية والعملية.
وعليه يمكن تعريف الثقافة الإسلامية بأنها: طريقة الحياة التي يعيشها المسلمون في جميع حالات الحياة وفقا لوجهة نظر الإسلام وتصوراته، سواء في المجال المادي الذي يسمى بالمدنية، أو المجال الروحي أو الفكري الذي يعرف بالحضارة.
تفهم الثقافة باعتبارها هوية على انها كيفية للنظر إلى الوجود و إلى الحياة وأسلوب في العيش والسلوك والإحساس والإدراك والتعبير والإبداع,يتميز به مجتمع بشري معين في ما يملكه من أصالة عريقة ومتجدرة في تاريخه تعبر الثقافة هنا عن نظرة امة معينة إلى الكون و إلى الحياة والموت والى الإنسان ومكانته ورسالته في الوجود.وهده الدلالة الجديدة نسبيا مستوحاة من المعنى المستعمل حاليا في الدراسات الانثروبولوجية الثقافية المعاصرة .وقد ورد في البيان الختامي للمؤتمر العالمي للسياسات الثقافية 1982 إن الثقافة في معناها الواسع هي مجموع السمات الروحية والمادية والفكرية والعاطفية المميزة والتي يختص بها مجتمع بشري ما او فئة اجتماعية بعينها وهي مركب يشمل الآداب والفنون وانماط العيش والحياة .كما يشمل الحقوق الأساسية للإنسان ومنظومات القيود والتقاليد والمعتقدات ...وكل ثقافة بشرية تشكل منظومة فريدة من القيم غير القابلة للاستبدال.وبواسطة تلك القيم وأشكال التعبير المختلفة يتمكن كل شعب من الشعوب من إثبات حضوره في العالم بشكل كامل وكما قال جوهان هدر الفيلسوف الألماني في كتابه أفكار في فلسفة تاريخ الانسانية(إن ثقافة شعب من الشعوب هي بمثابة الدم الذي يسري في شرايين أفراده...وان ما يشكل جزءا لا يتجزأ من عالم الأفكار لدى امة من الأمم لايمكن أبدا إن يدخل عقل امة ثانية في حين قد تحكم عليه امة ثالثة بأنه مؤد وضار.)

تعريف المثاقفة
إما المثاقفة acculturation الذي ينتمي في أصله إلى حقل مفاهيم علم الاجتماع و الانثروبولوجيا الثقافية.فهو يدل في هدا الحقل على ظاهرة تاثير وتأثر الثقافات البشرية في بعضها البعض نتيجة الاتصال فيما بينها أيا كانت طبيعة هدا الاتصال او مدته .كما يدل على الصيرورة التي بمفعولها تتأثر ثقافة جماعة بشرية معينة وتتكيف جزئيا او كليا مع ثقافة جماعة بشرية أخرى توجد في حالة اتصال بها.وفي عبارة موجزة يمكن القول إن المثاقفة تعني في نهاية المطاف رد فعل كيان ثقافي معين تجاه ضغوط وتاثيرات ثقافية تأتيه من خارجه وتمارس عليه مباشرة او عن طريق غير مباشر علانية او بكيفية خفية تدريجية .انها طريقة للتفاعل والتكيف مع ثقافات الاخرين سواء اضطراريا او إراديا واحيانا لاشعوري ولكن اسباب التغيرات التي تطرأ على كيان ثقافي معين قد لايكون مصدرها دائما هو التاثيرات الخارجية فحسب بل يحدث أحيانا أن تظهر نتيجة لتضافر عوامل خارجية مع تاثير قوى فاعلة في داخل المجتمع المعني بالامر داته .إن التواصل و التفاعل والتبادل بين الثقافات على المستوى العالمي عبر جسور و اليات المتاقفة اصبح يساهم فعليا في نسج علاقات ثقافية متداخلة بين الشعوب,وفي تنقل قيم وافكار ومفاهيم وعادات وأساليب الحياة وانماط السلوك ,خاصة بنظام ثقافي معين,إلى نظام او عدة أنظمة ثقافية أخرى .وواهم من لا يزال يعتقد اليوم في امكانية وجود حواجز سياسية او إستراتيجية,قادرة على الصمود طويلا أمام سرعة انتقال لمعرفة والمعلومات والأفكار,والقيم والمكتسبات الانسانية الراهنة. وفي عصرنا الحالي ,وخاصة في هده المطالع الاولى من الالفية الثالثة التي تدشن عهدا ازدهر فيه الخطاب عن الديمقراطية وحقوق الانسان,وعن الحقوق الثقافية للشعوب,وعن فضائل التعددية الثقافية بشكل لم يسبق له نظير في هدا العصر بالدات اصبح العالم اجمع معرضا لجموح ثقافة بشرية واحدة الى الهيمنة على جميع الثقافات البشرية الاخرى,وبالتالي لنوع كاسح من التنميط والتجانس الثقافي مفروض عليه من طرف ما يقدم على انه ثقافة انسانية كونية تجسدها روح ثقافة العولمة .وهده الثقافة تبسط هيمنتها حاليا وبكيفية تدريجية,تحت مظلة القدرة الامريكية الهائلة الاقتصادية والسياسية والمالية والتكنولوجية والعسكرية,التي تسمح لها بالسيطرة الفعلية على اجزاء كثيرة من العالم,وعلى المؤسسات الدولية المؤهلة لاتخاد القرارات السياسية والاستراتيجية العامة,وعلى القسم الاعظم من وسائل الاتصال والاعلام الكبرى,الى حد لم تعد تلوح فيه في الافق القريب,اية مؤشرات تنبئ بامكانية وجود خصم او ند في مقامها ومقاسها,يمكن ان يلجم جموحها او باحتمال ظهور بديل قادر على الصمود والتجزؤ على خوض منافسة فعلية مع نمودجهاالثقافي المهيمن على العالم اجمع,من منطلق عقدة التفوق والاتعلاء واحتكار الصفة الكونية.
المبحث الثاني:العلاقة بين المفاهيم

توجد بين مفهومي الهوية والعولمة وشائج علاقات جدلية فريدة من نوعها في طبيعة العلاقة بين المفاهيم والأشياء .إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان في آنٍ واحدٍ . وفي دائرة هذا التجاذب والتقاطب والتكامل ، يأخذ مفهوم الهوية على الغالب " دور الطريدة بينما يأخذ مفهوم العولمة دور الصيّاد "حسب تعبير الدكتور علي وطفة ( 1)
فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتُجْهز عليها ثم تتغذّى بها ، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان والفناء وتحتدّ في طلب الأمن والأمان ، وتتشبث بالوجود والديمومة والاستمرار .
إن العولمة تعني ذوبان الخصوصية والانتقال من الخاص إلى العام ، ومن الجزئي إلى الكلّي ، ومن المحدود إلى الشامل .وعلى خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية والعمومية ؛ فالهوية انتقال من العام إلى الخاص ، ومن الشامل إلى المحدود ..إذْ تـبحث عن التمايز والتباين والمشخص والمتفرد والمعيّن ..أما العولمة بحثٌ عن العام والشامل واللامتجانس واللامحدود .
قضية العلاقة بين مفهوم الهوية والعولمة طُرحت على أكثر من صعيد ولا تزال تطرح لكونها من أهمّ القضايا وأكثرها صعوبة وتعقيدا وأقربها حضورا في عمق الجدل الدائر ليس لدى النخبة الثقافية والسياسية فحسب ، بل حتى لدى العديد من الناس العاديين ، ذلك أن انعكاساتها الفكرية والمعنوية ونتاجاتها المادية اقتحمت كل مجالات الحياة .
يذهب بعض المفكرين والباحثين إلى أن العولمة فعْلٌ يقلص امتداد الكون في هوية واحدة متجانسة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا .العولمة وفقا لهذا الرأي تعمل على بناء ثقافة واحدة ، وتسعى إلى تذويب الحدود والحواجز الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الأمم .إنها سعْيٌ محموم لبناء المجتمع الإنساني على مقياس الثقافة الواحدة والحياة الاقتصادية الواحدة ، وبالتالي فإن ثقافة العولمة هي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات والقوميات والثقافات .
صدمة العولمة
تعتمد العولمة في مسعاها على الاقتصاد بأوسع مكوّناته وأساليبه ..الاقتصاد الحر والسوق الحرة هما اللذان يقرران كل المسارات ؛ ولا ريب أن لذلك آثاره الوخيمة على الدولة وطريقة الحكم فيها ومكانة المواطن ودوره ، وإدارة الشأن العام في المجتمع ، وترشيد الإمكانات والموارد والثروات بأنواعها . ومع ذلك فإن هذا لا يعني اختفاء الدولة ولا اختفاء الهوية أو الثقافة أو القومية الاقتصادية أو السياسة الوطنية ..إن هذا رغم ضآلة الحدود في التجارة ، ما تزال وستظل تلعب دورا مهمّا وأساسيا وتعبّر عن كمٍّ من الطموحات والآمال والمصالح ، غير أن أهم عناصر المرحلة الجديدة هو وقوع تحوّلات هامة ذات صلة بالدولة وعلاقاتها بالداخل والخارج ...هذه التحوّلات تبدو بشكل أكثر وضوحا في مجالي السياسة والقانون الدولي ، وبالقيم التي تحكم السلوك العالمي وما يثيره ذلك من تحدّيات .))
إن هذه التحولات المتسارعة التي تعدّت الحرية التجارية للسوق ، إلى الانتشار السريع للمعلومات والمعارف ، وذوبان الحدود بين الدول ، وسهولة حركة الناس من وإلى كل الأصقاع ، واندماج أسواق العالم في حقول التجارة وتنقل الأموال والاستثمارات المباشرة والقوى العاملة والثقافات ؛ فإن ذلك كله لا ينفي أنّ لكل أمة خصوصيتها الثقافية ، وأن الأيديولوجية السياسية في كل بلد تتبلور وفق خصوصية هذا البلد ، واستنادا إلى هويته مهما كانت شدة مكوّنات العولمة وصدمتها ، ووفقا لتاريخ هذا الأمة أو تلك ، وثقافتها وتحديدها للمصلحة الوطنية .
إن حرية السوق وحركة التجارة وانفتاح الأسواق ، والانتشار السريع للمعلومات وتوفر الوسائط المعرفية والمعلوماتية وتنوّعها ، لا يؤدي إلى اقتلاع الناس من زمكانهم ..سيبقوْن ثابتين وخاضعين لدولهم ومجتمعاتهم وهوياتهم حتى وإن تحركوا وتنقّلوا عبر العالم ، أو استوطنوا هنا وهناك ..ممّا يؤدي إلى أن الدولة الوطنية باقية ، وأن دورها الريادي يكون أخطر أمام التحديات الراهنة والتحولات المتسارعة ، التي يُفترض ترجمتها إلى فعل سياسي واعٍ ، يستفيد من هذه التحولات العالمية التي لا تتعارض البتّة في آنٍ واحدٍ مع الثقافة المحلية والتاريخ والهوية الوطنية .

المبحث الثالث: آليات وظواهر العولمة الثقافية
 

ومع اختلاف تعريفات العولمة إلا أنها تأخذ عدة ظواهر:
- التقدم الهائل في وسائل الاتصال، لا سيما ظهور الإنترنت والقنوات الفضائية.
- هيمنة الغرب لا سيما أمريكا وسقوط المعسكر الشرقي، وتأخذ هذه الهيمنة أبعاداً عسكرية واقتصادية وثقافية وسياسية.
- بروز المؤسسات الدولية والشركات متعددة الجنسيات.
- المؤتمرات الدولية.
وهذه التعريفات تتباين في درجة قبولها وخطورتها، حيث نجد أن أكثر المفكرين المسلمين ينبه على خطورتها مع التركيز على الاقتصادي كما فعل د. سعد البازعي حيث يقول: ”العولمة هي الاستعمار بثوب جديد، ثوب تشكله المصالح الاقتصادية ويحمل قيماً تدعم انتشار تلك المصالح وترسخها، إنها الاستعمار بلا هيمنة سياسية مباشرة أو مخالب عسكرية واضحة. إنها بكل بساطة عملية يدفعها الجشع الإنساني للهيمنة على الاقتصادات المحلية والأسواق وربطها بأنظمة أكبر والحصول على أكبر قدر من المستهلكين، وإذا كان البحث عن الأسواق والسعي للتسويق مطلباً إنسانياً قديماً وحيوياً ومشروعاً، فإن ما يحدث هنا يختلف في أنه بحث يمارس منافسة غير متكافئة وربما غير شريفة من ناحية ويؤدي من ناحية أخرى إلى إضعاف كل ما قد يقف في طريقه من قيم وممارسات اقتصادية وثقافية“
بينما يركز آخرين على الجانب الثقافي وربما سموها اختراق كما فعل الدكتور محمد عابد الجابري حيث قال: ”أن العولمة تعني: نفي الآخر، وإحلال الاختراق الثقافي .. والهيمنة، وفرض نمط واحد للاستهلاك والسلوك“. أو فرض النموذج كما يصفها الدكتور محمد سمير المنير حيث يقول: ”فالغرب يريد فرض نموذجه وثقافته وسلوكياته وقيمه وأنماطه واستهلاكه على الآخرين، وإذا كان الفرنسيون يرون في العولمة صيغة مهذبة للأمركة التي تتجلى في ثلاثة رموز هو سيادة اللغــة الإنجليزية كلغة التقدم والاتجاه نحو العالمية، وسيطرة سينما هوليود وثقافتها الضحلة وإمكاناتها الضخمة، ومشروب الكوكاكولا وشطائر البرجر والكنتاكي .. “. أو غزو شامل كما اعتبرها أسعد السحمراني حيث قال: إن العولمة/الأمركة غزو ثقافي اجتماعي اقتصادي سياسي يستهدف الدين والقيم والفضائل والهوية، كل ذلك يعملون له باسم العولمة وحقوق الإنسان.
والتصريح بأنها أمركة تصريح صحيح باعتبارها المؤثر الأقوى وقد أكد على أن جوهر العولمة هو النمط الأمريكي، الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش، حين قال في مناخ الاحتفال بالنصر في حرب الخليج الثانية: إن القرن القادم سيشهد انتشار القيم الأمريكية، وأنماط العيش والسلوك الأمريكي.
وربما تكون صهينة لا سيما واستثمار اليهود الذين يقودون الغرب وأمريكا تحديداً للعولمة للسيطرة على العالم من الاستعمار إلى الاستحمار (ركوب الأمم واستغلالها دون القضاء عليها).
بينما نجد البعض يجعلها مجرد انتماء عالمياً، كما عرفها الدكتور صبري عبدالله حيث قال: ”بأنها ظاهرة تتداخل فيها أمور الاقتصاد والثقافة والاجتماع والسلوك، ويكون الانتماء فيه للعالم كله، عبر الحدود السياسية للدول“.
بل إن البعض يجعل العولمة الثقافية مجرد خدعة لإلهاء الشعوب عن الغزو والمصالح الاقتصادية، حيث يقول حسن حنفي ”يتم تصدير صراعات الحضارات للنطق بما كان مسكوتاً عنه سلفاً ولتحويل العالم إلى دوائر حضارية متجاورة، ومتصارعة على مستوى الثقافات لإخفاء الصراع حول المصالح والثروات، وإلهاء الشعوب الهامشية بثقافاتها التقليدية، بينما حضارات المركز تجمع الأسواق، وتتنافس في فائض النتاج عوداً إلى النغمة القديمة، مادية الغرب وروحانية الشرق، الحضارة اليهودية المسيحية، في مواجهة الحضارة الإسلامية البوذية الكنفوشوسية“.
ونجد سمير الطرابلسي ينبه إلى خطورة العولمة التي تشكلها الولايات المتحدة بجميع جوانبها المهمة حيث يعرفها بأنها الرؤية الاستراتيجية لقوى الرأسمالية العالمية، وخصوصاً الولايات المتحدة الأمريكية، والرامية إلى إعادة تشكيل العالم وفق مصالحها، وأطماعها، سائرة نحو ذلك الهدف على ثلاثة مسارات متوازية: الأول: اقتصادي وغايته ضغط العالم في سوق رأسمالية واحدة، يحكمها نظام اقتصادي واحد، وتوجه القوى الرأسمالية العالمية (الدول الصناعية السبع الشركات المتعددة الجنسيات والمؤسسات الاقتصادية العالمية، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي للإنشاء والتعمير، ومنظمة التجارة العالمية) وتضبط حركته قوانين السوق وآلياته. والثاني: سياسي ويهدف إلى إعادة بناء هيكليات أقطار العالم السياسية في صيغ تكرس الشرذمة والتشتت الإنسانيين، وتفكك الأوطان والقوميات إلى كيانات هزيلة قائمة على نزعات قبلية عرقية أو دينية طائفية أو لغوية ثقافية، بغية سلب أمم العالم وشعوبها القدرة على مواجهة الزحف المدمر للرأسمالية العالمية والتي لا تستقر إلا بالتشتت الإنساني. وأخيراً المسار الثقافي الذي يهدف إلى تقويض البنى الثقافية والحضارية لأمم العالم، بغية اكتساح العالم بثقافة السوق التي تتوجه إلى الحواس والغرائز، وتشل العقل والإرادة، وتشيع الإحباط والخضوع، وتشهد منطقتنا العربية ترجمة لهذه التوجهات من خلال مشاريع الشرق أوسطية والمتوسطية.
وفي تقديري أن هذا أفضل تعريفات العولمة التي وقفت عليها، وبالإمكان القول أن العولمة:- وصف لظواهر متعددة يجمعها جعل العالم متقارباً مثل التقدم المذهل في وسائل الاتصال والمواصلات والفضائيات والإنترنت، والانفتاح المعلوماتي، مع سلطة القطب الواحد (أمريكا بقيادة صهيونية) الذي يسعى لعولمة اقتصادية وعسكرية تحقق مصالحه كما يسعى لعولمة ثقافية بفرض قيمه وثقافته (وهذه النقطة هي ما تعنينا) حول عولمة الثقافة المهدرة للهوية.
العولمة نموذج من مخططات الاستعمار التي نبه عنها وكتب فيها، الأمير شكيب أرسلان رحمه الله، وهذا قبل ظهور مصطلح العولمة، وقد كتب يقول: غوليامو فرير الفيلسوف الكاتب الإيطالي الشهير في علم الاجتماع والتاريخ لا في إيطاليا فحسب بل في أوروبا بأجمعها، وإذا كتب كتاباً أو نشر مقالة تجاوبت لها أصداء الشرق والغرب وتركت دوياً. نشر الفيلسوف المؤرخ المشار إليه كتاباً أخيراً باسم ”وحدة العالم“ لا يزيد على مئات معدودات من الصفحات طاف فيه على جميع الحوادث الجارية على سطح الكرة الأرضية، ودقق في مصادرها وأسبابها، فذهب إلى أنها مع تناقضها وتصادمها بعضها ببعض سائرة في الحقيقة على نظام ثابت مستقيم، ووصل إلى هذه النتيجة وهي:
أن مشروع الفتح والامتداد الذي يتابعه العالم المتمدن ”أي الأوروبي“ منذ أربعة قرون، والذي بدأ بطيئاً وانقلب سريعاً في آخر الأيام، يظهر للمتأمل أنه آيل إلى ”توحيد العالم الإنساني“ ولم يكن هذا ”التوحيد“ ليتم بدون جهد وبدون بلاء، لأن البشر خلقوا أطواراً، وبينهم من التدابر والتقابل ما يؤذن بالأخذ والرد والعكس والطرد، وهناك أسباب عديدة للحب والبغض والقرب والبعد، مع هذا كله تجد العالم سائراً إلى الوحدة، فإذا نظرنا إلى كيفية النظام السائد الآيل إلى هذه الوحدة وجدنـاهـا: بالإنجيـل، وبالسيف، وبالإفناء، وبتبادل المساعدات، وبتبادل طلقات المدافع ....
ثم يقول: هذه خلاصة نظريات الفيلسوف الإيطالي فريرو، وظاهر أنه يقصد بالإنجيل ”الثقافة الغربية“ التي هي وحدها تمشي في آسيا وأفريقيا وفي يدها الواحدة ”السيف“ وفي الأخرى ”ضماد للجرح“، وهي وحدها تفتنُّ في رق استئصال البشرية، وفي طرق توفير صحة البشر، تجمع في وقت واحد بين الضدين، وهي التي بين يديها الجندي من جهة، والقسيس من جهة أخرى.
وأخيراً هل العولمة أمر حتمي .. نعم ولا ، نعم باعتبار ما وصلنا إليه، ولا باعتبار ما أمكننا مقاومتها لأنها متغيرة وإمكانية الحد من آثارها، وهذا ما سنتناوله في الفصل الثالث.

المصدر
الشبكة العنكبوتية المدونة للقسم الثانية بكالوريا علوم إنسانية 2. 
من انجاز التلميد   سفيان همو




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات