أعود مرة بعد أخرى إلى بعض كتب التاريخ لأستوثق من بعض الأحداث والوقائع، خاصة وأن تيارات كثيرة تحاول اليوم أن ترتكز على التاريخ، فتتعامل معه بمنهج يستجيب لطروحاتها وأفكارها. ولذلك تعمد إلى تزوير الحقائق وتلفيقها.
عثرت مرة على كتاب لأحد المؤرخين القدامى، وهو مطهر بن طاهر المقدسي (توفي عام 375 هجرية). هذا الكتاب هو "البدء والتاريخ" الذي ألفه صاحبه سنة 355 هجرية. وقد عدت إليه لأنه من أفضل المصادر للتعرف على مبادئ ومعتقدات الخرمية وبابك الخرمي.
وللإشارة فهذا الكتاب ظل يُنسَب قرونا لأحمد بن سهل المعروف بأبي زيد البلخي، خاصة وأن من الذين ذكروا أنه له حاجي خليفة في كشف الظنون، وابن الوردي في خريدة العجائب. ولما نشر المستشرق "زتنبرغ" (Hermann Zotenberg 1834-1909) كتابا للثعالبي النيسابوري في تاريخ الفرس (هو كتاب "غرر أخبار ملوك الفرس وسيرهم")، ظهر فيه أن صاحبه ينسب كتاب "البدء والتاريخ" لمطهر بن طاهر المقدسي. كما نسبه إليه أيضا أحد علماء ما يسمى اليوم بـِ "مقارنة الأديان"، أبوالمعالي محمد عبدالله الفارسي في "بيان الأديان".
وقد قام بتحقيق كتاب المقدسي المستشرق الفرنسي كليمان هوار Clément Huart الذي كان قنصل فرنسا في دمشق، وأكد نسبة الكتاب للمقدسي، خاصة وأنه صُنف سنة 355 هجرية، في حين توفي البلخي سنة 322 للهجرية.
وللإشارة أيضا فالخرمية –أو الخرمدينية كما ذكرها البغدادي وغيره- هي استمرار لدين المزدكية الفارسي الذي كان يؤمن بالثنوية، أي وجود إلهين: إله النور وإله الظلام، أو إله الخير وإله الشر. وكان مزدك يرى أن أسباب النزاع والشقاق بين الناس تؤول إلى أمرين: النساء والأموال. لذلك رأى أن الحل لحسم ذلك النزاع هو أن يكون النساء والأموال مشاعين بين الناس!
أقول: عدت لكتاب المقدسي، وبالتحديد الجزء السادس منه، لزيادة معلوماتي حول الخرمية.
استوقفني النص التالي في الكتاب، وكنت أقرأه على ضوء المجازر التي يرتكبها الآن طاغية الشام الحقير:
[أمر بابك أصحابه من النواحي والقرى، وكان في ذلة وقلة، وأعطاهم سيوفا وخناجر، وأمرهم أن يرجعوا إلى قراهم ومنازلهم وينتظرون ثلث الليل الأخير، فإذا كان ذلك الوقت يخرجوا على الناي فلايدعون رجلا ولا امرأة ولا صبيا ولا طفلا من قريب وبعيد إلا قطعوه وقتلوه.
ففعل القوم ذلك، فأصبح أهل تلك القرى قتلى بأيدي الخرمية لايدرون من أمرهم بذلك ولا السبب فيه، ودخل الناس رعب شديد وهول عظيم، ثم لم يمهل أن بعثهم إلى ما نأى عنه من النواحي، فيقتلون من أصابوا من الناس من أي صنف كان صغيرا أو كبيرا أو مسلما أو ذميا حتى مرن القوم على القتل، وانضوى إليه القطاع والحراب والدعار وأصحاب الفتن وأرباب النحل الزائغة، وتكاثفت جموعه حتى بلغ فرسان رجاله عشرين ألف فارس سوى الرجالة، واحتوى على مدن وقرى، وأخذ بالتمثيل بالناس والتحريق بالنار والانهماك في الفساد وقلة الرحمة والمبالاة...] (1).
لاحظوا هذا الكلام:
"يقتلون من أصابوا من الناس من أي صنف كان صغيرا أو كبيرا أو مسلما أو ذميا حتى مرن القوم على القتل"!
فعمن يتكلم المقدسي رحمه الله: عن أتباع بابك، أم عن جيش وشبيحة طاغية الشام، والذين لايمكن أن نجد لهم وصفا أفضل مما ذكره المقدسي رحمه الله: " القطاع والحراب والدعار وأصحاب الفتن وأرباب النحل الزائغة" ؟
ثم لاحِظْ ذكره لـِ "أرباب النحل الزائغة" الذين انحازوا إلى بابك. أو ليس "الرافضة" المنحازون لطاغية الشام أيضا "أرباب نحل زائغة"؟
ويؤكد المقدسي رحمه الله –وكأنه يرى المجرمين والقتلة بالشام يمثلون بأجساد الأحياء وجثت الأموات حتى أنه لم يسلم من تمثيلهم الأطفال- أن بابك " أخذ بالتمثيل بالناس والتحريق بالنار والانهماك في الفساد وقلة الرحمة والمبالاة..."!
عدت إلى كتاب آخر، لكنه هذه المرة لأحد المناصرين للبابكية الخرمية، ممن يعتبرون أن استمرار ثورة بابك لفترة طويلة "من عظمة وأهمية هذه الثورة" (2)، فوجدته يقول عن معتقداتها:
"تَركت المعتقداتُ الصادقة والحية لهؤلاء الناس البسطاء مكانها إلى النظرية المغرضة وآراء مؤيدي الدين الآخر" (3)، يقصد الإسلام. ولايهمنا، انطلاقا من هذا النص، أن يكون صاحبه –والذي هو بالمناسبة أحد علماء الاجتماع ممن يعتبرون من مؤسسي هذا العلم في إيران في أربعينات القرن الماضي- مسلما أم لا، بقدر ما يهمنا أن في كتابه تعاطفا واضحا مع الديانات السابقة على الإسلام، ومع أصحاب "النحل الزائغة" بعد دخوله إيران.
فهل ينفي هذا الرجل المذابح التي قام بها بابك، وهو المتعاطف معه، والمتأسف على اندحاره والقضاء عليه؟
أبدا. يقول:
"مما لاشك فيه أن المذبحة التي أشار لها المقدسي والآخرون وقعت للمسلمين أكثر من غيرهم، لأن الخرمدينية يعتبرونهم أعداءهم. وذكرت المصادر أن عدد الأشخاص الذين قتلوا من المسلمين خلال زعامة بابك بلغ مائتان وخمسة وخمسين ألف وخمسمائة شخص" (4).
لنلاحظ في هذا الكلام قوله أن المذبحة " وقعت للمسلمين أكثر من غيرهم".
ماذا يعني هذا؟
يعني بكل بساطة التطهير العرقي، كما يمارسه الآن "شبيحة" الأسد ضد أهل السنة في سوريا.
وبما أن ملة "الرفض" واحدة، فالأساليب واحدة.
فطاغية الشام يقصف ويدمر المدن والقرى بالطائرات المحملة بالصواريخ وبراميل النفط الحارقة، وبابك يدمر نفس التدمير وفق المستوى "الحضاري" للعصر الذي كان يعيش فيه. يقول المفكر الإيراني المذكور:
"بعد سيطرته على البذ ونواحيها، لجأ المسلمون إلى المراغة خوفا منه وتحصنوا فيها. دمر بابك المدن والقرى تباعا في أطراف البذ لكي يستطيع السيطرة عليها وحكمها..." (5).
ما الذي أريد أن اخلص إليه؟
إن الهدف هو التأكيد على أنه مهما دمر وقتل وأحرق وأفسد...الطغاة في هذه الأمة، فسيندثرون تصحبهم اللعنات مثلما اندثر من سبقهم من المفسدين والسفاحين مثل بابك وغيره، وستبقى هذه الأمة عزيزة شامخة منتصرة، خاصة إذا كان من يتسلط عليهم هؤلاء السفاحون والقتلة بالتدمير والذبح والتقتيل...هم أهل الشام الذين قال جاء في الحديث عنهم:
عن أبي إدريس الخولاني عن عبدالله بن حوالة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنكم ستجندون أجنادا : جندا بالشام ، وجندا بالعراق ، وجندا باليمن" ، فقال ابن حوالة : خر لي يا رسول الله ! قال : "عليك بالشام ؛ فمن أبى فليلحق بيمنه، وليسق من غدره ؛ فإن الله توكل لي بالشام وأهله". فكان أبو إدريس الخولاني إذا حدث بهذا الحديث التفت إلى أبي عامر فقال: من تكفل الله به فلاضيعة عليه (أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم، وصححه وأقره الذهبي).
_________
1-مطهر بن طاهر المقدسي، البدء والتاريخ، مكتبة الثقافة الدينية، مصر . ص 6/116.
2و3-د. غلام حسين صديقي، الحركات الدينية المعارضة للإسلام في إيران في القرنين الثاني والثالث الهجريين، ترجمة د. مازن إسماعيل النعيمي. دار الزمان للطباعة والنشر، سوريا. ط1/2010، ص 127.
4-نفسه ص 147.
5-نفسه ص 135.
التعليقات (0)