مفهوم العولمة
انتشر استخدام مصطلح العولمة في كتابات سياسية واقتصادية عديدة (بعيدة عن الإنتاج الفكري العلمي الأكاديمي في البداية) في العقد الأخير، وذلك قبل أن يكتسب المصطلح دلالات استراتيجية وثقافية مهمة من خلال تطورات واقعية عديدة في العالم منذ أوائل التسعينات.
يُستخدم مفهوم العولمة لوصف كل العمليات التي بها تكتسب العلاقات الاجتماعية نوعًا من عدم الفصل (سقوط الحدود) وتلاشي المسافة؛ حيث تجري الحياة في العالم كمكان واحد -قرية واحدة صغيرة- ومن ثم فالعلاقات الاجتماعية التي لا تحصى عددًا أصبحت أكثر اتصالاً وأكثر تنظيمًا على أساس تزايد سرعة ومعدل تفاعل البشر وتأثرهم ببعضهم البعض. وفي الواقع يعبر مصطلح العولمة عن تطورين هامين هما: التحديث Modernity، والاعتماد المتبادلInter-dependence ، ويرتكز مفهوم العولمة على التقدم الهائل في التكنولوجيا والمعلوماتية، بالإضافة إلى الروابط المتزايدة على كافة الأصعدة على الساحة الدولية المعاصرة. وبناء على ذلك، فالمفهوم يحتوي على مساحة من التناقض بين وجهة النظر الليبرالية الداعية للاحتفال بالاعتماد المتبادل بين الدول، مقابل وجهة النظر الراديكالية التي لا ترى في ذلك إلا مزيدًا من السيطرة العالمية للرأسمالية والنظام الاقتصادي المرتكز على حرية السوق.
وتاريخيًا، فإن مفهوم العولمة لا يتجزأ عن التطور العام للنظام الرأسمالي، حيث تعد العولمة حلقة من حلقات تطوره التي بدأت مع ظهور الدولة القومية في القرن الثامن عشر، وهيمنة القوى الأوروبية على أنحاء كثيرة من العالم مع المد الاستعماري.
بين رأس المال والتكنولوجيا والثقافة:
ومؤخرًا، ساهمت ثلاثة عوامل في الاهتمام بمفهوم العولمة في الفكر والنظرية، وفي الخطاب الس:
1 - عولمة رأس المال أي تزايد الترابط والاتصال بين الأسواق المختلفة حتى وصلت إلى حالة أقرب إلى السوق العالمي الكبير، خاصة مع نمو البورصات العالمية.
2- التطور الهائل في تكنولوجيا الاتصال والانتقال والذي قلل -إلى حد كبير- من أثر المسافة، وانتشار أدوات جديدة للتواصل بين أعداد أكبر من الناس كما في شبكة الإنترنت.
3 - عولمة الثقافة وتزايد الصلات غير الحكومية والتنسيق بين المصالح المختلفة للأفراد والجماعات، فيما يسمى الشبكات الدولية Networking حيث برز التعاون استنادًا للمصالح المشتركة بين الجماعات عبر القومية، مما أفرز تحالفات بين القوى الاجتماعية على المستوى الدولي، خاصة في المجالات النافعة مثل: الحفاظ على البيئة، أو في المجالات غير القانونية كتنظيف الأموال والمافيا الدولية للسلاح.
وفي الواقع، فإنه على الرغم من ترحيب دعاة العولمة بزوال الحدود القومية ودعوتهم لإنهاء الدولة القومية، والحد من الإغراق في الخصوصية الثقافية والمحلية، لكن الواقع الحالي يثبت وجود قوتين متعارضتين: التوحد والتجزؤ.
التوحد والتجزؤ:
فبينما يتجه الاقتصاد لمزيد من الوحدة على الصعيد الدولي، تخطو السياسة نحو المزيد من التفتت مع نمو الوعي العرقي والنزاعات الإثنية، في حين تتراوح الثقافة بين انتشار الثقافات الغربية في الحياة اليومية وبين إحياء الثقافات والتراث في أنحاء المعمورة.
وعلى الرغم من عولمة رأس المال فإن الهوية تتجه نحو المحلية. على سبيل المثال: فإن اختفاء الحدود بين شطري ألمانيا ونشأة كيانات موحدة والسير نحو الوحدة الأوروبية الغربية واكبه تفتت يوجوسلافيا وإحياء الروح الانفصالية في أفريقيا وآسيا.
وعلى صعيد عمليات الاتصال بين أرجاء المعمورة، فإن تكنولوجيا الاتصال قد قللت إلى حد كبير من تأثير المسافات بين الدول، وازدياد التفاعل بين الأشخاص والثقافات - بعبارة أخرى: حوار الحضارات، مما قاد إلى تكوين ثقافة عالمية جديدة يستغربها الذين اعتادوا على ثنائية "الذات والآخر"، فهناك دعوة للاندماج تبرز في مدارس الفن والفلسفة، وحوارات على كافة الأصعدة الحضارية والدينية. ويركز المتوجسون من العولمة على الروح الاستهلاكية العالية التي تواكب هذه المرحلة، والتي تتضح فيما يُسمى ثورة التطلعات، وانتشار النمط الاستهلاكي الترفي بين الأغنياء، أو الحلم به وتمنيه بين الفقراء.
وتنطوي العولمة على درجة عالية من العلمنة -أي تغليب المادية والحياة العاجلة على أية قيم مطلقة، واختزال الإنسان في بعده المادي الاستهلاكي، وأحيانًا الشهواني، فعلى سبيل المثال: تتعامل ثقافة الإعلام في ظل العولمة مع المرأة طبقًا لرؤية نفعية، يكون فيها جسد المرأة أداة لتعظيم المنفعة المادية، فمن ناحية تعتبر المرأة سلعة يمكن تسويقها - من خلال العروض التلفزيونية والإعلانات - عالميًا، ومن ناحية أخرى تعتبر هدفًا لتسويق سلع استهلاكية كمستحضرات التجميل والأزياء - وتتجلى هذه الرؤية في أشكال شتى منها مسابقات ملكات الجمال.
وعلى الرغم من انتشار مفهوم العولمة، فإن العالم يفتقر إلى وجود وعي عالمي أي إدراك الأفراد لهويتهم الكونية أكثر من الهويات المحلية. فواقعيًا، لا زالت الهويات المحلية تتصارع مع تلك الهوية العالمية التي تهيمن عليها القوى الكبرى اقتصاديًّا ونموذجًا حياتيًّا (الأمركة)، فعلى سبيل المثال بينما تتحد الدول في وحدات إقليمية كبيرة فإن التواصل بينها مفتقد، وبينما تتسارع العولمة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية سعيًا وراء تقليل فوارق المسافة، تخلق السياسة العديد من الفجوات بين الدول. وتعبر هذه السلوكيات عن جدلية إدراك الإنسان لدوره ككائن اجتماعي من ناحية، وكفرد يتصارع عالميًا سعيًا وراء مكانة خاصة.
ويرى بعض الباحثين أن الإشكالية في العلاقة بين العالمي والمحلي تتفاقم حين تحاول القوى العالمية الكبرى مثل: الولايات المتحدة أن تُعطي الطابع العالمي لما هو محلي لديها من أجل تحقيق مصالحها الخاصة. ويرجع انتشار هذا النموذج الأمريكي إلى امتلاك الولايات المتحدة لمنافذ إعلامية عديدة وعالمية.
ويطلق الباحثون على تلك العملية، "عولمة المصالح المحلية"، ومن المهم إدراك أن مفهوم "العولمة" يرتكز على عملية ثنائية الأبعاد: كونية الارتباط - ومحلية التركيز، وهذا التضاد هو طبيعة كل واقع جديد، لذلك يصح أن نطلق عليها لفظ "العولمة المحلية" Globalization and localization .
الإسلام والعولمة:
ويلاحظ أن الإسلام وإن كانت دعوته عالمية الهدف والغاية والوسيلة، ويرتكز الخطاب القرآني على توجيه رسالة عالمية للناس جميعًا، ووصف الخالق - عز وجل- نفسه بأنه "رب العالمين" ، وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مقترنًا بالناس والبشر جميعًا. فإن حضارة الإسلام قامت على القاسم المشترك بين حضارات العالم، فقبلت الآخر وتفاعلت معه أخذًا وعطاءً، بل إن حضارة الإسلام تعاملت مع الاختلاف بين البشر باعتباره من حقائق الكون. لذلك دعا الخطاب القرآني إلى اعتبار فوارق الجنس والدين واللغة من عوامل التعارف بين البشر. اتساقًا مع نفس المبادئ، يوحد الإسلام بين البشر جميعًا رجالاً ونساءً، في جزئيات محددة: أصل الخلق والنشأة، والكرامة الإنسانية والحقوق الإنسانية العامة، ووحدة الألوهية، وحرية الاختيار وعدم الإكراه، ووحدة القيم والمثل الإنسانية العليا.
وتبدو الاختلافات جلية بين عالمية الإسلام ومفهوم "العولمة" المعاصر، فبينما تقوم الأولى على رد العالمية لعالمية الجنس البشري والقيم المطلقة، وتحترم خصوصيته وتفرد الشعوب والثقافات المحلية، ترتكز الثانية: على عملية "نفي" و "استبعاد" لثقافات الأمم والشعوب ومحاولة فرض ثقافة واحدة لدول تمتلك القوة المادية وتهدف عبر العولمة لتحقيق مكاسب السوق لا منافع البشر.
ورغم هذه السيطرة الغربية على العولمة ومسارها إلا أن القوى المختلفة الداعية إلى حق الاختلاف والخصوصية الدينية والثقافية يمكنها توظيف أدوات العولمة ذاتها لمواجهتها، ففي قمة "سياتل" التي انعقدت في الولايات المتحدة الأمريكية ديسمبر 1999 نظم ونسق المعارضون لاتفاقية الجات جهودهم عبر شبكة الإنترنت، مما يدل على أن الإنسان يستطيع توظيف كل جديد في الدفاع عن هويته وذاته... وإنسانيته
الهوية والعولمة
توجد بين مفهومي الهوية والعولمة وشائج علاقات جدلية فريدة من نوعها في طبيعة العلاقة بين المفاهيم والأشياء .إنهما مفهومان متجاذبان متقاطبان متكاملان في آنٍ واحدٍ . وفي دائرة هذا التجاذب والتقاطب والتكامل ، يأخذ مفهوم الهوية على الغالب " دور الطريدة بينما يأخذ مفهوم العولمة دور الصيّاد "حسب تعبير الدكتور علي وطفة
فالعولمة تطارد الهوية وتلاحقها وتحاصرها وتُجْهز عليها ثم تتغذّى بها ، وفي دائرة هذه المطاردة تعاند الهوية أسباب الذوبان والفناء وتحتدّ في طلب الأمن والأمان ، وتتشبث بالوجود والديمومة والاستمرار .
إن العولمة تعني ذوبان الخصوصية والانتقال من الخاص إلى العام ، ومن الجزئي إلى الكلّي ، ومن المحدود إلى الشامل .وعلى خلاف ذلك يأخذ مفهوم الهوية اتجاها متقاطبا كليا مع مفهوم الشمولية والعمومية ؛ فالهوية انتقال من العام إلى الخاص ، ومن الشامل إلى المحدود ..إذْ تـبحث عن التمايز والتباين والمشخص والمتفرد والمعيّن ..أما العولمة بحثٌ عن العام والشامل واللامتجانس واللامحدود .
قضية العلاقة بين مفهوم الهوية والعولمة طُرحت على أكثر من صعيد ولا تزال تطرح لكونها من أهمّ القضايا وأكثرها صعوبة وتعقيدا وأقربها حضورا في عمق الجدل الدائر ليس لدى النخبة الثقافية والسياسية فحسب ، بل حتى لدى العديد من الناس العاديين ، ذلك أن انعكاساتها الفكرية والمعنوية ونتاجاتها المادية اقتحمت كل مجالات الحياة .
يذهب بعض المفكرين والباحثين إلى أن العولمة فعْلٌ يقلص امتداد الكون في هوية واحدة متجانسة ثقافيا واقتصاديا واجتماعيا .العولمة وفقا لهذا الرأي تعمل على بناء ثقافة واحدة ، وتسعى إلى تذويب الحدود والحواجز الثقافية والفكرية والاقتصادية بين الأمم .إنها سعْيٌ محموم لبناء المجتمع الإنساني على مقياس الثقافة الواحدة والحياة الاقتصادية الواحدة ، وبالتالي فإن ثقافة العولمة هي ثقافة الشركات العابرة للجنسيات والقوميات والثقافات
صدمة العولمة
تعتمد العولمة في مسعاها على الاقتصاد بأوسع مكوّناته وأساليبه ..الاقتصاد الحر والسوق الحرة هما اللذان يقرران كل المسارات ؛ ولا ريب أن لذلك آثاره الوخيمة على الدولة وطريقة الحكم فيها ومكانة المواطن ودوره ، وإدارة الشأن العام في المجتمع ، وترشيد الإمكانات والموارد والثروات بأنواعها .(( ومع ذلك فإن هذا لا يعني اختفاء الدولة ولا اختفاء الهوية أو الثقافة أو القومية الاقتصادية أو السياسة الوطنية ..إن هذا رغم ضآلة الحدود في التجارة ، ما تزال وستظل تلعب دورا مهمّا وأساسيا وتعبّر عن كمٍّ من الطموحات والآمال والمصالح ، غير أن أهم عناصر المرحلة الجديدة هو وقوع تحوّلات هامة ذات صلة بالدولة وعلاقاتها بالداخل والخارج ...هذه التحوّلات تبدو بشكل أكثر وضوحا في مجالي السياسة والقانون الدولي ، وبالقيم التي تحكم السلوك العالمي وما يثيره ذلك من تحدّيات
إن هذه التحولات المتسارعة التي تعدّت الحرية التجارية للسوق ، إلى الانتشار السريع للمعلومات والمعارف ، وذوبان الحدود بين الدول ، وسهولة حركة الناس من وإلى كل الأصقاع ، واندماج أسواق العالم في حقول التجارة وتنقل الأموال والاستثمارات المباشرة والقوى العاملة والثقافات ؛ فإن ذلك كله لا ينفي أنّ لكل أمة خصوصيتها الثقافية ، وأن الأيديولوجية السياسية في كل بلد تتبلور وفق خصوصية هذا البلد ، واستنادا إلى هويته مهما كانت شدة مكوّنات العولمة وصدمتها ، ووفقا لتاريخ هذا الأمة أو تلك ، وثقافتها وتحديدها للمصلحة الوطنية .
إن حرية السوق وحركة التجارة وانفتاح الأسواق ، والانتشار السريع للمعلومات وتوفر الوسائط المعرفية والمعلوماتية وتنوّعها ، لا يؤدي إلى اقتلاع الناس من زمكانهم ..سيبقوْن ثابتين وخاضعين لدولهم ومجتمعاتهم وهوياتهم حتى وإن تحركوا وتنقّلوا عبر العالم ، أو استوطنوا هنا وهناك ..ممّا يؤدي إلى أن الدولة الوطنية باقية ، وأن دورها الريادي يكون أخطر أمام التحديات الراهنة والتحولات المتسارعة ، التي يُفترض ترجمتها إلى فعل سياسي واعٍ ، يستفيد من هذه التحولات العالمية التي لا تتعارض البتّة في آنٍ واحدٍ مع الثقافة المحلية والتاريخ والهوية الوطنية .
إن ما يشهده العالم الآن من تحولات كبرى طالت وتطال كل مجالات الحياة الفكرية والمادية والبيئية ، معناه أن عالما جديدا يجري صنعه ، وتلعب التقنية والعلم الحديث الدور الأخطر فيه ..تحولات طالت وتطال البعد النفسي والفكري للإنسان وكذا ما يربطه بالغير القريب والبعيد ..معناه هناك ثقافة جديدة متجددة يجري إنتاجها .ومهما كان موقفنا من الحضارة الغربية وثقافتها التي تصدر نمط الاستهلاك للعالم الغير الغربي .
ففي الوقت الحاضر هي التي تبدو أكثر فاعلية في حياة البشر .إن ذلك ليس لمجرّد أن الثقافة ذات صلة وثيقة بنمط الحياة ، بل أيضا لأن الثقافة ذات صلة متينة بالهوية وبالمستقبل ، وبذلك تؤثر الثقافة والنظام الثقافي السائد في عملية نجاح الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية ، بل إنها تؤثر أيضا في الممارسة الاجتماعية والسلوك السياسي للأفراد
مفاهيم للهوية :
ويبدو أن ظاهرة العولمة ذات القطب الواحد التي ترى من حقها تشكيلَ العالم وفق رؤاها ومصالحها تارة ، وتحت مبرر محاربة الإرهاب حفاظا على الأمن في العالم تارات أخرى ، ومن منظور الشمولية الكونية ، باتت تطال المجالات الوطنية والقومية في مقوّماتها الثقافية الأساسية : الفكر واللغة ، الآداب ، التاريخ ، العادات والتقاليد ، وحتى أنماط العيش والسلوك ، مما يضع الدولة والمجتمع في أخطر تحدٍّ ، بعد زوال الاستعمار والحرب الباردة .
(( ... وتشير القرائن والمعطيات الماثلة في الساحة الدولية المعاصرة ، إلى أن قرننا هذا الذي ولجناه منذ هنيهة قليلة ؛ إنما هو قرن الصراع الحضاري الذي مناطه القيم الروحية والثقافية للأمة ، أكثر مما هو صراع اقتصادي على المنافع المادي
قبل أن نذهب إلى مفهوم ـ الهوية الثقافية ـ في هذه الدراسة حريٌّ بنا أن نتوقف عند مجموعة من المصطلحات والمفاهيم المرتبطة بالدراسة ، ويمكن تحديدها كالآتي :
الهوية العربية الإسلامية : ( الهوية ) مأخوذة من " هو " بمعنى جوهر الشيء وحقيقته ..إنها كالبصمة للإنسان يتميز بها عن غيره .
يُـعرّف الدكتور محمد عمارة : (( الهوية العربية الإسلامية " بأنها جوهرٌ وحقيقة وثوابت الأمة العربية التي اصطبغت بالإسلام منذ أن دانت به غالبية هذه الأمة، فأصبح ( هو) " الهوية" الممثلة لأصالة ثقافتها ، فهو الذي طبع ويطبع ، وصبغ ويصبغ ثقافتها بطابعه وصبغته . فعاداتها وتقاليدها وأعرافها وآدابها وفنونها وسائر علومها الإنسانية والاجتماعية ، وعلومها الطبيعية والتجريبية ، ونظرتها للكون ، وللذات ، وللآخر ، وتصوراتها لمكانة الإنسان في الكون مِنْ أين أتى ؟ وإلى أين ينتهي ؟ وحكمة هذا الوجود ونهايته ، ومعايير المقبول والمرفوض ، والحلال والحرام وهي جميعها عناصر لهويتنا . )) (6)
وتُعرف الهوية أيضا بمعنى " التفرّد " ، فالهوية الثقافية تعني التفرّد الثقافي بكل ما يتضمنه معنى الثقافة من عادات وأنماط سلوك وميل وقيم ونظرة إلى الكون والحياة .(7)
وتعرف الهوية بأنها "مركب " من العناصر المرجعية والمادية والذاتية المصطفاة التي تسمح بتعريف خاصٍّ للتفاعل الاجتماعي .(8)
ويفسرها تركي الحمد في كتابه : "الثقافة العربية في عصر العولمة "
(( الهوية طالما أنها مركب من عناصر فهي بالضرورة متغيرة في الوقت ذاته تتميز فيه بثبات معيّن ، مثل الشخص الواحد يُولد ويشبّ ويشيخ وتتغيّر ملامحه وتصرّفاته واحيانا ذوقه ، لكنه يبقى في الخير هو نفس الشخص وليس شخصا آخر . )) (9)
الدكتور أحمد بن نعمان يذهب في تعريفه للهوية إلى أبعد من ذلك ، إذ يحدد مفهومها لغويا أولا ، ثم مفهوميا :
(( إن مفهوم " الهوية " من ناحية الدلالة اللغوية هي كلمة مركبة من ضمير الغائب " هو " مضاف إليه ياء النسبة ، لتدلَّ الكلمة على ماهية الشخص أو " الشيء " المعني كما هو في الواقع بخصائصه ومميزاته التي يُعرفُ بها .
والهوية ـ الكلام لابن نعمان ـ بهذا المعنى هي اسم الكيان أو الوجود على حاله ، أي وجود الشخص أو الشعب أو الأمة كما هي بناء على مقومات ومواصفات وخصائص معينة تمكن من معرفة صاحب الهوية بعينه ، دون اشتباه مع أمثاله من الأشباه .)) (10)
إن الهوية الثقافية وِفْق ما سبق هي تلك الحصيلة المشتركة من العقيدة الدينية واللغة والتراكم المعرفي وإنتاجات العمل والفنون والآداب والتراث والقيم والتقاليد والعادات والأخلاق والتاريخ والوجدان ، ومعايير العقل والسلوك ، وغيرها من المقوّمات التي تتمايز في ظلها الأمم والمجتمعات ."وليست هذه العناصر ثابتة ، بل متحرّكة ومتطورة باعتبارها مشروعا آنيا ومستقبليا يواكب مستجدّات العصر ؛ وهي قابلة للتأثير والتأثر ، وكما يوجد قدْرٌ كبيرٌ من الثقافة إنساني مشترك نتيجة التواصل والتفاعل بين ثقافات الأمم المختلفة ، يوجد قدْرٌ خاصٌّ يحفظ هوية مجتمع من المجتمعات .(11)
اختراق الهوية
لقد اقترن هذا المفهوم بالتطور التقني في مجال الاتصالات والمعلومات ، وتنوع مجالات المعرفة الإنسانية ، وإنتاجها والتحكم فيها من جانب الأقوياء ، وتوظيفها كوسيلة للسيطرة والتحكم في الضعفاء تحت شعار " عولمة الثقافة " . والمقصود بهذا المصطلح البريء في ظاهره ، المدمّر للثقافات الأخرى المحلية والقومية في باطنه ـ أي جعْل هذه الثقافات ـ تستقي روحها وتوجهها من أهداف النظام العالمي الجديد ، حيث يفرض هذا النظام نموذجا لغويا معيّنا يحمل في طيّـاته شحنات فكرية وقيْـمية غريبة عن المجتمعات الضعيفة ، وآخر استهلاكيا يساعد على هيمنة الأقوياء وإضعاف طموح الأمـم الأخرى ذات الحضارة العريقة ، أو تلك التي تملك بديلا فكريا وثقافيا.
ومن هذا المنطلق يكون وسيكون للعولمة تأثير خطير على عناصر تشكيل " الهوية الثقافية " للأمم وبخاصة على وسيلة التواصل الأساسية : اللغة ـ نواة الهوية ـ إذ بات تأثيرها في اللسان أمرا واقعا لدى النُخب السياسية والإدارية والاقتصادية ، وامتدّ هذا بكل أسف حتى إلى بعض شرائح الطبقة المتوسطة في بلادنا .
من المقولات الاستشراقية التي تصبّ في منحى التسابق على موقع الصدارة بين اللغات الحية في هذا القرن الجديد ما أشار إليه الكاتب " صامويل هانتنغتون " المنظِّر للعولمة الأمريكية ، من أن العالم يتوجّه نحو حرْبٍ حضارية تكون فيها القيم الثقافية والرمزية هي الحدود القتالية بين الحضارات . وهذا ما يحدث حاليا تحت ما يُسمّى بمحاربة الإرهاب كغطاء للتمويه ، ولكنها حرْبٌ شاملة موجّهة ضد الإسلام وكل مَنْ ينتمي لهذه العقيدة .
يقول السياسي الفرنسي والوزير السابق في الحكومة الفرنسية ـ بينوت ـ :
)) لقد خسرت فرنسا امبراطورية استعمارية ، وعليها أن تعوّضها بامبراطورية ثقافية ، وهذا يعني أن المدخل الحقيقي للاستعمار الجديد هو الهيمنة اللغوية والثقافية .))
الثقافة والهوية
العلاقة بين الثقافة والهوية علاقة تلاحم ..كل خلخلة أو اختراق للثقافة سيؤدي بالضرورة إلى إضعاف لمكونات الهوية إنْ لم نقلْ تفتيتا لها مستقبلا .إن الخطاب حول " الهوية " أصبح سائدا في كل ساحات النقاش الفكري ، ليس في الدول الضعيفة فحسب ، بل حتى في الدول المتقدمة ، فهذا الاتحاد الأوروبي الذي أصبح يشكل قطبا سياسيا واقتصاديا وثقافيا كبيرا في العالم ،خاصة بعد أن أصبح يتكون من خمس وعشرين دولة ، يتوجّس خيفة من الاختراق الثقافي الأمريكي ، ويتخذ العديد من القرارات العملية لمواجهة مكونات النـمط الثقافي الأمريكي .نقاش فكري ساخنٌ هنا وهناك إلى درجة أن المؤرخ " ألفريد غروسير" رأى أن هناك : كلمات قليلة أخذت هذه الأيام البعد الذي أخذته كلمة الهوية ...فالهوية تحتل الصدارة في النقاشات الفكرية.
أَثرُ العولمةِ عَلَى الثقافةِ العربيةِ
أصبحت ظاهرة العولمة حقيقة ملموسة تعيشها الشعوب في جميع أنحاء العالم سياسياً، واجتماعياً، واقتصادياً، وثقافياً. ويعيشها البعض طرفاً فاعلاً ومؤثراً، فيما يعيشها البعض الآخر بشكل سلبي وغير إيجابي، ويكتفي بدوره متلقياً ومتفرجاً. إن العلاقة بين الثقافات يجب أن تقوم على التفاعل، والتأثر والتأثير المتبادل، بحيث لا يلغى التمايز الثقافي. لكن واقعنا المعاش حالياً، يوضح لنا أن الاحتكاك بين الحضارات قد يكون صدامينا مدمراً، أو احتوائياً أكثر تدميراً وخطورة. فالواضح أن الحضارة الغربية، هي الآن الحضارة المنتصرة والمهيمنة، وأن الاحتكاك بينها وبين الثقافة العربية لا بد أن يؤدي إلى الهضم والاستتباع؛ لأن الحضارة الغربية تملك كل مفاتيح الفوز والنصر، فلا يوجد أي توازن أو تعادل بين الحضارة الغربية والحضارة العربية في المرحلة الراهنة. وفي هذه اللحظة الحضارية، التي تتربع الولايات المتحدة الأمريكية على عرش الكوكب بلا منافس، تحاول جاهدة بكل الطرق والوسائل العلمية والاقتصادية وحتى العسكرية، فرض نموذجها الثقافي-الحضاري، تحت شعارات حقوق الإنسان، والديمقراطية، والحرية ... الخ. لقد تطرقت في دراستي إلى مفهوم العولمة وأشكالها المتعددة، وإلى خصوصية الثقافة العربية وولجت إلى المخاطر التي تفرضها العولمة الثقافية في ظل سيادة ظاهرة العولمة. وكذلك التعرف على آليات العمل الثقافي العربي في مواجهة العولمة الثقافية.
مفهوم العولمة
سكبت ظاهرة العولمة الكثير من الحبر في الكتابات العربية المعاصرة, وأوسعها المفكرون العرب دراسة وشرحاً ونقداً. والعولمة مصطلح جديد في اللغة العربية, جاء ترجمة للمصطلح الإنجليزي (Globalization). وعلى الرغم من أن كتاباً مثل صبري عبد الله وخالد الحروب استخدموا ألفاظاً من مثل "كوكبة" و"تعولم"، فإن لفظ عولمة أصبح الأكثر انتشاراً وشيوعاً. واستعمال صبري عبد الله مرتبط بفهمه للمسألة من حيث اشتراط مشاركة سكان المعمورة كافة في هذه الظاهرة.1 ويقول الحروب: "إن التعولم تعبير عن عملية ليست جديدة, بل قديمة جداً ومستمرة إلى ما لا نهاية".2 فالعولمة عبارة عن نظام عالمي, يقوم على تحرير الأسواق و"الفضاءات الاقتصادية والتبادلات التجارية والمالية والخدمية ... وعلى الاختراق المتواتر للخصوصيات والحدود الثقافية والقيمية والجغرافية والسياسية".3 فهي تعني: تعميم الشيء ليشمل الكل, ومفهومها لا ينفصم عن التطور العام للنظام الرأسمالي, وتعد حلقة من حلقات تطوره التي بدأت مع ظهور الدول القومية في القرن الثامن عشر. والخلاصة أن العولمة بمفهومها الأوسع هي "ظاهرة أو حركة معقدة ذات ابعاد اجتماعية واقتصادية وسياسية وحضارية وثقافية وتكنولوجية، أنتجتها وساهمت في سرعة بروزها التغيرات العالمية"،4 التي حدثت في العصر الحالي, وكان لها تأثير عظيم على حياة الأفرد والمجتمعات والدول.
مفهوم الهوية
الضمير هو . أما مصطلح الهو هو المركب من تكرار هو فقد تمّ وضعه كاسم معرّف ب أل ومعناه (( الإتحاد بالذات)) [1]. ويشير مفهوم الهوية إلى ما يكون به الشيء هو هو ، أي من حيث تشخصه وتحققه في ذاته وتمييزه عن غيره ، فهو وعاء الضمير الجمعي لأي تكتل بشري ، ومحتوى لهذا الضمير في نفس الآن ، بما يشمله من قيم وعادات ومقومات تكيّف وعي الجماعة وإرادتها في الوجود والحياة داخل نطاق الحفاظ على كيانها [2] .
وتأسيسا على المقاربة الفلسفية ، تعبّر الهوية عن حقيقة الشيء المطلقة المشتملة على صفاته الجوهرية التي تميّزه عن غيره ، كما تعبّر عن خاصية المطابقة أي مطابقة الشيء لنفسه أو لمثيله ، وبالتالي فالهوية الثقافية لأي شعب هي القدر الثابت والجوهري والمشترك من السمات والقسمات العامة التي تميز حضارته عن غيرها من الحضارات [3] .
ومن العسير أن نتصور شعبا بدون هوية ، أو نقتنع بما يزعمه داريوس شايغان أن الهوية (( صورة مغلوطة للذات )) [4] ، فمن نافلة القول تأكيد ما أثبتته الدراسات السوسيولوجية من أن لكل جماعة أو أمة مجموعة من الخصائص والمميزات الاجتماعية والنفسية والمعيشية والتاريخية المتماثلة التي تعبّر عن كيان ينصهر فيه قوم منسجمون ومتشابهون بتأثير هذه الخصائص والميزات التي تجمعهم .
ومن هذا الشعور القومي ذاته ، يستمد الفرد إحساسه بالهوية والانتماء ، ويحسّ بأنه ليس مجرد فرد نكرة ، وإنما يشترك مع عدد كبير من أفراد الجماعة في عدد من المعطيات والمكونات والأهداف ، وينتمي إلى ثقافة مركبة من جملة من المعايير والرموز والصور[5] . وفي حالة انعدام شعور الفرد بهويته نتيجة عوامل داخلية وخارجية ، يتولد لديه ما يمكن أن تسميه بأزمة الهوية التي تفرز بدورها أزمة وعي Warness crisis تؤدي إلى ضياع الهوية نهائيا ، فينتهي بذلك وجوده [6] .
وإذا كان إجماع الباحثين حول فكرة أنه لا وجود لشعب دون هوية ، فإنهم اختلفوا في الشكل الذي يحدد الهوية . وفي هذا السياق انتقد أحد الباحثين [7] ، ما أسماه بالشكل الميتافيزيقي الذي يحدد هوية الأمم والشعوب ، ويقدم شخصيتها في إطار تصورات استاتية أو نماذج مثالية ، دون الرؤية إليها كمجموعات حية تتميز باحتمالات تكشف عن ذاتها في عملية تحققها ، ويطرح مقابل ذلك مقاربة سوسيولوجية ترى أن الهوية تتغذى بالتاريخ وتشكل استجابة مرنة تتحول مع تحول الأوضاع الاجتماعية والتاريخية ، فتمتحّ منها ، دون أن تشكل ردّا طبيعيا ، وبذلك فهي هوية نسبية تتغير مع حركة التاريخ وانعطافاته .
________________________________________
تحديـات الثقافـة المعولمــة
أضحت ظاهرة العولمة الهاجس الطاغي في المجتمعات المعاصرة، فهي تستقطب اهتمام الحكومات والمؤسسات ومراكز البحث ووسائل الإعلام. وتعاظم دور العولمة وتأثيرها على أوضاع الدول والحكومات وفي مختلف الأنشطة الاقتصادية والسياسية والثقافية فيها، ومن الواضح أن مصطلح العولمة قد انتشر في الخطاب السياسي وفي وسائل الإعلام المختلفة، شأن الكثير من المصطلحات الغربية الأكثر انتشاراً وتأثيراً على مجمل النشاط السياسي العالمي، ولكن برغم الكم الهائل من الكتابات والمقالات والندوات والمؤتمرات التي تناولت مفهوم العولمة في الخطاب الثقافي الإعلامي العربي المعاصر، إلا أن الملاحظ اقتصار غالبية ما صدر إلى الآن على الجانب أو البعد الاقتصادي لهذه الظاهرة، بينما غابت عملياً الجوانب الأخرى وفي مقدمتها الثقافية.
فالعولمة في المجال الثقافي تهدف إلى بلورة عناصر وأنماط ثقافية - سلوكية ذات سمات خاصة، تستفيد منها الفئات المسيطرة على العمليات الاقتصادية، والسياسية، والإعلامية، التي تحتكر التقانة والإنتاج الإعلامي والإعلاني على المستوى العالمي، وفي هذا السياق يمكن تأكيد أن الشركات المتعددة الجنسيات المسيطرة على أدوات التقانة والاتصال الحديثة تلعب دوراً بارزاً في تغيير اتجاهات الأفراد سواء داخل المجتمع الغربي ذاته، أو في المجتمعات التابعة أو الاستهلاكية، وكان التأثير الأكبر على الفئات الشعبية في المجتمعات التقليدية، التي تتغلغل فيها الثقافات الغربية الموجهة، وبسبب الاختراق الكاسح للعمليات الاقتصادية والإعلامية والثقافية تراجع دور العامل الثقافي - الاجتماعي في المجتمعات التقليدية والنامية، فقد اتضح أن الاختراق الحاصل في ظل العولمة وآلياتها المتشابكة المعقدة، يؤدي إلى تهديد منظومة القيم الأصيلة، ويشكل نوعاً من الازدواجية الثقافية التي تجتمع فيها عناصر الأصالة والمعاصرة مما يؤدي إلى تهميش أو تغيير ملامح الثقافة الوطنية
عولمة الثقافة...
تُعتَبر تكنولوجيا المعلومات والاتصال من أهم قوى الدفع للعولمة الثقافية،فقد تقلَّصَ الزمان والمكان في تبادل المعلومات والعلاقات والمفاهيم والآراء والنظريات .. إلخ ما أدى إلى انصراف الناس عن الكتاب وبالتالي تضخم سوقه ما يعني اتساع الفجوة بين المواطن والثقافة المحلية من فنون وآداب ومعارض ومهرجانات .. ولاعجب بأن تُغلَقَ المراكز الثقافية فعلياً بعدما اختارتْ أن تعزلَ كيانها عن المجتمع المدني وحاجياته وتطوراته..
هذه المراكز(الثقافية) ولأنها لم تؤدي واجبها ومهامها بالالتزام بالثقافة كضرورةٍ وحاجةٍ لنمو المجتمع فقد أثبتتْ فشلها بل عجزها أمام تحديات العولمة الثقافية… وهذه المباني تحوَّلتْ إلى (مقاهٍ) لتبادل الأحاديث العامة وفي مقدمتها السياسية وارتشاف فناجين القهوة واستشراف الغيب بنفث دخان التبغ في الأجواء…
هكذا هو الحال الواقع ، ما أدى إلى صِدامٍ هائلٍ بين المثقف الحقيقي الذي يحملُ رسالة التنوير ونشر الوعي وبين دعاة الثقافة الذين يحملون همومهم الشخصية كحاجتهم إلى المال من أجل وقود الشتاء، ومؤونة الغذاء ، وذخيرةٍ لمعالجة البلاء.. وهلمَّ جراً… لكأن المراكز الثقافية قد أُوجِدَتْ لمناقشة تلك الخصوصيات بدل قضايا الثقافة التي انتحبتْ منذ أن تسنَّمَ عروش المناصب الثقافية رجالٌ لايربطهم بالثقافة أي رابط سوى مصلحتهم الشخصية..
لهذا ظهرت فئةٌ من الأوفياء لهؤلاء الرجال ( رعاة بل دعاة الثقافة) فراحت تتبادلُ وإياهم المصلحة أو المنفعة المشتركة، ما يعني إبعاد كل ما يُعكِّر صفوهم من الفئات الشابة التي عاهدت نفسها على الجهاد من أجل وفي سبيل الثقافة لضرورتها .. وتستمر الكوميديا الثقافية ، فيُوافق هؤلاء الدعاة على نشر أعمال أوفيائهم من خزينة الدولة ما يعني اختلاسٌ واضحٌ وصريح يتبنَّاه الطرفان الداعية الثقافي ومريده الوفي…
تلك الأعمال نراها على رفوف المكتبات وفي الشوارع ، ليس لأن الناس ابتعدوا عن القراءة بل لأنها هي العلة بمعنى أنها لا تحملُ مضموناً أو فكرةً ترقى إلى المستوى الفكري والثقافي الذي لدى الناشئة.. وهذا برأيي إرهابٌ ثقافيٌّ يُمارَسُ علناً من قبل تلك الجهات فهي تفرضُ ثقافةً قديمةً بالَ الدهر عليها بعد أن شربَ الزمان ، فالعالمُ في تطورٍ دائمٍ ومستمر بينما هذه الأعمال تعبر عن صورة أهل الكهف أولئكَ الذين يسمعون ويستمعون إلى الفكر المنفتِح لكنهم لا يفقهون شيئاً ، يتحدثون ويُحدِّثون أصحاب الفكر المنفتِح فيعجزون عن إيصال أفكارهم وآرائهم، يشاهدون الفجوة والواقع المرير لكنهم لا يرون الحقيقة كالفروق الشاسعة والواسعة بين فكرهم القديم الذي لا يتلائم والعصر الراهن والفكر الحديث الذي يُطالب بالثقافة والانفتاح على ثقافات الآخر وحضاراته..
ومن الطبيعي أن العاجز عن رؤية الحقيقة ـ العلَّة أو الاعتراف بها قطعاً عاجزٌ عن تشخيص الحالة وتقديم العلاج الناجع لها وهو ضرورة الانفتاح الثقافي بالمعنى الواسع للعبارة.. فالثقافة ينبغي أن تسود في كل مجالات الحياة ، في السياسة والاقتصاد والعلاقات العامة ووو…
إن اندماج بلدٍ ما( وخاصةً ذاك الذي يشكو من خمولٍ بل جمودٍ بل شللٍ ثقافي) في الثقافة العالمية يشكِّلُ نوعيةً وتوعيةً ثقافيةً ( وخلقناكم شعوباً وقبائلَ لتعارفوا) .. هذا الاندماج يعلِّم كيفية الارتقاء بآليات التأقلم الايجابي مع خطر العولمة وبالتالي كيفية الاسراع لردم الهوة من خلال التنافس الفكري سواء على الصعيد الفردي أو المجتمعاتي ككل..
ما يؤدي إلى تحقيق مكاسبَ عديدةٍ له أولها تعزيز ودعم وحماية خصوصيته الثقافية، ما يعني صموده أو بالأحرى تقدمه وتطوره لأن التطور يعني مقاومة الخطر أولاً وأخيراً..
نهايةً ليس بمقدور أي انسانٍ أن ينأى عن تأثير العولمة وإلاَّ بقيَ في عزلةٍ أبديةٍ من التهميش والتبعية ليس محلياً فقط بل عالمياً.. وعليه، فإ أي بلد عربي عليه إما التأقلم ( الايجابي) مع العولمة أو التعرض( السلبي) لتهديداتها ..
…
عولمة الثقافة وثقافة العولمة
تعرض مفهوم الثقافة (CULTURE) الى نقد واعادة نظر شديدين، وما العولمة الا واحدة من العوامل التي تعقد الحوار حول الثقافة بشكل عام. آخر الكتب التي ناقشت هذا الموضوع الجدلي في الغرب هو كتاب اعدته شاري آوتنر (Sherry Ortner) استاذة الانثربولوجيا بجامعة كولومبيا تحت عنوان «مصير الثقافة». جاء هذا الكتاب كنوع من الاحتفاء بالمنظر الامريكي الكبير كليفورد جيرتز (Clifford Geertz). شارك في هذا الحوار النقدي حول الثقافة مجموعة من المنظرين الكبار من امثال جورج ماركوس وناتلي ديفز ورينالتو روزودو وآخرين. وكانت نقطة الخلاف الاساسية مع رؤية جيرتز التي ترى الثقافة على انها «عنكبوت مشترك يعطي معنى لحياة الناس في مجتمع محلي». فهناك على سبيل المثال الثقافة التلفزيونية التي تدخل على المجتمعات المحلية، وتتشابك مع رموز الثقافة المحلية، تلك الرؤية جاءت من دراسة لليلى ابو لغد (استاذة الانثربولوجيا بجامعة نيويورك) والتي اجرتها في قرية في غرب الاقصر من جنوب مصر. النقطة الاساسية هنا هي ان مفهوم «الثقافة» بشكلها التحليلي هو مثار مراجعة وجدل في الجامعات الغربية، بنفس الدرجة من اللخبطة التي تدور حول مفهوم العولمة. ورغم هذا الجدل الدائر حول موضوع الثقافة في الغرب، نجد ان الاستاذين الدكتور سمير امين والدكتور برهان غليون يتحدثان عن الثقافة في اطار العولمة، وكان موضوع الجدل حول الثقافة غير قائم. ففي كتابهما الذي اتعرض له هنا «ثقافة العولمة وعولمة الثقافة» يتعرضان لعلاقة بين متغيرين اساسيين هما الثقافة والعولمة وكأن الحوار قد انتهى حول تعريف المفهومين.
هذا المقال هو الثالث في سلسلة المناقشة النقدية التي وعدت بها قراء «الشرق الأوسط» حول ما اسميته «عولمتهم وحوارنا». ما من شك ان الحوار بين سمير امين وبرهان غليون هو حوار اغنى بكثير من الاوراق التي قدمت في كتاب «العرب والعولمة»، والذي كان، وكما قلت في المقال السابق، كتابا عن الغرب وليس عن العرب، تعرض برهان الى تحديد مفهوم العولمة الذي يناقش موضوع الثقافة من خلاله، فعرفها على انها «تتجسد في نشوء شبكات اتصال عالمية تربط جميع الاقتصادات والبلدان والمجتمعات وتخضعها لحركة واحدة». ينظر برهان للعولمة على انها ظاهرة جديدة، على عكس محاوره سمير امين الذي يراها كاستمرار للحالة الرأسمالية والامبريالية التي تخضع الاطراف لسيطرة المركز اقتصاديا وبالتبعية ثقافيا.
العولمة بالنسبة لبرهان هي اندماج لمنظومات ثلاث اساسية هي المنظومة المالية، والمنظومة الاعلامية والاتصالية، والمنظومة المعلوماتية المتمثلة في شبكة الانترنت، العولمة من وجهة نظره هي «الدخول في مرحلة من الاندماج العالمي الاعمق» ودونما توضيح لسبب فصل المعلوماتية والاتصال والاعلام كمنظومتين مستقلتين، يتبنى برهان غليون حتمية عالم المعلوماتية والقرية الصغيرة التي طرحها استاذ الاتصال الكندي مارشال مالكون.
ويرى غليون ان عملية الهيمنة الثقافية في اطار تضافر هذه المنطومات ويكون موقعنا حسب قوله اننا «خاضعون لتحولات دولية لا طاقة لنا في تعديل اتجاهها. والمهم ان نفهم آليات الهيمنة الجديدة وأن نسعى بكل امكانياتها الى تغيير او تعديل اثرها علينا». (ص37) وسؤال غليون في ما يخص الثقافة بشكل عام هو: هل نحن في اتجاه تكوين ثقافة عالمية واحدة يكون الصراع في داخل محتواها الكبير، ام اننا في اتجاه صراع الثقافات؟ هل ستكون الثقافة الوطنية هي مصدر مقاومة ثقافة العولمة؟
ويرى غليون ان هناك تحديين للثقافة العربية الاول هو الاستسلام الذي يؤدي في نظره الى الانحلال والتفكك، والثاني هو الرفض والاحتجاج وبالتالي نكون بمثابة الثقافة المضادة لثقافة العولمة.
ويفضل غليون ان تكون مواجهة العرب للعولمة تأتي في اطار اعادة تعريف الذات ومقاومة العولمة كجزء من منظومة عالمية، هذا يستدعي حسب وجهة نظر غليون الى الاعتراف بقصور انظمتنا الاجتماعية والثقافية، وان نكسر آليات التبعية وننطلق نحو العالمية بهدف القضاء على هامشيتنا الحضارية.
اما الدكتور سمير امين في ورقته المعنونة «ثقافة العولمة وعولمة الثقافة» كان متسقا مع ذاته القديمة فطرح لنا موضوع ثقافة العولمة على انه استمرار للثقافة الرأسمالية المهيمنة منذ قرون. وجوهر ورقة امين على حد تعبيره يتعلق بموضوع «المعارضة في العلاقة التي تحكم الامور السياسية والاقتصادية في مجتمعات العالم المعاصر، وبين الخصوصية الظاهرة التي تحكم الحياة الثقافية». (ص 61).
وهو يرى ان الحوار العربي الاسلامي حول موضوع الحداثة والاصالة لا يهتم بهذه العلاقة بين عولمة السياسة والاقتصاد ودافع الخصوصية الثقافية المخادع. حيث يرى امين ان ثقافة الاصولية الاسلامية هي اساس المشكلة بالنسبة لتعامل العرب مع السيطرة الثقافية الامبريالية، ويطرح الحل في اطار قد يختلف في المنهج عن برهان غليون، ولكنه يتفق في الجوهر وهو اننا لا بد ان نعيد النظر في حالتنا الثقافية ونحاول ان نقاوم العولمة في اطار عالمي اوسع وان نكون جزءا من طرح لعولمة بديلة اكثر انسانية. وكما في كتاب «العرب والعولمة» الذي ذكرته في المقال السابق تكون مرجعية كل من امين وغليون مرجعيات غربية على مستوى المعرفة وكذلك المادة المستوحاة. لكن امين يبقى كما ذكرت مخلصا لمنهجه الماركسي الذي بدأه منذ ان كتب اطروحته عام 57 والذي لم يغيره حتى الآن ولا تثريب على ذلك، ولكن الاصرار على الاستمرارية مقابل مراحل الانقطاع التاريخية هو عرضة للنقد الآن اكثر مما قبل، ورغم عالمية اسم سمير امين الا ان ورقته لا تختلف في جوهرها او حتى في مخبرها عن ورقة قدمها امانويل ولوستاين، ضمن كتاب عن «الثقافة والعولمة والنظام العالمي» ( Culture Globalization and the world system) والذي حرره البرفسور انتوني كنج وصدر عن دار جامعة منسوتا عام 1997.
ولم يكن الحوار بين غليون وسمير امين سوى تلخيص لحوار غربي قد يكونان هما فاعلين فيه، ولكنه في النهاية مثله مثل سابقيه لا يشير الى حقائق العالم العربي كحالة جماعية او حتى كحالات منفردة، وتبقى في هذا الحوار حول العولمة والثقافة فجوات اكبر عمقا، حيث الى جانب مشكلة تعريف مفهوم الثقافة الذي لم يتعرض له الباحثان، تبقى اشكالية طرحهما للعولمة في اطار المنظومات الكبرى المالية والاعلامية والاتصالية، وتكون الثقافة والبشر وحركتيهما حثيثة كنتائج للمنظومات السالفة الذكر. من انجاز منااااصف سمية
التعليقات (0)