بعد الاطلاع على مشروع قانون العدالة الانتقالية الذي أدخلت بموجبه تعديلات جوهرية على المشروع الأول الذي كان مقدما من وزارة العدل يمكن إيراد الملاحظات الآتية:
1ـ أن هذا المشروع يكرس لعدالة انتقائية وليس عدالة انتقالية مما يمهد لتعميق الشرخ الاجتماعي. فهو يميز بين الجرائم حسب وقت ارتكابها وبين المجرمين حسب انتماءاتهم السياسية. فمرتكبو الانتهاكات بعد انهيار النظام السابق يختلف عن ما ارتكب في ظل هذا الأخير. كما أن ضحايا النظام الحالي ليسوا كضحايا النظام السابق. وبذلك يكرس هذا القانون بوضوح ازدواجية المعايير ويميز بين المواطنين سواء كانوا ضحايا أو مرتكبي لأفعال مجرمة وهو ما يجعله قانونا يتعارض مع المعايير الدولية والمبادئ الدستورية ويؤسس لدولة لا تحترم مواطنيها على قدم المساواة.
هذا القول هو نتيجة لما نص عليه مشروع القانون في مادته الاولى من أن العدالة الانتقالية هي معالجة ما تعرض له الليبيون خلال النظام السابق من انتهاكات جسيمة وممنهجة لحقوقهم وحرياتهم الأساسية.
وكان على أي مشرع يحترم حقوق المواطنة ومنها حق الحماية بقواعد عامة ومجردة للحقوق والحريات أن ينص على وضع كافة الانتهاكات في ميزان واحد ايا كان وقت ارتكابها.
2ـ ومع أن المشروع أشار في ديباجته للاتفاقات الدولية التي تعتبر ليبيا طرفا فيها، إلا أن هذا المشروع ميز بين الجرائم الجسيمة التي ارتكبت في ليبيا حسب المتهمين بارتكابها ووقت اقترافها. وبهذا التمييز ينتهك الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم التعذيب وجرائم الحرب، حيث إن هناك جرائم حرب ارتكبت في ليبيا في ظل الوضع القائم وهناك جرائم ضد الإنسانية ارتكبت ضد أفراد وجماعات منها جرائم تعذيب وجرائم تهجير. ولا يمكن لمشرع يحترم الحقوق والحريات ويعمل بقول النبي صلى الله عليه وسلم ( لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يده) أن يخرجها من دائرة العدالة الانتقالية وان يجهد نفسه بصياغة عبارات مبررة لها، كما هو حال عبارة ( وأعمال ضرورية لتحصين الثورة داخلتها بعض السلوكيات غير الملتزمة بمبادئها). حيث لا يمكن بأي حال من الأحوال اعتبار الاعتقالات التعسفية أو القبض على الهوية أو امتهان الإنسان أو تعذيبه أو قتل السجناء أو سلب الممتلكات من الأعمال الضرورية لإسقاط النظام. ومحاولة تبرير هذه الجرائم التي تهز ضمير الإنسانية جمعاء هو انحراف واضح عن مبادئ الإسلام الحنيف وتوظيف للقوانين لحماية جهات معينة. وهو ما يعني أن المشرع ليس مشرعا لمصلحة كل الليبيين في حالة تبنيه لمثل هذا المشروع.
3ـ أكد مشروع قانون العدالة الانتقالية الحالي هذا التمييز بين الجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب والتعذيب عندما نص على إنشاء نيابة العدالة الانتقالية وحدد اختصاصها بالانتهاكات الجسيمة والممنهجة الواقعة من قبل النظام السابق منذ تاريخ 1،9،1969 إلي حين إعلان التحرير. وهو ما يعنى انه لا اختصاص لها بالانتهاكات الجسيمة التي ارتكبت بعد سقوط النظام. وهو موقف لاشك أنه ينتهك بشكل واضح روح الإعلان الدستوري ومبادئ الشرعة الدولية لحقوق الإنسان ومبادئ الشريعة الإسلامية التي حاول واضعو المشروع إيضاح اعتمادهم عليها في هذا المشروع.
4ـ مشروع قانون عدالة تنتقي من يتم محاكمتهم من شأنه أن يزيد من حجم الغبن والظلم الذي يشعر به كثير من الليبيين الذين انتهكت حقوقهم وسلبت أموالهم بتوظيف أجهزة الدولة الرسمية وشبه الرسمية. وهو ما يزيد الهوة بينهم وبين مؤسسات الدولة ويفقدهم ما تبقى من ثقة وأمل في أن تسير المؤسسات الانتقالية بليبيا على طريق دولة الحق والقانون.
5ـ ما سبقت الإشارة إليه يتناقض بشكل واضح مع أهداف مشروع القانون نفسه. فقد نص في مادته الرابعة على انه يهدف إلي الحفاظ على السلم الاجتماعي وعلى بث الطمأنينة في نفوس الناس وإقناعهم بأن العدالة قائمة وفعالة وعلى تحقيق مصالحات اجتماعية وهذا التمييز الذي تضمنه القانون ينتهي الي نتائج عكس ذلك تماما فهو لن يؤدي إلا إلي إبعاد إمكانية تحقيق مصالحات اجتماعية وسوف يقنع الناس أن هناك محاولات من النظام الجديد لتبرير جرائم الفاعلين تحت ستاره وإقناع جزء لا يتجزأ من المجتمع الليبي إن إرضاء الشعور بالعدالة لديهم ليس من اهتمامات السلطة التشريعية الجديدة.
6ـ نص المشروع في الفقرة الرابعة من المادة الرابعة على أن من أهداف القانون: ( كشف وتوثيق أوجاع ومعاناة المواطن الليبي في النظام السابق) وبالتالي فهو يتجاهل بوضوح معاناة الليبيين وأوجاعهم بسبب الانتهاكات التي ارتكبت ضدهم في الفترة الانتقالية بواسطة مجموعات تنتسب حقيقة او حكما بشكل رسمي أو غير رسمي للنظام الجديد. وهو أمر من شأنه أن يعقد من إمكانية الوصول إلي سلم اجتماعي حقيقي. حيث يمكننا تصور جزء من المجتمع الليبي يعوض عن جرائم التعذيب و الاعتقال التعسفي والقتل خارج إطار القانون بينما هناك ضحايا آخرون لجرائم مماثلة يتم تجاهلهم تماما في قانون أريد له أن يكون جسرا للوصول لدولة الحق والقانون.
7ـ نص مشروع القانون في مادته الخامسة على أن العدالة الانتقالية في ليبيا تقوم على تحقيق عدة جوانب منها إصدار قوانين ونصوص دستورية تكشف عن عدالة الثورة على النظام السابق وعدم مشروعية القوانين الظالمة. وهو قول ليس له أي سند في المشروع الذي أعدته اللجنة التشريعية بالمؤتمر الوطني. فما نستنتجه من خلال الاطلاع على هذا المشروع هو عكس ذلك تمام لأن هذا المشروع نفسه يعكس اتجاه نحو أقرار قوانين ظالمة تحمي مجرمين من القانون بالقانون وتحرم ضحايا جرائم من جبر الضرر المادي والمعنوي الذي لحق بهم أو تعوضهم وفق معايير مختلفة لا لشيء إلا لان من قاموا أو ساهموا بالتحريض أو بالاتفاق أو المساعدة على إلحاق الضرر بهم هم من المتنفذين في الوقت الحاضر والقادرين على توظيف أعمال السلطة التشريعية لتحقيق مصالحهم وحمايتهم من المثول أمام العدالة.
8ـ هذا التكريس للتعامل مع الانتهاكات بشكل لا يتناسب مع روح الشريعة الغراء ومع الاتفاقات الدولية ومع المبادئ المستقرة في كافة التشريعات والتي يكفي لإدراكها التدبر في طبيعة الأشياء نلاحظه- أيضا- في نص المادة 20 من المشروع والتي تعطي إمكانية لهيئة تقصي الحقائق والمصالحة في إنشاء فريق خاص للتحقيق في انتهاك عام من انتهاكات حقوق الإنسان في المجتمع الليبي من قبل النظام المنهار. وهو الأمر الذي يعني استبعاد إمكانية الهيئة في إنشاء فريق تحقيق في إي انتهاك عام وقع من غير النظام السابق ومنها الانتهاكات المرصودة من قبل المنظمات الحقوقية الدولية والوطنية ومنظمة العفو الدولية والمنصوص عليها في بعض القرارات الدولية. وهي انتهاكات لا يمكن ان تمر دون تحقيق عادل يكشف أسبابها ومن قام بها ومحاسبتهم وبيان مقدار الضرر الذي لحق بالمجني عليهم. فلا يمكن ان تتحقق أي مصالحة وطنية حقيقية تؤسس للاستقرار الاجتماعي والتنمية المستدامة مع إظهار نصف الحقيقة وطمس النصف الأخر. ونعتقد أنه في حالة تنبي هذا القانون وتطبيقه فإنه سوف يكون من أهم معوقات المصالحة الاجتماعية.
9ـ ومن خلال هذا التمييز في التعامل مع انتهاكات حقوق الإنسان التي اقترفت في ليبيا في ظل النظامين السابق والحالي، تظهر أهمية ذكر المشروع على استحياء مأساة النازحين والمهجرين في الداخل والخارج في الفقرة الأخيرة من المادة الخامسة وفي الفقرة السادسة من المادة السابعة والذي يجري نصها على النحو التالي: ( العمل على إعادة النازحين في الخارج من المواطنين الليبيين بالإضافة إلي حل مشكلة النازحين في الداخل.). وهو أمر -حتى في حالة تحققه- لا يكفي لجبر الضرر وإشباع الشعور بالعدالة لكثير من الأبرياء منهم والذين لم تقترف أياديهم أي ذنب وأخذوا بالشبهات أو بجريرة غيرهم أو بمواقف لا تعد وفق كافة قوانين الدول المتمدنة جريمة. وهذا ما يعكس عدم إدراك واضعي المشروع لمأساة المهجرين أو النازحين أو تجاهلهم لها مع إدراكهم لمختلف أبعادها.
10ـ هذا التفكير التمييزي يسيطر على المشروع يتضح-أيضا- من خلال نص المادة 23 التي تنص على أن: ( تدعم الهيئة الجمعيات والمنظمات المدنية التي قامت على أساس التأثر بحقبة النظام السابق في أي مجال من المجالات، وتنظم التعامل معهم باعتبارهم ممثلين عن المضرورين وذوي المصلحة في نشر الحقيقة الكامنة وراء الموضوع.). وهو ما يعني استبعاد أي دعم من قبل الهيئة للجمعيات والمنظمات التي يمكن ان تنشأ على أساس التأثر بالأعمال التي تمت بعد انهيار النظام السابق. فجمعية أنشئت لضحايا التعذيب في ظل النظام السابق سوف تحظى بالدعم أما الجمعية التي تنشأ لضحايا التعذيب من غير المحسوبين على النظام السابق فإنها تستبعد من إمكانية دعم الهيئة لها.
11ـ نص مشروع القانون على اعتبار التشريعات التي صدرت معبرة عن رغبات النظام السابق تشريعات ملغاة وغير دستورية منذ إصدارها. وهو الأمر الذي يمكن أن يزيد من الأزمات السياسية والاجتماعية والقانونية بدل علاجها وذلك للأسباب التالية:
أولا/ لم يضع المشروع معيارا دقيقا يمكن الاستناد إليه لتحديد هذه القوانين وهو الأمر الذي قد يؤدي إلي كثير من الإشكاليات القانونية ومنها التداخل بين وظيفتي بين السلطتين التشريعية والقضائية.
ثانيا/ إن معالجة الآثار السلبية لفترة النظام السابق بهذه الطريقة الراديكالية التي لا تعتمد سياسة واقعية واضحة ولا منهجية محددة المعالم من شأنها ان تزيد من الشرخ الاجتماعي. فإلغاء القانون رقم 4 الشهير بأثر رجعي من شأنه أن يلحق إضرارا فادحة بالسلم الاجتماعي وبالأمن القومي. وربما يؤدي إلي تكاليف اجتماعية واقتصادية تثقل كاهل المجتمع. حيث أن معالجة أثار هذه القوانين الظالمة تحتاج إلي مسار استراتيجي محدد الأهداف والسياسات لا إلي نص قانوني قطعي لا يوازن بين الأثار السلبية والايجابية ولا يطرح بدائل تحول دون تفاقم الأضرار، ويكتفي برفع الضرر على البعض ليلقي به على البعض الأخر.
ثالثا/ من الممكن اعتبار قانون الجنسية العربية وتوجهات النظام السابق القومية والأفريقية والتى وضعت في تشريعات من رغبات النظام السابق التي يلغيها هذا القانون وقد يؤدي إلغاؤها الي أضرار جسيمة في البنية الاجتماعية الليبية وفي علاقة الدولة بدول شقيقة وصديقة.
ومن المناسب الإشارة إلي تعبيرات رددها المشروع تناقض الواقع ومنها النص على أن هدف القانون من فحص المؤسسات هو تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص وتقديم الأكفأ ومعالجة كل ما يخالف ذلك في الفقرة السابعة من المادة السادسة والعشرين وهو قانون سوف يطبق في إطار قانون العزل السياسي الذي استند إليه في كثير من نصوصه. ونعتقد أن هذا القانون الأخير يكرس للمفاضلة بين الليبيين على معايير فضفاضة لا تسمح ببناء دولة على أساس حقوق الإنسان والمواطنة.
وأخيرا، نرى أنه من اللازم التأكيد على بديهيات ينطق منها العمل التشريعي في أي دولة تستحق الاحترام ومنها أن وظيفته اشباع الشعور بالعدالة للكافة دون تفاضل بين المجرمين والمضرورين.
التعليقات (0)