مكر النهايات
كانت الغرفة التي اعتادت أن تموج بأنواع الحركة والأصوات إلى حد الاهتزاز ، كانت هذه المرة هادئة فاترة شاحبة ، موصدة الباب ، ومغلقة النوافذ بإحكام وكأنها غواصة تستعد لتمخر عباب البحار والمحيطات ، وقد تحول الباب الأخضر إلى رمادي بسبب ضعف الإنارة وتواري القمر غير المكتمل خلف سحاب كسول كمسؤول عربي لا يخشى المحاسبة والعقاب والإعفاء ، فهذا القمر لا يكاد يبرح مكانه ، وكأن الصراخ المرتفع والعويل المزعج الذي يملأ النفس الصامدة الجلدة رعبا ورغبة في البكاء لا يكاد يطرق مسمعه الحاد الذي ألف التقاط أدق الأصوات وأخفاها ، فكانت آذانه أقوى من عيون زرقاء اليمامة ، ومن آذان سارية بن زنيم الدؤلي ، حتى أنه في مرات عديدة كان يستمتع بالأصوات المنبعثة عن حركة الجرذان النشيطة التي لا تهوى ترتيب المخازن .
ولكنه هذه المرة وعلى غير سجيته عديم الحركة بطيئ التنفس ، فغدت غرفته جامدة جمود والد اكتشف لتوه تقديم ابنه له على أنه خادم ، كما أن ستائر الشباك المرخاة بدأت تراودها رقع شحوب مرتبة بسبب حرارة أشعة الشمس التي لا تمل من سلوك المدار نفسه ، وثيابه المكوية المرتبة التي تشتهي من يلمسها ويحررها من هذا النظام والترتيب المتعب ، وحذاؤه الممسوح يستجدي مهديا مخلصا يساعده في وطء أرض جديدة والانغماس في تربة مختلفة اللون والرائحة استجداء فارس أكره على ملازمة معبد رتيب متثاقل الحركة متوقف الزمان .
حاول أن يفتح عينيه الجاحظتين في غير هذا المقام فلم تطاوعاه ، أراد تحريك أطرافه فتأبّت على الطاعة والاستجابة لا كما يفعل علماء السلاطين وسدنة الحكام الظالمين ، جرّب أن يصرخ بأعلى صوته فتصلبت شفتاه اللتان لطالما حوّلت الحق باطلا والباطل حقا ، وغيرت المواقف والقناعات ، وبعد أن أعيته قلة الحيلة ونقص الوسيلة في القيام بأدنى حركة استسلم لإغفاءة خفيفة ، فوجد نفسه في دار النشر التي طبعت أغلب كتبه يفاوض مديرها حول إعادة طبع هذه الكتب مرة أخرى ولكن بعد حذف كل عبارات ازدراء الأديان وخاصة الاسلام وما يتعلق بالوحي الذي يربط الأرض بالسماء ، ومسح المشاهد المغرقة في وصف التجارب الحميمية المختلفة والمتشابهة الجنسين الحقيقية منها والمتخيلة ، وتغيير نهايات الروايات والقصص وجعلها سعيدة ومثالية لا تشجع على الانحراف والتجاوز والتمرد على القيم والأخلاق العامة والخاصة ، واستبدالها بنهايات لا يظلم فيها الملوك الذين اعتلوا العروش بالانتساب إلى العرق الفاطمي أو الاتحاد والحلول في أحد الأجساد المهدوية التي لا يكاد يخلو منها عصر و مكان أو عبر دبابة أمريكية أو روسية الصنع .
حاول مدير دار النشر أن يفهمه أن القيام بهذه العمليات سيجعل هذه الكتب والقصص والروايات عديمة القيمة ولن تباع ولن يقرأها أحد ، فاستبسل في الدفاع عن رأيه بضرورة التصرف بإيجابية ومحاربة الظلم ولو عن طريق القلم والورق ، فقد أصبح متشبثا بأن يجبر الملوك والحكام على أن لا يفسدوا ولا يدّعوا العصمة والألوهية ، وجعل السياسيين المخلصين الملتزمين بمبادئ الدين والطائفة والمذهب والإيديولوجيا يستمرون على مبادئهم التي بترديدها على مسامع الجماهير وإعلان الاستعداد لتقديم المال والولد والنفس في سبيلها أصبحوا من الجلادين بعد أن قضوا حينا من الدهر يئنون تحت وطأة السياط ، فهو يريد منهم الآن أن لا يتحولوا عنها ويغيروها بعد أن يغيروا البيوت المأجّرة بالقصور والفيلات المملوكة والسيارات التي لم تسدّد بعد كل أقساطها بأسطول من آخر الموديلات ومختلف الماركات بعضها للسفر الطويل وأخرى للقصير ، وبعضها للعمل وأخرى للسهرات والحفلات وغيرها لرحلات الترفيه والاستجمام ، وبعد تغيير الخليلات والحفاظ على الصواحب اللواتي عاصرن عهد الأبيض والأسود حفاظا على السمعة السياسية وعدم توفير الممسك للخصوم المتربصين بكل الهفوات والعثرات واللمم .
وبعد أن تمتلئ الحسابات البنكية التي كانت العمليات التي تتضمنها البيانات في ما مضى تتوقف عند الأسبوع الأول لأنها تفرغ من الدراهم المعدودة التي تدخل إليها بداية أو نهاية كل شهر دون أن تغطي كل المصاريف التي كانت محددة في ذلك الشهر ، فتضجّ بعد ذلك بتعويضات السفر والإقامة والتنقل واستعمال السيارة وتغيير الأثاث و أواني المطبخ الفضية والزجاجية و ملابس العمل والاحتفالات الرسمية والسهرات الموازية ، وبعد تذوق مختلف الأشربة والمأكولات الحلال منها والتي أصبحت حلالا من باب المجاملة والانفتاح وعدم إحراج الضيوف ، وبعد بروز البطون التي كانت ضامرة وانتفاخ الجنات واحمرارها بعد أن تخلصت من طول ملازمة عظام الخدود ، ومن الهالات السود التي كانت تشهد على كثرة الليالي البيضاء في قراءة الدروس المقررة والكتب الايديولوجية لمجابهة الخصوم في ساحات الجامعات والكليات .
بعد أقل من شهر على تلك الليلة التي كانت أطول من ليالي ألف ليلة وليلة وجد نفسه في حيرة من أمره حول نهاية قصته القصيرة الجديدة ، فقد تردد كثيرا بين أن يجعل بطله سياسيا شهيرا ساعدته مشاركته بارونات المخدرات في المحافظة على كرسي الوزارة للمرة الرابعة على التوالي ، أم يجعله مناضلا كبيرا حققت عل يديه جمعية المثليين نصرها الجديد .
أحمد هيهات
التعليقات (0)