الفصل الثاني
العمل الحكومي بوزارة الخارجية
أنهيت دراستي الجامعية في يونيو 1956م وتحصلت على بكالوريوس التجارة في العلوم السياسية بدرجة جيد جدًا، وكنت أول دفعتي بين عدد من الطلاب العرب والمصريين الأكفاء الذين كانوا يأملون في هذا الشرف. وبتخرجي من الجامعة بدأت مرحلة جديدة في حياتي، ورجعت إلى الوطن بعد قضاء فترة خمس سنوات في مصر. وقد جرت خلال هذه الفترة أحداث كثيرة في ليبيا، كنت أتابعها عن بعد من القاهرة، وعن قرب خلال فترات العطلة الدراسية الصيفية في طرابلس، وكانت أخبار ليبيا غير مرضية. فالشعب كان يتعرض لإجراءات غير ديمقراطية، حيث ألغيت الأحزاب وزورت الانتخابات البرلمانية كما ذكر في الأخبار، ووقعت معاهدة تحالف مع بريطانيا واتفاقيات عسكرية مع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة الأمريكية ضد رغبات الشعب. كما أن الحالة الاقتصادية كانت سيئة للغاية، ومستوى الحكم كان متدنيًا على الصعيدين السياسي والثقافي، وانعكس هذا على إدارة البلد، وكانت العلاقات الليبية العربية سيئة. كل ذلك انعكس على تفكيرنا ونحن نعود إلى الوطن لنبدأ العمل مع الحكومة الليبية. وكانت بعثتنا أول بعثة ليبية تنهي دراستها بعد الاستقلال، وكان قد سبقنا من درس على حسابه الخاص.
حال رجوعنا إلى أرض الوطن عينتنا الحكومة، حسب تعهدنا بالعمل معها، بالدرجة الرابعة، ووزعنا على الوزارات المختصة. وعينت أنا وزميليّ السيدين عبدالله بن لامين وإبراهيم محمد الميت المتخرجين في كلية التجارة قسم العلوم السياسية في وزارة الخارجية، وكنا طبعًا غير راضين عن المستوى الذي عينا به. كنا فخورين بالشهادة الجامعية، وفاتنا أن الخبرة عامل مهم في العمل الوظيفي. وقد طلبنا من الحكومة إرسالنا إلى الخارج لمواصلة دراستنا العليا والحصول على الماجستير والدكتوراه، ولكن طلبنا رفض بحجة أن الحكومة بحاجة إلى العناصر المؤهلة، وهكذا بدأنا العمل.
ورغم أن الجو بيننا وبين زملائنا القدامى في الأيام الأولى لم يكن مرضيًا، لأن زملائنا القدامى شعروا بتخوف من منافستنا على الوظائف التي كان من المتوقع إنشاؤها بعد التوسع في كادر الوزارة، لكن سرعان ما اندمجنا معهم وسادت روح ودية وتعاون بيننا، واستفدنا من خبرتهم العملية، وعاملونا باحترام. وقد أسندت لي وظيفة مساعد لقسم الشئون العسكرية والسرية، وكان رئيس القسم آنذاك هو السيد منصور عثمان.
كان رئيس الحكومة في تلك الفترة السيد مصطفى بن حليم، وكان يتولى وزارة الخارجية بالإضافة إلى منصبه، وكان وكيل الوزارة هو السيد سليمان الجربي، ولم تكن لي معرفة مسبقة بهما. وبعد فترة أسندت لي وظيفة رئاسة قسم الشئون العسكرية بعد فصله عن القسم السري. كانت مهام القسم هي تنفيذ الاتفاقيات العسكرية مع بريطانيا وأمريكا، وتنسيق العمل بين السلطات الليبية والقوات الأجنبية عن طريق السفارتين البريطانية والأمريكية فيما يتعلق بالتدريبات العسكرية وتخصيص الأراضي وتعويضات الملاك والمتضررين من التدريبات والحوادث، وهي إجراءات طويلة ومشاكلها كثيرة. وفي هذه الفترة وقع الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956م وهبّ الشعب الليبي غاضبًا في مظاهرات عارمة، وشوهدت القوات البريطانية في شوارع طرابلس وبنغازي التى خرجت لحماية الرعايا الأجانب إذا تعرضوا للخطر، وفرضت الحكومة الأحكام العرفية بما في ذلك منع التجول، مما زاد غضب الشعب بعد فترة هدوء نسبيًا تلت حوادث الانتخابات الأولى.
كان اعتقاد الشعب أن الاستعمار الذي تخلى عن الحكم المباشر، أصبح يباشر سلطاته عن طريق الحكومة الوطنية التي تعمل بمقتضى توجيهاته. ولم يكن أمام الشعب سوى الاستمرار في كفاحه ضد الاحتلال الأجنبي والمطالبة بالجلاء، خاصة بعد الاعتداء الثلاثي على مصر. وقد بثت وسائل الإعلام المصرية أن بريطانيا استعملت قواعدها في ليبيا في هجومها على مصر، رغم نفي السلطات الليبية، ولم يثبت هذا في أية وثائق رسمية بعد ذلك. أما بالنسبة لنا الذين درسنا في مصر ودخلنا العمل الحكومي فقد كانت السلطات تشك في إخلاصنا، خاصة أن بعض الطلاب العائدين من مصر كانوا قد انضموا إلى حركات سياسية، مثل حزب البعث والقوميين العرب والشيوعيين، وكانت تتقاذفنا تيارات كثيرة. وكان السؤال، هل يجب علينا التفرغ للعمل لبناء الدولة الليبية، أم التفرغ للكفاح الداخلي من أجل تحرير البلاد أولًا من الاستعمار والقوات الأجنبية، وذلك بالعمل مع القوى الوطنية.
لقد كنت، ولا أزال، من الفئة التي تؤمن بأن الإصلاح الإداري والتنمية في جميع مجالاتها لها الأولية لتعزيز الحرية والديمقراطية وجلاء القوات الأجنبية، فالإصلاح الإداري وتنمية الفرد وحريته عوامل هامة لخدمة الأهداف الوطنية. ومن السهل على السياسي في الوطن العربي أن يكون بطلًا وطنيًا، إذا جعل من القضايا الوطنية، مثل المطالبة بالجلاء ومحاربة الاحتلال الأجنبي، وسيلة لكسب الجماهير. ومن النادر أن تجد السياسي العربي الذي يصارح مواطنيه بالصعوبات التي تعترض طريق الإصلاح، وبناء صرح الاستقلال والتنمية، والوقت اللازم لتحقيق ذلك. وكنت، ومازلت، ضد تحريض الجماهير لكسب تأييدها على حساب المصلحة العامة. وقد أدت السياسة العربية الرسمية إلى خلق رأي عام غير متعاون مع السلطة، فرغم الهزائم المتكررة في فلسطين وغيرها، لم يقم القادة بمصارحة الشعب بالأسباب الحقيقية لمثل هذا المصير، وهي التخلف والجهل والمرض.
إن الظروف السياسية الدولية، وللأسف، لازالت لا يفهمها المواطن العادي، لأن تفكيره يقوم على المبادئ الأخلاقية والوطنية، بينما يجد السياسي أوضاعًا سياسية خارجية تقوم على المصالح وعامل القوة، خاصة في ضوء التقدم التيكنولوجي. فالدول الكبرى جعلت من المبادئ النبيلة، مثل حقوق الإنسان والحريات والعدالة، شعارات إعلامية لإخفاء سياساتها الحقيقية المبنية على المصالح والسيطرة.
كانت التيارات السياسية في العالم العربي تعصف بالشباب العربي في مقاعد الدراسة وفي مجالات العمل. وانضم الكثيرون إلى الأحزاب والحركات السياسية التي قامت في الوطن العربي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، مثل حزب البعث والقوميين العرب والشيوعيين وغيرهم، ووصل بعضهم إلى السلطة وبقي البعض الآخر يعمل سرًا للوصول إلى الحكم. وقد زاد هذا الاختلاف في المبادئ من حيرة الشباب وسط الضباب الفكري الذي عم الوطن العربي. وقد علمت الحكومة الليبية بالحزبيين ونشاطهم السري، فسجن من سجن، وأبعد من أبعد عن العمل الحكومي، وساعد هذا على خلق جو من عدم الثقة بين الطبقة المثقفة والمسئولين في الحكومة.
بعد قضائي فترة في قسم الشئون العسكرية بوزارة الخارجية، أسس في الوزارة قسم للشئون التجارية والاقتصادية، وأسندت رئاسته لي، وقد سررت بذلك، لأنه يتناسب مع تخصصي ويساعدني على الاستعداد لمواصلة دراستي عندما يحين الوقت.
تغـيير في الـوزارة
وفي الوقت نفسه حدث تغيير وزاري إثر صراع بين السيد مصطفى بن حليم وأصدقاء وأنصار السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية في الوزارة، مثل الدكتور علي الساحلي وزير الخارجية والدكتور محي الدين فكيني وزير العدل، وقد عين في هذا التعديل الجديد السيد عبدالمجيد كعبار، الذي كان رئيسًا لمجلس النواب، نائبًا لرئيس الوزراء ووزيرًا للخارجية. وكما ذكرت سابقًا، لا أريد التعرض بالتفصيل لفترات الحكومات الليبية السابقة لدخولي العمل الحكومي برئاسة السادة مصطفى بن حليم ومحمد الساقزلي ومحمد عثمان الصيد ومحمود المنتصر الأولى، وكذلك حكومة الدكتور محي الدين فكيني وبعض فترة حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، لأنني كنت في هذه الفترة في الخارج، إما للدراسة الجامعية في القاهرة 1951- 1956م، أو للعمل في الخارج في سفارتي ليبيا في لندن والقاهرة من 1958 إلى 1962م، وفي ديوان وزارة الخارجية في الفترة من 1963 إلى يناير 1964م. وحرصًا على تسلسل الأحداث السياسية في العهد الملكي، فإني سأتعرض لبعض الأحداث في هذه الفترات، التى تغيبت فيها عن البلاد، والتي عرفت عنها بعض المعلومات من المسئولين الذين عايشوا هذه الأحداث، وإطلاعي على الوثائق التي حفظت في خزائن رئاسة مجلس الوزراء.
بعد أن تولى السيد عبدالمجيد كعبار وزارة الخارجية، عين السيد وهبي البوري وكيلًا للوزارة بدلًا من السيد سليمان الجربي، والذى نقل هو والوكيل المساعد الأستاذ عمر الباروني إلى سفارتي ليبيا في واشنطن ولندن على التوالي، وبقيت أنا في قسم الشئون التجارية والاقتصادية خلال هذه الفترة. وكانت أهم أعمال القسم التجاري والاقتصادي هي المشاركة والتنسيق للمباحثات التجارية بين ليبيا والدول الأجنبية، وأذكر أن أول عمل قمت به في هذا الشأن، كان مشاركتي في المباحثات التجارية بين ليبيا واليونان. وكان الوفد الليبي يتألف من مستشار وزارة المالية المستر بيت هارديكر وموظفين من وزارة المالية ونظارات المالية في الولايات والغرف التجارية فيها ومن وزارة الخارجية التي أمثلها، ولأول مرة أشارك في موضوع هام حاولت فيه إظهار اجتهادى كمبتدئ في معالجة الأمور عمليًا.
السيد عمر الباروني السيد وهبي البوري
كان مستشار وزارة المالية المستر بيت هارديكر آنذاك يتمتع بنفوذ كبير، ورغم أنه موظف ليبي، إلا أنه منتدب ضمن الخبراء الذين تعتمد عليهم بريطانيا في الإشراف على تنفيذ الاتفاقية المالية بين بريطانيا وليبيا، لهذا كان دوره هامًا في أي عمل يشارك فيه. ورغم أنه قبل بعض مقترحاتي في مشروع الاتفاقية، إلا أنه لم تعجبه جرأتي في حضوره للتدخل في النواحي الفنية، وكنت دائمًا مؤيدًا من أعضاء الوفد الليبي. وأذكر أن أهم مداخلات أعضاء الوفد الليبي كانت من جانب السيد عوض لنقي رئيس الغرفة التجارية ببرقة، وقد أعجبت بصراحته وانتقاده لتصرف التجار اليونانيين في تعاملهم مع التجار الليبيين، وكان يتكلم عن خبرة عملية كتاجر له علاقة بتجارة ليبيا مع اليونان في مجال الأغنام. والسيد عوض لنقي هو أخ السيد يوسف لنقي عميد بلدية بنغازي الذى عرف بالشهامة والجرأة، وكان لقراراته الحاسمة في تنفيذ مشاريع المرافق والخدمات العامة العامل الأكبر في إعمار مدينة بنغازي، وإعادة الحياة إليها بعد الدمار المريع الذى أحدثته الغارات الجوية للحلفاء والمحور في الحرب العالمية الثانية. وقد توفي السيد يوسف لنقي سنة 1958.
السيد يوسف لنقي
وأود هنا أن أسجل بأن المستر بيت هارديكر كانت له مواقف حميدة في السنوات الأخيرة للعهد الملكي. لقد استدعي من النمسا، حيث تقاعد هناك بعد انتهاء عمله مع الحكومة الليبية، من طرف رئيس الوزراء السيد محمود المنتصر عندما ألف وزارته الثانية سنة 1964م، وعينه مستشارًا اقتصاديًا لرئيس مجلس الوزراء، وكان في هذه الفترة غير مرتبط بحكومته في عمله، رغم أن البريطانيين رحبوا بهذا التعيين ليكون قناة وصل للمعلومات وللاتصالات غير الرسمية بين السلطات الليبية والسفارة البريطانية. وقد استطاع أن يقف في وجه بعض الشركات البريطانية التي حاول مدراؤها ووسطاؤها استغلال علاقتهم مع الملك للحصول على عقود لمشاريع كبيرة دون دراستها مع الوزراء المختصين ومستشاري الحكومة مقدمًا، وذلك بلفت نظر الحكومة البريطانية عن طريق السفير البريطاني في ليبيا إلى خطورة مثل هذه المحاولات والتدخلات وتضايق المسئولين الليبيين منها. فمثلًا كانت بعض الشركات البريطانية غير راضية عن السياسة الليبرالية للدكتور علي عتيقة وزير التخطيط والتنمية، الذي كان يعارض مثل هذا التدخل، وفي الوقت نفسه يحظى باحترام المستر بيت هارديكر والمستشارين الإنجليز.
وفي الحقيقة كان معظم المستشارين البريطانيين مخلصين في عملهم مع الحكومة الليبية، وحرصوا على حيادهم كفنيين قبل أن يكونوا بريطانيين، وكان يهمهم تنفيذ مشارع التنمية بشكل سليم لخدمة الاقتصاد الليبي والتجاوب مع مصالح الشعب الليبي. لقد تغيرت سياسة الحكومة البريطانية في المجال المالي والتجاري في الفترة الأخيرة، فبعد أن كانت تشجع الحكومة الليبية على الاقتصاد في النفقات، عندما كانت ليبيا تعتمد على مساعدات بريطانيا المالية، أصبحت تشجع الحكومة الليبية على الإنفاق والتعامل مع الشركات البريطانية بعد تزايد الدخل من البترول.
في تلك الفترة التي كنت فيها في القسم التجاري في وزارة الخارجية كانت ليبيا تعمل على تشجيع صادراتها من المنتوجات الزراعية والحيوانية، وكانت جل صادراتها من الخضراوات والفواكة وزيت الزيتون إلى إيطاليا، والأغنام إلى اليونان ومصر، واستغلال الشواطئ الليبية لصيد السمك وجمع الإسفنج، الذى كانت تقوم بها السفن اليونانية، التي كانت تهرب معظمه إلى اليونان دون المرور بليبيا. وكانت صادرات ليبيا إلى إيطاليا من المنتوجات الزراعية تتمتع بمعاملة الدولة الأكثر رعاية، وكانت معفية من رسوم الاستيراد بإذن من "الغات" (GATT منظمة الاتفاقية العامة للتعريفة الجمركية والتجارة)، التي ترتبط به الأطراف المتعاقدة من الدول الأوروبية والأمريكية التي تتبع التجارة الحرة. وكانت إيطاليا تشجع الصادرات الليبية خدمة للمزارعين الإيطاليين الذين بقوا في ليبيا بعد الاستقلال.
كانت ليبيا من أفقر الدول الإفريقية وتحتاج إلى مساعدات على المستوى الثنائي وعلى المستوي الدولي. وكان على ليبيا تقديم تقرير سنوي إلى الاجتماع السنوي لمنظمة "الغات" في جنيف حول إعفاء الصادرات الليبية إلى إيطاليا من الرسوم الجمركية، لتتأكد الدول المصدرة لنفس المنتوجات من حاجة ليبيا لهذه المساعدة قبل الموافقة على تمديدها. وأذكر أني حضرت معظم اجتماعات "الغات" حتى عندما كنت في السفارة الليبية في لندن مع مدير الجمارك الليبية آنذاك السيد خليفة موسى. وكانت مهمة الوفد الليبي تقديم التقرير الليبي وإلقاء كلمة لشكر الحكومة الإيطالية ومنظمة "الغات" على مساعدتهما، والمطالبة بتمديد الإعفاء الجمركي في إيطاليا للصادرات الليبية. وأذكر أن أكثر الدول المعارضة لاستمرار الإعفاء كانت البرازيل، وهي أكبر دولة مصدرة للمنتوجات الزراعية آنذاك. ومن المهام التي طلب مني القيام بها في القسم التجاري، المشاركة في المباحثاث التجارية بين ليبيا وتونس، التي نجمت عنها اتفاقيات ثنائية في ميادين مختلفة.
1959م- أثناء إحدى اجتماعات (الغات) بجنيف. أعضاء الوفد الليبي المكون من بشير السني المنتصر والسيد خليفة موسى مدير الجمارك الليبية (في وسط الصورة) وعلى يمينه السيد عبدالرحيم النعاس مندوبًا عن وزارة الاقتصاد والتجارة
حكومة السيد عبدالمجيد الهادي كعبار
بعد استقالة السيد مصطفى بن حليم في مايو 1957 كلف الملك السيد عبدالمجيد كعبار بتأليف الحكومة. لم أكن أتوقع أن يؤثر هذا الحدث في حياتي الوظيفية، وأن أواجه قرارًا صعبًا. فالسيد عبدالمجيد كعبار كان يعرف أني أعمل في وزارة الخارجية التي كان وزيرها في فترة حكومة السيد مصطفى بن حليم الأخيرة. وكنت أعرفه جيدًا من قبل للعلاقات العائلية، فهو متزوج من شقيقة السيد محمود المنتصر وابنة عم والدتي، وكان أحد أركان حزب الاستقلال، وقد تعرفت به على مائدة السيد سالم المنتصر رئيس حزب الاستقلال عندما كنت طالبًا في المدرسة الثانوية.
أرسل لي السيد عبدالمجيد كعبار عن طريق والدي عرضًا بأن أعمل معه كسكرتير خاص. وقد فوجئت بهذا العرض، خاصة وأني كنت أريد مواصلة دراستي العليا في الاقتصاد، بالإضافة إلى عملي في السلك الدبلوماسي في سفارات ليبيا في الخارج. كنت أعتقد أنني أستطيع الجمع بين العمل فيها والدراسة، وخاصة إذا عينت في القاهرة أو لندن، ولكن عرض رئيس الوزاء كان مغريًا، فقبول وظيفة السكرتير الخاص لرئيس الوزراء سيحسن وضعي الوظيفي من الدرجة الرابعة إلى الثالثة ولو بالوكالة لأنني سأبقى منتدبًا من وزارة الخارجية، كما أن الوظيفة تتيح لي الاجتماع والتعرف على الوزراء وأعيان البلاد وأكون قريبًا من أصحاب القرار، وهو ما قد يسهل موضوع إتمام دراستي العليا والعمل الدبلوماسي. كانت هذه أحلام شباب.
بعد قبولي العرض رسميًا تمت إعارتي من وزارة الخارجية إلى رئاسة مجلس الوزراء، وعينت سكرتيرًا خاصًا لرئيس مجلس الوزراء بالدرجة الثالثة بالوكالة، واستلمت العمل من السكرتير السابق للسيد مصطفى بن حليم السيد عبدالستار الثلثي. كان الجو في رئاسة مجلس الوزراء يختلف عن أجواء وزارة الخارجية، فمعظم العمل موجه للشئون الداخلية والتعامل مع الوزراء وكبار الموظفين وأعضاء البرلمان ومشايخ القبائل ومستشاريها، وكان الكل يمر بمكتبي قبل الدخول على رئيس الوزراء.
كانت إدارة شئون الدولة في تلك الفترة محدودة الإمكانيات في جميع المجالات. وكانت الحكومة الاتحادية محدودة الاختصاصات الدستورية، ولم تكن تسيطر على الولايات، التي كانت تتمتع بسلطات واسعة في الشئون الداخلية والأمن، وفي الاقتصاد والتجارة والأشغال العامة، ولها السيطرة على كل المجالات الداخلية. وتسيير العمل في مثل هذه الحالات يتوقف على مقدرة رئيس الوزراء في التعامل مع الولاة ومدراء الأمن وكسب ثقتهم وصداقتهم للعمل سويًا للصالح العام، وكذلك على تمتع رئيس الوزراء بثقة الملك ودعمه له، لأنه كان السلطة الوحيدة التي لا يستطيع أحد مخالفتها.
كان معظم المسئولين في تلك الفترة من الجيل القديم الذين لو أتيحت لهم فرص التعليم العالي في العهد الإيطالي لكان دورهم أكثر فعالية، إذ كانوا يتمتعون بذكاء فطري وخبرة في التعامل مع الناس ومشاكلهم والتعاطي مع الأزمات واقتراح الحلول، وهو ما يستحقون عليه كل الإعجاب والتقدير. فقد استطاعوا تسيير أمور البلاد بكفاءة وإخلاص، وكانوا أقدر من الشباب على إبداء آرائهم بصراحة للملك، وكان هو بدوره يستمع إلى آرائهم ويتقبل مقترحاتهم بصدر رحب، وكان الملك في نفس الوقت صارمًا لا يقبل من أحد التساهل أو التغاضي عن تعليماته التي قد تشمل في بعض الأحيان صغائر الأمور، ولكنه في الفترة الأخيرة من حكمه أصبح أقل تقبلًا للرأي الآخر، ويشك في أقرب الناس إليه، ولا يعطي الوقت الكافي لشئون الدولة والتشاور مع رؤساء وزرائه، ونادرًا ما يطلب المشورة من وزرائه على انفراد أو مجتمعين.
كان يتم الاتصال بينه وبين رئيس الوزراء عن طريق سكرتيره الخاص وليس عن طريق رئيس الديوان وجهازه القانوني ومستشاريه، كما كان العمل به في السنوات الأولى للاستقلال. كان لا يعطي اهتمامًا لرأي الشعب في الشارع إلا متأخرًا وقت الأزمات، وكثيرًا ما يختلف مع حكوماته في الحلول المطروحة للمشاكل القائمة رغم موافقته على ما يقترحون عليه دون التقيد بها، مما جعل بعض السفراء الأجانب الذين يتعاملون مع الحكومة ويتشاورون مع الملك في حيرة من مصداقية القرار الليبي ويضطرون للتعامل المزدوج، مما يحرج رؤساء الحكومات والوزراء، وكثيرًا ما تتم استقالة رؤساء الحكومات بسبب مثل هذه الحالات.
عندما استلمت عملي كسكرتير خاص لرئيس الوزراء اكتشفت أن مستوى العمل لا يزيد عن شئون سكراتيرية وتشريفات، كتحديد مواعيد رئيس الوزراء ومقابلاته، وإعداد مراسلاته الخاصة والسرية مع الملك والولاة ومدراء قوات الأمن فيها ورئيس أركان الجيش ومدير البوليس الاتحادي. كانت معظم هذه المراسلات تتم بطريق رموز الشفرة، لأن خدمات الهاتف لم تكن في مستوى فني متقدم لضمان سريتها. وكان عمل رئاسة الوزراء في ما عدا ذلك يتولاه مدير مكتب رئيس الوزراء، وكان في تلك الفترة هو الأستاذ سلطان الخطابي، وخلفه السيد رمضان المصري، وكان يتولي مهام سكرتير عام مجلس الوزراء السيد مصطفى بن سعود، الذي تولى هذا المنصب بعد ذلك مع جميع رؤساء الوزارات حتى الفاتح من سبتمبر 1969، باستثناء فترة الدكتور محي الدين فكيني.
ولا شك أن طبيعة عملي لم تكن في المجال الذي كنت أصبو إليه، وكنت أطمح في القيام بوظائف فنية تعدني لحياة أكاديمية في المستقبل. وقد صارحت رئيس الوزراء واقترحت توزيع الاختصاصات في الرئاسة، وإنشاء وظائف فنية وتنسيق تتولى دراسة ما يعرضه الوزراء، وتقديم المشورة لرئيس الوزراء، إلا أنه رفض ذلك بحجة أنها سابقة قد يعارضها الوزراء المختصون بحجة تدخل المستشارين في شئونهم.
كان عمل الحكومة محدودًا ودورها في الشئون الخارجية والدولية ضئيلًا، فلم تكن لليبيا مشاكل مع دول الجوار أو دول التحالف، كذلك كان دورها في مجال الاقتصاد والتجارة لا يكاد يذكر. فليبيا دولة فقيرة تعتمد ميزانيتها الإدارية على المساعدات البريطانية وميزانية التنمية على المساعدة الأمريكية، وما تجود به الدول المانحة والأمم المتحدة، وهذا قليل لا يكاد يذكر، ودورها في شئون الدفاع كان في بدايته. ورغم ذلك كان رؤساء الحكومات والوزراء وكبار الموظفين متحمسين لبلادهم وحريصين على مصالحها وعلاقاتها. وليس هناك صحة لما يقال إن الحكومات الليبية في العهد الملكي كانت مسيرة من طرف بريطانيا وأمريكا، فلا يوجد تدخل بالمعنى المعروف، وكان التعامل مع الحكومة الليبية يتم في حدود السيادة، ويقتصر على التشاور وإبداء النصائح على مستوى السفراء للحفاظ على الصداقة والمصالح المتبادلة.
كان المسئولون الليبيون حريصين أكثر من حلفائهم البريطانيين والأمريكيين على حماية بلادهم من الحركات الناصرية والقومية والبعثية ودول الجوار. ولم تكن لأمريكا مشاكل مع عبدالناصر الذي كان يتجنب الضغط عليها لمساعدته في نزاعه مع إسرائيل. وحتى بريطانيا لم تعد ليبيا في رأيها مركز حماية لمصالحها في المنطقة بعد فشل الاعتداء الثلاثي على مصر وفقدان قناة السويس وتحجيم دورها في شئون المنطقة، ولهذا كان التحالف الغربي الليبي في صالح الطرفين وغير مفروض، كما كانت الدعاية العربية تثير الشعب الليبي، وتتهم الحكومات الليبية بالعمالة.
بعد أن تولى السيد عبدالمجيد كعبار الوزارة تقرر نقل الحكومة الاتحادية إلى مدينة البيضاء ثم إلى بنغازي. وكانت مدينة البيضاء في تلك الفترة مدينة صغيرة جميلة تتوسط الجبل الأخضر الجميل وتشعر فيه كأنك في جبال وغابات أوروبا، وقد بنيت فيها بضعة فيلات لإقامة أعضاء الحكومة، كما خصص مبنى عادي قديم من عهد إيطاليا ليكون مقرًا للحكومة.
كانت الشئون المالية في الدولة يتولاها وكيل وزارة المالية السيد عبدالرزاق شقلوف، وكان له القدح المعلى، لعلاقته بالملك، الذي كان يحبه ويعطف عليه ولا يقبل فيه كلمة سوء. وكان مدير المالية الإنجليزي المستر ديفز، الذي عين في أوائل الاستقلال، لتتأكد بريطانيا على أن مساعداتها تصرف وفقا للوائح والقوانين، قد استمر في العمل مع النظام الملكي بعد أن انتهت علاقاته الرسمية مع حكومته بريطانيا.
كان لا يستطيع أحد التدخل في سلطات السيد عبدالرزاق شقلوف أو في تصرفه، وكان مستقلًا في اتخاذ القرار، وكان هذا موضع تعليق في المجالات الحكومية والشعبية. وكان في نفس الوقت يتمتع بثقة جميع رؤساء الحكومات الذين عمل معهم لطبيعته السمحة وإخلاصه ونزاهته شخصيًا. كان شهمًا ومتعلمًا وملمًا بعمله ويحبه الجميع، وكان نشاط التنمية والمساعدات الأمريكية يدخل ضمن اختصاصاته. ورغم أن الأمريكيين كانوا غير راضين عن تصرفاته، إلا أنهم كانوا يعرفون نفوذه عند الملك ويتعاملون معه وفقًا لذلك، كما كان موضع ثقة وزراء المالية جميعًا الذين عمل معهم.
بعد انتهاء الصيف انتقلت الحكومة إلى بنغازي وأقمنا فيها، وكانت لا زالت تعاني من دمار الحرب وكانت الحركة فيها محدودة، خاصة بعد أن هجرها الإيطاليون واليهود منذ الحرب، وكانت عليها الصبغة العربية الشرقية لوجود عدد من العمال العرب. كان فندق البرنيتشي المتنفس الوحيد للسفراء وغيرهم، رغم أن السفارات الكبيرة كانت تحتفظ ببيوت ضيافة لموظفيها وضيوفها.
كان معظم المراجعين لرئيس الوزراء في البيضاء وبنغازي من مستشاري ومشايخ قبائل برقة للحصول على مزايا لهم ولقبائلهم، ويعتبرون أنفسهم هم أهل الدار وحصن البلاد وسند ملك البلاد ولهم الحق في قطف ثمار الاستقلال. وكان رجال القبائل في برقة، الذين استولوا على مزارع الإيطاليين وتقاسموها، جعلوها مرتعًا لأغنامهم وأبقارهم وجمالهم، واعتمدوا على المساعدات والمعاشات الحكومية في حياتهم.
كان تجار بنغازي أحسن حالًا من تجار طرابلس الليبيين. فقد ترك الإيطاليون واليهود مدينة بنغازي واستولى التجار الليبيين فيها على جميع الوكالات التجارية والمنشآت الزراعية والصناعية الخفيفة التي كانت قائمة، وقد أصبح منهم عدد من كبار الأثرياء وملاك الأراضي. كما كان نقل الحكومة من طرابلس إلى بنغازي مصدرًا هامًا لنمو التجارة وأعمال البناء والصيانة، بينما بقت كل الوكالات التجارية والمنشآت الصناعية وحتى المزارع الكبيرة في مدينة طرابلس في أيدي الإيطاليين واليهود، مما جعلها ذات طابع أوروبي ومكان إقامة السفراء ورجال السلك الدبلوماسي، ومقرًا للشركات البترولية التي بدأت تأتي بحثًا عن البترول، وزادها وجود قاعدة الملاحة الأمريكية فيها إلى تضاعف النشاط التجاري.
من أهم الأحداث العربية التي حصلت في أول فترة حكومة السيد كعبار هو الانقلاب في العراق بقيادة عبدالكريم قاسم. وقد أثار هذا الانقلاب غضب وسخط الملك على الطريقة التى قتل بها الملك فيصل وولي العهد عبدالإله والسيد نوري السعيد رئيس الوزراء الشهير، ومنع الملك الحكومة الليبية من الاعتراف بالحكومة العراقية الجديدة حتى بعد اعتراف كل دول العالم بما فيها الدول العربية، ولا زلت أذكر ملابسات هذا الحدث.
فقد استطاع رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار الاتفاق مع الملك على الاعتراف بالنظام العراقي الجديد بعد فترة من الزمن أثناء مقابلته له في طبرق. وقد رجع رئيس الوزراء مسرعًا إلى بنغازي، ودعى مجلس الوزراء للانعقاد على عجل، وتقرر اعتراف ليبيا بالنظام الجمهوري في العراق، وأعددت بدوري لرئيس الوزراء برقية تهنئة لعبدالكريم قاسم. وتم استدعاء القائم بالأعمال العراقي، الذي بقي في ليبيا رغم عدم الاعتراف بالنظام الجديد، وإبلاغه اعتراف المملكة الليبية رسميًا بالنظام الجديد في العراق والحكومة العراقية.
وأثناء هذه الاتصالات وصلت برقية مستعجلة من الملك بالشفرة إلى رئيس الوزراء قمت أنا بفتح رموزها كالعادة، وما أن قرأتها حتى ذهلت من محتوياتها وأسرعت بها لرئيس الوزراء، ولا زلت أتذكرها حرفيًا وهي كما يلي: "بعد الإشارة إلى موضوع العراق الذي تكلمت معكم حوله، أود إفادتكم بأني فكرت البارحة مليًا ولم يغمض لي جفن، وبعدها قررت بعون الله عدم الاعتراف بحكومة القتلة، ووجدت أن مخالفة العالم أهون علي من الاعتراف بالباطل، ولهذا يطلب منكم عدم الاعتراف بالنظام العراقي".
وفورًا دعي مجلس الوزراء إلى الانعقاد، وقررت الحكومة تقديم استقالتها أذا أصر الملك على رأيه. ودعي إلى اجتماع مجلس الوزراء الدكتور عبدالسلام البوصيري رئيس الديوان الملكي آنذاك، وطلب منه إبلاغ قرار المجلس بالاستقالة إلى الملك، وإعلامه بأن قرار الاعتراف قد أبلغ رسميًا لحكومة العراق وليس من المستطاع التراجع فيه. وبعد اتصالات مكثفة وتدخلات رئيس الديوان، وجد الملك نفسه في موقف لا خيار فيه سوى سحب اعتراضه على قرار الحكومة بالاعتراف، فقبول استقالة الحكومة وإلغاء قرار الاعتراف بالنظام العراقي الجديد يجعله في موقف محرج مع الشعب الليبي والدول العربية.
الرئيس عبدالكريم قاسم
والموقف الآخر المماثل الذي لا زلت أذكره، هو أن الملك غضب غضبًا شديدًا على مظاهرة وطنية قام بها طلبة معهد المعلمين بطرابلس، وأرسل برقية لرئيس الوزراء بالشفرة طالبه فيها بتسفير جميع المدرسين المصريين حالًا، لأنه قيل له من طرف الحاشية أن المدرسين المصريين شجعوا الطلاب على المظاهرة. وقد جرت عقب ذلك اتصالات مكثفة بين والي طرابلس والقصر الملكي وشرحوا للملك صعوبة تسفير المدرسين في منتصف السنة الدراسية، وقد وافق الملك على عدم تسفيرهم بشرط عدم انتدابهم مستقبلًا في السنة الدراسية القادمة. ومنذ ذلك الحادث حرص الملك على عدم الموافقة على زيادة المدرسين المصريين، رغم حاجة البلاد إليهم، واضطرت الحكومة إلى البحث عن مصادر عربية أخرى للحصول على المدرسين.
والموقف الآخر الذي أذكره من المراسلات السرية بالشفرة بين الملك ورئيس الوزراء، هو أن الملك غضب مرة على رئيس المجلس التنفيذي لولاية فزان السيد سيف النصر عبدالجليل لكثرة سفره إلى مصر، فأرسل له الملك برقية عن طريق رئيس الوزراء وليس عن طريق والي فزان، يأمره فيها بالعودة حالًا إلى مقر عمله في فزان، وإلا فإنه، أي الملك، ليس في حاجة إلى خدماته.
من الأحداث الهامة أيضًا في هذه الفترة انعقاد مجلس الجامعة العربية في بنغازي لفض الخلاف بين سوريا ومصر، وكان اجتماعا فاشلًا، وتعذر فيه الوصول إلى أية نتيجة، رغم مساعي رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، الذي ترأس الاجتماع، والسيد عبدالخالق حسونة الأمين العام للجامعة العربية.
المفاوضات حول الاتفاقية المالية مع بريطانيا
في سنة 1958م حان موعد إعادة النظر في الاتفاقية المالية مع بريطانيا التي تنص على إعادة النظر فيها كل خمس سنوات. وكانت بريطانيا تريد التخلص من بعض العبء المالي لتغطية عجز الميزانية الليبية لأسباب كثيرة، أهمها تناقص حاجة بريطانيا إلى قواعدها العسكرية في ليبيا بعد فشلها في حرب السويس وفقدانها السيطرة على القناة وتقلص نفوذها في الشرق الأوسط، وتولي أمريكا المركز القيادي للنفوذ الغربي في المنطقة، ولهذا شعرت بريطانيا بأنه على أمريكا أن تتحمل العجز في الميزانية الليبية نظرًا لقلة ما تدفعه لها مقابل منشآتها العسكرية الكبيرة فيها. ونظرًا لأهمية هذه المباحثات تقرر إجراؤها في لندن قريبًا من أصحاب القرار فيها.
ألف الوفد الليبي للمفاوضات برئاسة السيد عبدالمجيد كعبار رئيس مجلس الوزراء وعضوية السيد عبدالرزاق شقلوف وكيل وزارة المالية والأستاذ عمر الباروني وكيل وزارة الخارجية، وتولى السيد حسن أبوخريص من الخارجية سكراترية الوفد. ورافقت بدوري رئيس الوزراء كما رافقه ياوره الخاص العقيد عبدالسلام الكتاف. كانت هذه أول زيارة لرئيس وزراء ليبيا السيد عبدالمجيد كعبار إلى بريطانيا وأوروبا بصفة عامة. وفي لندن انضم إلى الوفد السفير الليبي الدكتور علي الساحلي، ونزلنا ضيوفًا على الحكومة البريطانية في فندق (جروفنر هاوس) بارك لين.
بدأت المفاوضات في وزارة الخارجية البريطانية وتولى وزير الخارجية البريطاني المستر سلوين لويد رئاسة الوفد البريطاني يساعده عضوان من وزارة الخارجية والمالية. وكان رئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار يملي علي بعد كل جلسة تفاصيل ما جرى في المفاوضات ويطلب مني إرساله إلى الملك، وكثيرًا ما كان يطلب رأيه وتعليقه في بعض المقترحات التي تقدم من الجانب البريطاني.
وكما كان متوقعًا كان الوفد البريطاني مصرًا على تخفيض قيمة المساعدة البريطانية بحجة وضع بريطانيا المالي واستعداد الولايات المتحدة بتغطية أي عجز لليبيا في ميزانيتها. وكان الملك يبعث ببرقياته اليومية إلى رئيس الوزراء بالشفرة يحثه فيها على التمسك بالمبلغ الذي تعهدت به بريطانيا عند توقيع الاتفاقية، لأن ليبيا مازالت في حاجة ماسة إلى المساعدة المالية وثقة ليبيا في بريطانيا كبيرة. أما الاقتراح البريطاني بقيام أمريكا بتغطية عجز الميزانية الليبية فيرى الملك رفضه، ويمكن لبريطانيا أن تسترد من أمريكا ما تدفعه إلى ليبيا، لأن ليبيا لا تريد أن تكون تحت رحمة أمريكا، فهي تقدم مساعداتها بشروط ولا تدفع مخصصات المساعدة إلى الخزينة الليبية مباشرة، ولا تستطيع ليبيا الاعتماد عليها لإدراجها في الميزانية التي تقدم للبرلمان وفق حاجات البلاد ومقترحات البرلمان.
وجملة ما تقدمه أمريكا لليبيا من مساعدات حتى ذلك الوقت هو دفع مرتبات الخبراء الأمريكيين العاملين في مشاريع التنمية في ليبيا وقيمة ما يستورد منها من آلات ومواد لهذه المشاريع، بينما تخصص المساعدة البريطانية لتغطية عجز الميزانية للمصروفات التي لا يمكن تغطيتها من إيرادات الدولة وتدفع على أربع دفعات سنوية إلى الخزانة الليبية نقدًا. ورفع الوفد البريطاني في الجلسات الأخيرة مبلغ المساعدة إلى خمسة ملايين جنيه استيرليني، وهو أقل من المبلغ الذي التزمت به بريطانيا في سنة 1953، ولكنه أعلى مما كان متوقعًا، مع تعهد بريطانيا بالسعي لدى الولايات المتحدة لتغطية ما تبقى من العجز في ميزانية ليبيا.
وكانت أخر تعليمات الملك لرئيس الوزراء أن يحاول زيادة المساعدة إلى ما كانت عليه، فإذا أصر البريطانيون على المبلغ المقترح فيقبل من الجانب الليبي، وعدم رجوع الوفد الليبي دون التوصل إلى اتفاق معهم، ورفض فكرة إحلال المساعدة الأمريكية محل المساعدة البريطانية بأي شكل من الأشكال. وتصميم الملك على استلام المساعدة من بريطانيا بدلًا من أمريكا يدل على عدم ثقته في الولايات المتحدة الأمريكية لأسباب كثيرة لديه، وكان يخشى تخلف بريطانيا عن الدفع فيصبح تحت سيطرة أمريكا سياسيًا وماليًا وهو ما لا يريده، لأنه يعتقد أن أمريكا كانت وراء الانقلابات العسكرية ضد الملوك في البلاد العربية.
1958م- السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء (في وسط الصورة) وعلى يمينه السيد محمود المنتصر السفير الليبي في روما وعلى يساره السيد عبدالرزاق شقلوف وكيل وزارة المالية ومعهم بشير السني المنتصر والعقيد عبدالسلام الكتاف ياور رئيس الوزراء أثناء مرور الوفد الليبي بروما في طريقه إلى لندن لإجراء مفاوضات مالية
هذا وقد تناولت المحادثات استعراض الوضع السياسي في الشرق الأوسط وموقف الرئيس عبدالناصر المتصلب ضد المصالح البريطانية، ورغبة بريطانيا الجادة في تحسين علاقاتها مع جميع الدول العربية بما فيها مصر. وقد شرح رئيس الوزراء بدوره سياسة ليبيا وأملها في تحسن العلاقات البريطانية المصرية لأن ذلك يساعد على استقرار المنطقة ومن بينها استقرار الوضع في ليبيا، كما أكد التزام ليبيا بأي قرار يجمع عليه العرب بشأن فلسطين، وطلب من بريطانيا بذل جهودًا مع أمريكا لمساندة الحقوق العادلة
للشعب الفلسطيني وإيجاد حلول عادلة لقضيته. وكذلك طلب من بريطانيا مساعدة الشعب الجزائري، وبذل مساعيها لدى فرنسا للاعتراف باستقلال الجزائر، بدلًا من استمرار الحرب ونشر عدم الاستقرار في المنطقة. وأوضح المستر سلوين لويد وزير خارجية بريطانيا اهتمامه الخاص بتحسين علاقات بريطانيا مع الدول العربية وبذل جهوده مع حلفائها لتحقيق هذا الهدف.
رجع الوفد الليبي المفاوض إلى بنغازي واعتبرت الحكومة نتيجة المفاوضات نجاحًا، فقد كان هناك شك في قبول بريطانيا الاستمرار في دفع مساعدات للميزانية الليبية بعد تعهد أمريكا بتقديم المزيد من مساعداتها لليبيا. ورحب البرلمان بمجلسيه بالاتفاق، رغم تخفيض مبلغ المساعدة البريطانية. وكان الاعتقاد السائد أن نجاح المفاوضات الليبية البريطانية سينعكس في زيادة المساعدة الأمريكية كما وعد الوفد البريطاني.
العودة إلى وزارة الخارجية
برجوعي من لندن مع الوفد الليبي للمفاوضات قررت مفاتحة رئيس الوزراء برغبتي في العودة إلى وزارة الخارجية، خاصة أني علمت بقرب حركة تنقلات بين الوزارة والسفارات، ولا أريد أن أفقد دوري في العمل في الخارج. وعندما صارحته برغبتي أعرب عن أسفه وعدم رضاه لأنني لم أتم في عملي معه سنة كاملة. وبعد أن شرحت له الأسباب ورغبتي في مواصلة الدراسة إذا تمكنت من الانتقال إلى إحدى السفارات بحيث أجمع بين الدراسة والعمل الدبلوماسي، كما أن وظيفة السكرتير الخاص لا تتيح لي العمل في مجال تخصصي الدراسي، رغم أني حظيت بمعاملة أبوية أثناء عملي معه وشكرته على ثقته، عندئذ طلب مني اختيار شخص أثق به وقادر على القيام بمهام سكرتيره.
وكنت قد عينت مساعدًا لي هو السيد فوزي الغرياني الذى كان السيد عبدالمجيد كعبار يعرف أباه، وهو من غريان، وعاش في مصر كل حياته، إلا أن السيد فوزي الغرياني كانت تنقصه الخبرة ومعرفة ما يجري في البلاد وسير العمل الحكومي فيها. فاقترحت على السيد كعبار تعيين السيد حسن أبوخريص من وزارة الخارجية، والذي كان سكرتير الوفد الليبي في مفاوضات لندن، ويعرفه رئيس الوزراء جيدًا. وبعد إصراري على قراري،
رغم المحاولات المتكررة معي للعدول عن رأيي، وافق رئيس الوزراء على طلبي، وتقرر إنهاء انتدابي ورجوعي إلى وزارة الخارجية، وانتدب السيد حسن أبوخريص كسكرتير لرئيس الوزراء.
وعلى إثر انتقالي إلى وزارة الخارجية تم تعييني سكرتيرًا ثانيًا في السفارة الليبية في لندن ضمن الحركة الدبلوماسية التي تمت بعد ذلك، وشكرت رئيس الوزراء على معاملته النبيلة ومساعدتي في الاستجابة لطلبي. ومن الصدف أني عينت في نفس الوظيفة التي كان أخي علي السني المنتصر يشغلها في السفارة الليبية في لندن بعد نقله إلى ديوان الوزارة في نفس الحركة الدبلوماسية. وكان أخي علي، ولا يزال، مشهورًا بنكاته اللاذعة، فقال مازحًا: " إن أخي بشير أعجبته لندن أثناء زيارته لها مع رئيس الوزراء فقرر أخذ مكاني".
وفي أول سبتمبر 1958م غادرت ليبيا إلى لندن عن طريق روما. وبسفري إلى لندن تنفست الصعداء، وتطلعت إلى نوع من الحياة مختلف، ومجال أوسع للدراسة والإطلاع. ورغم سروري بالعمل في لندن، كنت راضيًا عن عملي مع السيد عبدالمجيد كعبار، فقد مكنني من التعرف على الكثيرين من الناس وكبار رجال الدولة وأعيان البلاد وزعمائها، ومراكز القوى فيها، وظروفها ومشاكلها، الشئ الذي كان له تأثير في عملي مستقبلًا.
ضغوط فرنسية لتتخلى ليبيا عن ثوار الجزائر
ومن الأحداث التي عاصرتها في عهد حكومة السيد كعبار هي أزمة الاعتداء الفرنسي في أوائل أكتوبر 1957م على قرية إيسين في فزان على الحدود الليبية الجزائرية. فقد كانت حكومة السيد عبدالمجيد كعبار متعاونة مع ثورة الجزائر بموافقة الملك، الذي كان يعطي الكفاح الجزائري اهتمامًا خاصًا ودعمًا لا حدود له. فالجزائر هي بلد عائلته الأصلي قبل قدوم جده إلى ليبيا، وكان السلاح يهرب من مصر عن طريق ليبيا إلى الجزائر. وقد اهتمت الحكومة الليبية بهذا الاعتداء، الذي كان نتيجة لمتابعة الجيش الفرنسي لمجموعة من الثوار الجزائريين داخل الحدود الليبية، وأرسلت تعزيزات من الجيش الليبي إلى فزان لحماية الحدود رغم قلة إمكانياته. وقد أظهر الحادث ضخامة احتياجات ليبيا الدفاعية لاتساع رقعتها وطول حدودها وعدم الاعتماد على الحليف الأجنبي في حماية أراضيها، وخاصة بعد تردد بريطانيا وأمريكا في الاحتجاج على فرنسا.
كان هدف العدوان الفرنسي هو الضغط على ليبيا لوقف نشاط الثوار الجزائريين في ليبيا، ووقف تسرب الأسلحة والمعدات إلى الجزائر. إلا أن ليبيا، رغم أخذها للحيطة والحذر من النشاط الجزائري في ليبيا، لم تحد من استمرار المساعدات على المستوى الرسمي والشعبي إلى جبهة التحرير الجزائرية، والسماح بمرور السلاح تحت إشراف رجال الأمن الليبيين عن طريق الجو والبر. وكنت أثناء أزمة الاعتداء أنام في مكتبي برئاسة مجلس الوزراء وأوافي رئيس الوزراء بتفاصيل ما يحدث، بالتنسيق مع رئيس البوليس الاتحادي آنذاك الزعيم (العميد) محمد الزنتوتي، وإبلاغ تعليمات رئيس الحكومة إليه وإلى رئيس أركان الجيش. وكان الملك شديد الاهتمام بثورة الجزائر، كما أظهر الشعب الليبي تضامنًا كاملًا مع الشعب الجزائري، وقدم مساعداته بسخاء منقطع النظير إلى إخوانه الجزائريين، رغم ضيق اليد وقلة الإمكانيات.
قبل الاسترسال في قصة انتقالي إلى السفارة الليبية في لندن، أود أن أقف قليلًا لإلقاء بعض الضوء عن أحداث أخرى جرت في فترة حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، ورأيي فيما كان يجري حسب انطباعاتي آنذاك. إن حكمي على تلك الأحداث قد يختلف الآن، نتيجة لإطلاعي على مئات من الوثائق البريطانية عن ليبيا عن تلك الفترة، وقراءة العديد من الكتب التي ألفت حتى الآن عن النظام الملكي الليبي، وبعد خبرة العمر الطويلة في الحياة.
أحـداث وزوابـع خلال حكومة عبدالمجيد كعبار
في أول عهده عين السيد عبدالمجيد كعبار السيدين محمود المنتصر ومصطفى بن حليم مستشارين خاصين للملك، مراعاة لمكانتهما ومحافظة على مركزهما، لما قد يتعرضا له من مضايقات من خصومهما. وقد رحبا بدورهما بالقرار، لأنه يسبغ عليهما الصبغة الرسمية التي فقداها بعد تركهما للحكم. ولكن ما أن أعلن مرسوم تعيينهما حتى هبت زوبعة معارضة قوية تزعمها والي برقة آنذاك السيد حسين مازق وناظر الخاصة الملكية السيد البوصيري الشلحي، وكان هدف هذه الحملة عدم تمكينهما من التدخل في شئون الدولة وهما خارج الحكم.
وفعلًا غير الملك رأيه كعادته عندما يتدخل ناظر خاصته، وأرسل رسالة إلى كل من السيد محمود المنتصر والسيد مصطفى بن حليم توضح لكل منهما، بأن تعيينهما كمستشارين للملك لا يعطيهما حق ممارسة أي عمل أو تدخل في شئون الحكومة، وأن عملهما يقتصر على إبداء المشورة عندما يطلب الملك منهما ذلك، وقد اعتبر المذكوران الرسالة ما هي إلا إلغاء ضمني لمرسوم تعيينهما، وعلى هذا سعى رئيس الوزراء لتعيينهما كسفيرين، فعين السيد محمود المنتصر في روما والسيد مصطفى بن حليم في باريس.
كذلك لم يكن السيد عبدالمجيد كعبار على وفاق مع السيد الصديق عبدالمجيد المنتصر الذي عين وزيرًا للدفاع حلًا للمشكلة التي خلقها للسيد مصطفى بن حليم، وتتلخص هذه المشكلة في أن السيد مصطفى بن حليم عندما رئيسًا للوزراء استغل فرصة اعتصام الطلبة الليبيين في السفارة الليبية في القاهرة وأوعز للملك بأن السفير الصديق المنتصر شجعهم على الاعتصام لغاية في نفسه ومعارضة الحكومة وطلب نقله من القاهرة إلى الوزارة كسفير تحت الطلب. وفعلًا أصدر الملك مرسومًا بهذا، ولكن السيد الصديق المنتصر استطاع أن يقنع الملك، بمساعدة صديقه السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية، بأن ما ادعاه رئيس الوزراء غير صحيح، وأن سبب نقله هو اهتمام المنتصر بزيارات السيد البوصيري الشلحي نفسه إلى مصر، الذي كانت تربطه علاقات صداقة خاصة مع الرئيس جمال عبدالناصر وإعطاء هذه الزيارات الطابع الرسمي.
اقتنع الملك برأي السفير الصديق المنتصر، وألغى مرسوم نقله من مصر. وتكرر إصدار المرسوم وإلغاؤه بعد إعلام الحكومة المصرية رسميًا، مما أحرج السيد مصطفى بن حليم ودفعه إلى تقديم استقالته من رئاسة الحكومة، وقد تم ذلك حينما كان السيد عبدالمجيد كعبار وزيرًا للخارجية، ولهذا لم تكن العلاقة بين السيد الصديق المنتصر والسيد عبدالمجيد كعبار حسنة، وحتى يمكن نقل السيد الصديق المنتصر من مصر وإنهاء الأزمة التي خلقها، اقترح السيد عبدالمجيد كعبار تعيينه وزيرًا للدفاع عندما ألف حكومته. وفعلًا وافق الملك، واعتبر السيد الصديق المنتصر ذلك تعويضًا معنويًا لحفظ سمعته مع الحكومة المصرية.
كان السيد الصديق المنتصر صعب المراس، يعتقد أنه أولى من غيره لمناصب الدولة الهامة لخبرته الطويلة في الإدارة البريطانية السابقة لطرابلس ونفوذ عائلته السياسي، ولهذا وطد علاقته بالسيد البوصيري الشلحي واستخدمه في صراعه مع خصومه. وقد كان أيضًا صديقًا لوالده السيد إبراهيم الشلحي، الذي سعى لتعيينه واليًا على طرابلس، ليكون عقبة تحد من نفوذ ابن عمه السيد محمود المنتصر رئيس الوزراء آنذاك، والذي كان بدوره في نزاع مع السيد إبراهيم الشلحي الأب حول اختصاصات الحكومة الاتحادية والولايات ودور رجال القصر في شئون الدولة، وقد أدى هذا الخلاف إلى استقالة السيد محمود المنتصر من رئاسة الحكومة في فبراير 1954.
زواج ولي العهد الحسن الرضا
ومن الأحداث ذات العلاقة بمجرى السياسة في عهد السيد كعبار زواج الأمير الحسن الرضا ولي العهد من ابنة السيد الطاهر باكير والي طرابلس، ولم أحضر تفاصيل هذا الزواج لأني كنت خارج ليبيا. وقيل أن الملك الذي صادق على هذا الزواج كان يهدف إلى ربط ولاية طرابلس مع ملك ليبيا المقبل. وقد استُقبل هذا الزواج بعدم الرضا من سكان برقة، وكان يفضل عندهم أن يصاهر الأمير السيد حسين مازق والي برقة بالزواج من ابنة هذا الأخير للمحافظة على برقاوية الملك في ليبيا، وهو الثقل السياسي الذي يعوض الفارق السكاني بين الإقليمين طرابلس وبرقة.
كانت بريطانيا وأمريكا مهتمتين بتوطيد العرش السنوسي، وتسهيل انتقاله من الملك إدريس إلى ولي عهده بعد وفاته بدون مشاكل بين طرابلس وبرقة قد تعرض مصالح الدولتين للخطر، خاصة وقد كثر الكلام عن ضعف ولي العهد وعدم درايته بشئون البلاد وعدم تحمس الملك له وإهماله له بعد تعيينه. إن العلاقات التاريخية بين الملك وأفراد عائلته كانت متأزمة، مما جعل الملك يشك في نياتهم، خاصة بعد اغتيال صديقه وناظر خاصته السيد إبراهيم الشلحي سنة 1954 على يد أحد أحفاد السيد أحمد الشريف السنوسي، وانعكس ذلك في الإجراءات التي اتخذها ضد أفراد عائلتة السنوسية.
انتقالي إلى السفارة الليبية في لندن
كما ذكرت، تم تعييني سكرتيرًا ثانيًا بالسفارة الليبية في لندن، وكان الاتفاق أن أتولى مهام السكرتير الأول بالوكالة بالدرجة الثالثة إلى أن يحين موعد ترقيتي إلى درجة السكرتير الأول، ولكن علمت أن درجة السكرتير الأول ألغيت من كادر السفارة نتيجة سعي بعض أصحاب المصالح لتعيين شخص آخر فيها، ولم تنفع احتجاجاتي لدى رئيس الحكومة للوفاء بوعده. وكان السفير آنذاك في لندن الدكتور علي الساحلي وكان السيد فتحي العابدية مستشارًا للسفارة.
قبل استلامي لعملي بالسفارة قررت قضاء إجازتي المتراكمة في أوروبا، فسافرت إلى روما، وبعد ذلك رافقت السيدين محسن عمير وفيصل السنوسي الأشهب في سيارة هذا الأخير إلى لندن مرورًا بألمانيا وباريس. وعند وصولي إلى لندن أقمت في شقة أخي علي التي تركها لي بعد نقله وسفره إلى وزارة الخارجية في البيضاء وكانت في شارع (ادجوير روود). وعلمت حال وصولي أنه تقرر إعادة أخي علي إلى سفارة لندن كملحق ثقافي منتدبًا من وزارة الخارجية لوزارة المعارف، وقد سررت بذلك، لأنها كانت فرصة لي لنقيم معًا في شقة واحدة (في شارع هسكر استريت بتشلسي)، بعد أن فرقتنا ظروف الحياة أكثر من ثماني سنوات، وفي نفس الوقت أستفيد من خبرته الطويلة في لندن. لم يدم انتداب أخي علي سوى بضعة أشهر نقل بعدها إلى ديوان الوزارة، وعين بدله السيد أحمد بن خيال.
وقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية بالسفارة إلى جانب مساعدة مستشار السفارة السيد فتحي العابدية، الذي كانت تربطني به روابط صداقة واحترام متبادل. وقد استفدت من هذه المهمة، فقد كان عليّ أن أطلع يوميًا على أهم الصحف البريطانية ومنها جرائد (التايمس والديلي تلغراف والجارديان والديلي ميل والأوبزيرفر والإكونيمست وجويش كرونيكل وجويش أوبزيرفر اليهوديتان)، وكنت أعد ملخصًا يوميًا للسفير، وتقريرًا أسبوعيًا إلى وزارة الخارجية، يحتوي أهم ما نشر من أخبار وتعليقات عن أحداث العالم، وخاصة عن ليبيا والعالم العربي وقضية فلسطين.
وبعد فترة قصيرة تقرر نقل السفير الدكتور علي الساحلي إلى ليبيا وعين رئيسًا للديوان الملكي، وحل محله السفير الدكتور عبدالسلام البوصيري، ولا زلت أذكر يوم وصوله. فقد أعلمتنا وزارة الخارجية البريطانية بأن السفير الليبي وزوجته يحملان معهما خمس قطط، وفوجئنا في المطار بقدوم رجال الحجز الصحي البريطاني في انتظار القطط ونقلها لحجزها ستة أشهر كاملة حسب القانون البريطاني. لم يكن ذلك هينًا على زوجة السفير التي كانت تعتبر هذه القطط كأطفالها، وقد حاولت إخفاء إحداها في محفظتها الخاصة لتهريبها دون حجز، لكن رجال الحجز الصحي تنبهوا لذلك وأخذوا القطة منها مع الاعتذار. وقد حجزت القطط في مكان خارج لندن لفترة ستة أشهر، وكانت زوجة السفير تزورها يوميًا لتطمئن عليها، وقد ماتت إحداهن في الحجز.
وقبل سفر الدكتور علي الساحلي قام بتوديع الملكة اليزابيت الثانية خلال الحفلة السنوية التي تقيمها الملكة لرجال السلك الدبلوماسي، وقد كنت أنا والمستشار السيد فتحي العابدية وزوجته برفقة السفير. وفي هذه المناسبة تمر الملكة ومن ورائها أفراد العائلة المالكة على السفراء ومرافقيهم المصطفين حسب ترتيب الأقدمية للسلام عليهم والحديث معهم والاستفسار عن أحوالهم، وعندما وصلت إلى الدكتور علي الساحلي وقفت لفترة غير قصيرة للكلام معه، لأنها كانت تعرف أنه منقول إلى ليبيا، وكانت فرصة للسفير لوداعها نظرًا لاضطراره إلى السفر على عجل وعدم إمكانية تحديد موعد خاص له لمقابلتها للسلام قبل سفره كما جرى العرف. وقد طلبت منه الملكة أن يبلغ تحياتها للملك إدريس، كما ذكرت له بأنها تعرف مدينة طبرق حيث يعيش الملك، لأنه سبق لها أن زارتها سنة 1954م مع زوجها الأمير فيليب، وتمنت للسفير طيب الإقامة فيها.
لندن 1959م - بشير المنتصر مع أحمد محمود المنتصر (الأول من
اليمين) والزبير يوسف لنقي القنصل العام بالسفارة الليبية بلندن
قدم السفير للملكة مستشار السفارة السيد فتحي العابدية وزوجته، وكذلك قدمني لها ذاكرًا بأني وصلت حديثا للعمل بالسفارة. وقد تفضلت الملكة بالكلام معي معلقة بأني شاب صغير ومحظوظ لتولى مهام دبلوماسية في مدينة هامة مثل لندن. وأذكر أن رجال البروتوكول الذين كانوا في رفقتها هنأوني على اللفتة الكريمة التي خصتني بها الملكة، لأنها عادة تقتصر تعليقاتها مع رؤساء البعثات، وتكتفي بالسلام على مرافقيهم. وعندما مرت الأميرة مارغريت أشارت في حديثها مع السفير إلى عدم إحضار زوجته أثناء وجوده في لندن كسفير، وأنه الآن لا شك سعيد للعودة إلى ليبيا ليلتحق بها.
اللواء السنوسي الأطيوش رئيس أركان الجيش الليبي في زيارة لبريطانيا وعلى يمينه بشير المنتصر وعلى يساره السيدين سليمان افتيتة وجمعة التركي من أعضاء السفارة الليبية في لندن
هذا وقد قدمني السفير إلى جميع أعضاء العائلة المالكة الذين كانوا خلف الملكة في طابور طويل، بما فيهم زوجها الأمير فيليب والملكة الوالدة وأخت الملكة الأميرة مارجريت، رغم أن رجال البروتوكول طلبوا من السفير تقديم المستشار وزوجته فقط. وقد سنحت لي الفرصة مرة ثانية بمقابلة الملكة اليزابيت عندما رافقت السفير الجديد الدكتور عبدالسلام البوصيري لتقديم أوراق اعتماده لها.
ومن الجدير بالذكر هنا بأنه سبق لي أن تناولت طعام الغذاء على مائدة رئيس وزراء بريطانيا المستر هارولد ماكميلان في 10 داوننج استريت مع السيد عبدالمجيد كعبار رئيس وزراء ليبيا آنذاك أثناء زيارته لبريطانيا في أوائل سنة 1958، والتي حضرها وزير الخارجية المستر سلوين لويد ووزير الدفاع المستر دنكن ساندز وأعضاء الوفد الليبي في المفاوضات.
1958م- بشير المنتصر وأخيه على المنتصر السفير بوزارة الخارجية (الثاني من اليمين) مع السفير الليبي السيد عبدالسلام البوصيري أثناء تقديم أوراق اعتماده كسفير لليبيا في لندن ويظهر معهم السيد فتحي العابدية مستشار السفارة والسيدان الطاهر برشان وجمعة التركي
كان الدكتور عبدالسلام البوصيري كبيرًا في السن وقد درج على تكليفي بكتابة تقاريره ومراسلاته إلى الوزارة والجهات المعنية، وكان المفروض أن يساعده في ذلك مستشار السفارة ولكن يظهر أنهما كانا على غير وفاق ويختلفان في تفكيرهما السياسي. وقد أدى هذا الخلاف في الرأي بين السفير والمستشار إلى وضعي في مركز محرج في كتابة تقارير السفير التي كان يملي عليّ فحواها ودوري فيها يقتصر على صياغتها.
والدكتور عبدالسلام البوصيري من الرعيل الأول والجيل القديم. عاش ودرس في تركيا وتزوج سيدة تركية. وكان يؤمن كباقي ساسة ليبيا القدامى في الحكم آنذاك بالحفاظ على صداقة بريطانيا وأمريكا والدول الغربية، وأخذ الحيطة من الحركات القومية الناصرية. وكانت تقارير السفير البوصيري إلى وزير خارجية ليبيا ورئيس الوزراء والملك تعبر عن تفكيره الغربي وتتسم بالتحذير من السياسة المصرية العربية المتطرفة وما يسمعه من سفراء الدول العربية الصديقة لبريطانيا المتنازعة مع مصر ومن الساسة البريطانيين وسياستهم العدائية لمصر وعبدالناصر.
هذا، وفي نفس الوقت كان المستشار السيد فتحي العابدية قومي وناصري التفكير، وقد تزوج سيدة سورية تنتمي إلى عائلة الأمير عبدالقادر الجزائري. كانت سوريا في تلك الفترة متحدة مع مصر، وكان السيد العابدية غير راض عما يكتبه السفير من تقارير ولا يتفق معه في الرأي فيها. ورغم علاقات الصداقة التي كانت تربطني بالسيد فتحي العابدية فإنه كثيرًا ما أبدى لي لومه وعدم رضاه عما أكتبه للسفير.
ورغم أني كنت من الشباب المتحمس لناصر وللقومية العربية والوحدة وقد عشت السنوات الأولى لثورة 23 يوليو في مصر ولا أختلف مع السيد العابدية في آرائه القومية، إلا أنني كنت أعتقد أن من حق السفير أن يعبر عن رأيه. كما أني أعرف من خلال علاقاتي وعملي السابق مع رئيس الوزراء أن الملك ورؤساء حكوماته ومعظم السياسيين الليبيين في تلك الفترة يؤمنون بنفس الآراء والسياسة التي يعبر عنها الدكتور عبدالسلام البوصيري. وقد حرصت في عملي مع أصحاب القرار في ليبيا احترام الرأي الآخر، والاستماع إلى أصحاب الخبرة والمعرفة بتفهم. وقد أفادتني دراستي للعلوم السياسية إلى عدم الانسياق وراء الحماس الوطني في معالجة الشئون السياسية الدولية التي تعتمد على تبادل المصالح وتجنب الاصطدام وقبول أوساط الحلول.
من أهم الأحداث التي وقعت أثناء وجودي في لندن إعلان انفصال سوريا عن مصر، ونهاية أول وحدة عربية التى كانت مبعث الأمل للوحدة العربية الشاملة. وقد استقبلنا الخبر جميعًا بالدموع وحسرات الأسف والغضب على من شجع هذا الانفصال في سوريا. كانت ولاتزال الوحدة العربية أمل العرب وحلمهم ومسعى لا حياد عنه، رغم الصعاب الداخلية والخارجية، ومعارضة ومحاربة الاستعمار لها.
السفيران المصرى والسوري في استقبال بشير المنتصر بمقر سفارة الجمهورية العربية المتحدة بلندن بمناسبة احتفالات إعلان الوحدة
بشير المنتصر مع السفير المصرى بلندن (بعد الانفصال عن سوريا) السيد محمد القوني
بشير المنتصر يستقبل من طرف الطيب سليم السفير التونسي في لندن للاحتفال بالعيد الوطني التونسي
سفيرة المغرب بلندن الأميرة لالة عائشة (شقيقة الملك الحسن الثاني) وزوجها السيد محمد اليعقوبي في استقبال بشير المنتصر
لندن - صورة تجمع بين بشير المنتصر والسيد عبدالخالق حسونة - أمين عام جامعة الدول العربية - (الأول من اليمين) والسيد الطاهر برشان الموظف بالسفارة الليبية
حال وصولي إلى لندن سارعت إلى مواصلة دراستي العليا حسب تخطيطي، وانتسبت إلى كلية لندن للاقتصاد، وهي من أشهر الجامعات في مجال الاقتصاد والعلوم السياسية، وتعتبر مدرسة الاشتراكيين وعلى رأسهم الأستاذ لاسكي مفكر حزب العمال البريطاني آنذاك. وكنا في السفارة في لندن نتابع ما يجري في ليبيا، وكان أهم نشاط تتوجه الأنظار إليه هو النشاط البترولي والاكتشافات البترولية، وتزايد الإشاعات حول الفساد والاستغلال، حتى أصدر الملك بيانًا تاريخيًا مشهورًا عرف ببيان "بلغ السيل الزبا". ورغم شدة هذا البيان، إلا أن أثاره كانت محدودة، لأن مصدر الفساد كان تدخل الحاشية الملكية في العطاءات الحكومية، مما شجع الرشاوى بين رجال الدولة على مختلف مستوياتهم. ثم جاءت مشكلة طريق فزان، ومعارضة مجلس النواب للحكومة، واستقالة السيد عبدالمولى لنقي من حكومة السيد عبدالمجيد كعبار، وانطلاق الإشاعات والاتهامات حول الصفقات التي كانت تعقد في الخفاء، والتي أدت جميعها إلى سحب الثقة من حكومة السيد كعبار.
فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد
انتهت الحملة في البرلمان على رئيس الحكومة السيد عبدالمجيد كعبار باستقالته في أكتوبر 1960م، وكلف السيد محمد عثمان الصيد بتأليف الحكومة الجديدة، التي استُقبلت بكثير من الاستغراب في الدوائر الشعبية والرسمية، والشك في مقدرة السيد الصيد على تولي هذه المسئولية الكبيرة. كان السيد محمد عثمان الصيد من الرعيل الأول ووزيرًا مخضرمًا، وعلى رأس ممثلي فزان في الجمعية الوطنية التأسيسية أثناء الإعداد للاستقلال وعضو مجلس النواب. كان ذكيًا بإفراط، رغم عدم حصوله على تعليم عال، وحياته البسيطة في فزان، وتعيين الملك له كان يرجع إلى رغبته في معاملة أقاليم ليبيا الثلاثة معاملة متساوية، وخاصة بعد تعيين اثنين من رؤساء الحكومات من كل من برقة وطرابلس.
استخدم السيد محمد عثمان الصيد ذكاءه واستطاع بأساليبه السياسية القائمة على الترغيب بالمصالح الشخصية من الحصول على دعم بين أعضاء مجلس الأمة وزعماء البلاد وكبار الموظفين، مما زاد من الإشاعات لتفشي الرشوة والفساد في الحكومة خاصة. وقد بدأ في هذه الفترة تصدير الشحنات الأولى من البترول. وقد استطاع السيد محمد عثمان الصيد تجديد الاتفاقية المالية البريطانية الليبية لخمس سنوات أخرى دون ضجة. كما تم في عهده تعديل الدستور الليبي وإلغاء النظام الاتحادي وإلغاء حكومات الولايات والولاة وإقامة نظام مركزي تتولى فيه الحكومة كل السلطات، وهو مطلب قديم للشعب الذي عارض قيام النظام الاتحادي في أوائل إعلان الاستقلال. وقد استُقبل التعديل الدستوري بترحيب شعبي كبير، وباستغراب أيضًا، أن يصدر هذا القرار بسهولة ودون ضجة أو ضغط شعبي أو حتى برلماني، مما أثار الشكوك في الهدف الحقيقي من وراء هذا التغيير الذي أمر به الملك المعروف بحرصه على حفظ توازن القوى بين الولايات والمساواة بين برقة وطرابلس في التمثيل والمخصصات المالية وغيرها.
وقد عرف السبب بعد ذلك، واتضح أن شركات البترول الأمريكية وجدت صعوبات من حكومة ولاية برقة في مد أنابيب البترول من بعض حقول البترول الواقعة في ولاية برقة إلى موانئ بترولية تقع داخل حدود ولاية طرابلس، وكان معظم البترول في ذلك الوقت يأتي من مناطق تقع في ولاية برقة. ونتيجة لذلك سعت أمريكا تؤيدها بريطانيا بإقناع الملك بأن الوحدة الليبية أصبحت ضرورية لمصلحة البلاد للاستفادة من ثرواتها البترولية على الوجه الأكمل، وأن وحدة البلاد تعززت بمرور السنوات ولم يعد هناك خطر يهدد سلطات الملك كما كان عليه الحال في الماضي. ولكن رغم تحقيق الوحدة الليبية، إلا أن الملك استمر في العمل بالأسس التى قام عليها النظام الاتحادي وتوزيع التمثيل في مجلس الشيوخ وفي المناصب الوزارية والقيادية الأخرى وفي المخصصات المالية بالتساوي بين الولايات وخاصة بين برقة وطرابلس، ولم تظفر ولاية طرابلس بفائدة تذكر من الوحدة المعلنة بل خسرت المحافظة على كادرها ونظامها الإداريين المتسمين بالكفاءة والحداثة، ولم يعد للشعب في طرابلس دور في شئون حكم البلاد.
وخلال فترة وزارة السيد محمد عثمان الصيد ظهر الخلاف داخل الجيش إلى العلن، والكل كان يعرف أن ضباط الجيش ينقسمون إلى مجموعات لا تقل عن ثلاث. إحداها تحيط بالعقيد عبدالعزيز الشلحي الابن المتبني عمليًا للملك، ومجموعة أخرى ضده، والثالثة تضم غير المنتمين لهذا أو ذاك وهم الأغلبية. وقد توالى على رئاسة أركان الجيش الليبي ضباط عراقيين إلى حين تعيين اللواء السنوسي الأطيوش رئيسًا ليبيًا للأركان، وكان عمه المجاهد صالح الأطيوش من كبار رجال القبائل في برقة، وانضم الاثنان إلى الجيش السنوسي الذي أسس أثناء الحرب العالمية في مصر وشارك مع الجيش البريطاني في تحرير ليبيا من الاحتلال الإيطالي.
كان اللواء الأطيوش قويًا وشجاعًا، حاول خلق جيش قوي لكنه وجد من مجموعة العقيد عبدالعزيز الشلحي مقاومة لإضعاف نفوذه وعقبة في طريق مشاريعه، ونتيجة لتحريض الملك عليه تمت تنحيته وعين سفيرًا بوزارة الخارجية، وهو الأسلوب الذي كان يتبع مع من يراد إبعاده عن السلطة، وعين بدله اللواء نوري الصديق بن إسماعيل وهو من بنغازي ومن عائلة معروفة أصلها من قبيلة الكوافي بمصراته، وكان لا يختلف عن سلفه في شكواه من تدخل العقيد عبدالعزيز الشلحي وسلوك أنصاره في الجيش. وكنت أعرف اللواء نوري الصديق جيدًا كما أعرف اللواء السنوسي الأطيوش، وكانا كثيرًا ما يصارحاني بالمشاكل التي كانا يواجهانها في الجيش عند مرورهم بمكتبي أثناء زيارتهم لرئيس مجلس الوزراء. وكنت أعرف العديد من ضباط الجيش أو من هم في رتبة عقيد، لأن بعضهم كانوا زملائي في مدرسة طرابلس الثانوية.
وقد تمكنت مجموعة العقيد عبدالعزيز الشلحي من التخلص من اللواء نوري الصديق أيضًا وعين مكانه اللواء السنوسي شمس الدين السنوسي، وهو صهر العقيد عبدالعزيز الشلحي ورجل طيب ونزيه ولكنه واقع تحت تأثير صهره وأعوانه، وعائلة الشلحي تصاهر أيضًا الفريق محمود أبوقويطين قائد عام الأمن في برقة، والسفير محمد عبدالسلام الغماري. وفي هذه الفترة أغتيل العقيد إدريس العيساوي وهو من ألمع وأقوى ضباط الجيش، وكان العقيد عون أرحومة شقيفة أول من وجده في سيارته مضروبًا بالرصاص. وحصلت في تلك الفترة أيضًا أول محاولة للسيطرة على البلاد من قبل الجيش، ولكنها فشلت وحوكم القائمون بها، وأشيع بأن وراء المحاولة اللواء السنوسي الأطيوش رئيس أركان الجيش السابق.
واستمرت الإشاعات في عهد السيد محمد عثمان الصيد عن الكسب غير المشروع والفساد والإثراء والإسراف في الإنفاق الحكومي والإعلام الموجه لخدمة الحكومة، وكان على رأس الجهاز الإعلامي السيد أحمد الهمالي الذي أدخل الإعلام الدعائي لأول مرة في ليبيا، والذى كان يقوم على الإشادة والمبالغة في المديح للملك والحكومة، الشئ الذي لاقى استنكار الشعب الذي كان يعرف الحقائق دون حاجة إلى إعلام، فالمجتمع الليبي كان صغيرًا وأخباره تنتشر في سهرات "المرابيع" والمقاهي، التي كانت أيضًا مرتعًا للإشاعات والتعليقات والنكات السياسية التي استوردت من مصر.
لقد حاول السيد محمد عثمان الصيد أن يجعل من نفسه زعيمًا ليبيًا متميزًا بأساليبه المعروفة، فهاجم رؤساء الحكومات السابقين، وخاصة السيد مصطفى بن حليم، وسعى لبناء شعبية عن طريق الترغيب والوعود، وضم إلى حكومته عددًا من وزراء نواب غير معروفين لمجرد إرضائهم وكسب ثقتهم، مما جعل تركيبته الحكومية غير متجانسة. وتميزت فترة حكمه بهدوء سياسي على المستوى الوطني والإقليمي. فالساحة العربية كانت هادئة نسبيًا، كما أن انفصال سوريا عن مصر وفشل أول وحدة عربية أضعف الدعوة القومية بين الجماهير العربية، خاصة أن مصر تعرضت لضغوط اقتصادية من طرف الدول الغربية، مما جعلها تتجنب الدخول في المزيد من المشاكل معها وتتفرغ لحل مشاكلها الاقتصادية. كما أن الانقلاب العراقي وحكم السيد عبدالكريم قاسم ساعدا على إضعاف الحركة القومية والعلاقات بين الدول العربية.
وفي الداخل تمتعت ليبيا بفترة هدوء نتيحة هذه الأوضاع العربية. فالرأي العام في ليبيا يتأثر ويتفاعل مع الأحداث العربية أكثر من الاهتمام بما يحدث في ليبيا، لأن ما يحدث في ليبيا بالنسبة للشعب الليبي قضية خاسرة. كما أنه لم تجر في عهد السيد الصيد انتخابات نيابية، رغم أن المجلس النيابي القائم أجبر حكومة السيد عبدالمجيد كعبار على الاستقالة، ولكن السيد الصيد استطاع أن يكسب تأييدهم ودعمهم بالإغراء المادي والقروض والمناصب، وهو رئيس الوزراء الوحيد الذي لم يتخل عنه أنصاره حتى بعد خروجه من الحكومة وخلق جبهة قريبة من الحزب السياسي.
ويؤخذ على السيد الصيد أنه أبعد ليبيا عن الجزائر، فقد لوحظ فتور في العلاقات الليبية الجزائرية في عهده، واستطاع أن يقنع الملك أو يدعم الرأي القائل بأن السيد أحمد بن بلة يقف مع عبدالناصر وأن الجزائر خطر على ليبيا كمصر، وكان هذا هو رأي البريطانيين والأمريكيين أيضًا. كان الملك يتوقع تقديرًا وعرفانًا من زعماء الجزائر بتأييده لجبهة التحرير الجزائرية وتقديم الدعم لها على المستوى الرسمي والشعبي أثناء الحرب الجزائرية. وهذا الموقف الغريب للحكومة الليبية والملك لم أستطع فهمه أو من كان وراءه، خاصة أن زعماء الجزائر وعلى رأسهم الرئيس بن بلة يكيلون الشكر دائمًا لليبيا ملكًا وحكومة وشعبًا لما قدموه من مساعدات للجزائريين أثناء كفاحهم ضد فرنسا. وكان السيد أحمد بن بلة مندفعًا في الإعراب عن هذا التقدير للشعب الليبي، وقدمت الجزائر في عهده كل التسهيلات لليبيين، وكان يقول أنه ليبي قبل أن يكون جزائريًا. صحيح أن بن بلة قومي ويؤيد الرئيس عبدالناصر لكنني لا أصدق أنه يحمل شيئًا ضد ليبيا أو الملك.
لقد اتهم السيد محمد عثمان الصيد بالمحسوبية والوساطة. فبعد أن نظمت التعيينات والترقيات للموظفين في ليبيا بقوانين صارمة ومقيدة وفقًا لأحدث التشريعات، وأصبحت محترمة ومقدسة من جميع المسئولين في الحكومات السابقة، جاء السيد محمد عثمان الصيد ليخرق هذه السياسة بفتح باب الترقيات والتعيينات لغير المؤهلين. كان ذلك بادرة سيئة أدت إلى هبوط المستوى الإداري في الفترات التالية، بل أكثر من ذلك فتح باب التعيين في وظائف السلك الدبلوماسي من خارج الوزارة، الذي كان مقصورًا على موظفي الخارجية ومفصولًا عن الخدمة المدنية، بتعيين مجموعة في أعلى سلم الوظائف في الوزارة كوزراء مفوضين دون تمتعهم بشروط المؤهل والخبرة لوظائف السلك الدبلوماسي الليبي، الأمر الذي أثار تذمرًا بين موظفي وزارة الخارجية. كما استطاع إبعاد السيد عبدالرزاق شقلوف من وظيفته كوكيل لوزارة المالية بعد فترة كان فيها المتصرف الوحيد في الشئون المالية، وأعتقد أن الأمريكيين ساعدوه على ذلك لدى الملك لأنهم كانوا غير راضين عن السيد شقلوف طوال فترة إدارته لوزارة المالية.
في ديسمبر 1961م احتفلت ليبيا بمرور عشر سنوات على استقلالها، ودعت وفودًا رسمية على مستوى عال لحضور الاستعراض العسكري والاحتفالات التي أقيمت بهذه المناسبة. وألقى الملك فيها خطابًا حذر فيه من مشاكل الرخاء الذي بدأت طلائعه تظهر، وكان خطابًا بليغًا، وقيل أن الذي أعده كان السيد سليمان الجربي وزير الخارجية آنذاك. وفي عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد تطورت مدينة البيضاء وتوسع بنيانها، مما مكن الحكومة من الإقامة نهائيًا فيها. ونقلت إليها وزارة الخارجية ورئاسة مجلس الوزراء وعدد كبير من أجهزة الوزارات الأخرى، وأصبحت المقر الرسمي الدائم بعد أن كانت المقر الصيفي للحكومة.
خيبة أمـل بريطانيـا في ولي العـهد
كانت أحداث السفارة الليبية في لندن أثناء وجودي بها عادية. وقد زار بريطانيا في تلك الفترة الأمير الحسن الرضا ولي العهد زيارة رسمية واستُقبل استقبالًا رسميًا في المطار من قبل المستر جون بروفومو وزير الدولة للحرب، وأقيمت له عدة حفلات هامة ودعي من طرف رئيس الوزراء والملكة الأم إلى حفلة غذاء وحفلة عشاء، وأجرى مباحثات هامة مع كبار المسئولين في الحكومة البريطانية. وقد أقام الأمير حفلة عشاء فخمة في محل إقامة السفير اللببي حضرها المستر هارولد ماكميلان رئيس الوزراء والمستر سلوين لويد وزير الخارجية والمستر هيو جيتسكل زعيم حزب العمال والمستر دينس هيلي وزير خارجية حكومة الظل في بريطانيا من المعارضة وعدد كبير من الوزراء البريطانيين وأعضاء البرلمان البريطاني وأعضاء الوفد المرافق للأمير وأعضاء السفارة الليبية في لندن.
ونظرًا لعدم إحضار المترجم الرسمي لوزارة الخارجية البريطانية الذي كان يرافق الأمير أثناء زياراته، اقترح السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية المرافق للأمير أن أتولى أنا الترجمة للأمير مع ضيوفه. وأذكر أن رئيس الوزراء البريطاني كان متحفظًا على ذلك وسألني عن وظيفتي قبل أن أبدأ بالترجمة بينه وبين الأمير. بدأ المستر ماكميلان كلامه بتوجيه الشكر للأمير على زيارته وطلب منه إبلاغ الملك إدريس تحياته وتقديره للصداقة التي تربط بين ليبيا وبريطانيا، وحرصه على تطوير واستمرار هذه العلاقات واستمرار أواصر التحالف حسب المعاهدة المعقودة بين الدولتين، واستعداد بريطانيا للدفاع عن ليبيا ضد أي اعتداء خارجي. كما سأل الأمير عن الأمور في ليبيا وما هي المشاكل التي تواجهها ومن هي الشخصيات الليبية التي تحظى برعاية وثقة الملك، وسياسة الحكومة الليبية ومشاريعها من أجل استثمار الدخل البترولي المتزايد للنهوض بالاقتصاد الليبي، وعن الصناعة التي ترغب ليبيا في تطويرها، وعلاقة ليبيا مع جيرانها وخاصة مصر.
كان رد الأمير مختصرًا ومتحفظًا ويدل على عدم إلمام بتفاصيل المسائل التي أثارها المسئولون البريطانيين معه. وذكر في جوابه عن الصناعات التي ترغب ليبيا في تطويرها، أنها تشمل الصناعات الخاصة بالمنتوجات الزراعية والاهتمام بالريف ومجال البترول، وبادل رئيس الوزراء البريطاني الشكر والإشادة بالعلاقة بين بريطانيا وليبيا. وفي رده عن السؤال حول الشخصيات الليبية شدد على السيد مصطفى بن حليم كشخصية أساسية في النظام، ثم ذكر السيد محمود المنتصر والسيد محمد عثمان الصيد وآخرين، وبأنهم جميعًا يتمتعون بثقة الملك.
المستر هارولد ماكميلان السيد الحسن الرضا المستر سلوين لويد
أما حديث وزير الخارجية سلوين لويد مع الأمير فركز على السياسة الخارجية وعلاقات بريطانيا بليبيا، ولم يخرج عن الإطار الذي تكلم فيه رئيس الوزراء، وكأنهما استعرضا سويًا نقاط البحث مع الأمير قبل القدوم إلى الحفلة. تعرض المستر سلوين لويد بالتفصيل إلى العلاقات الخاصة بين بريطانيا والملك ومخاوف ليبيا من جيرانها، وخاصة مصر والجزائر ومساعدة بريطانيا في حالة مواجهة أي اعتداء عليها، وكذلك الموقف في الشرق الأوسط ومشكلة فلسطين والعلاقات العربية البريطانية والسياسة الإسرائيلية والوضع في العراق بعد زوال الحكم الملكي فيه، والمعاملة الخاصة للشركات والصادرات البريطانية إلى ليبيا وهي المواضيع التي تهم بريطانيا بشكل خاص. ومن المحتمل أن هذه المواضيع أثيرت بالتفصيل مع الأمير أثناء مقابلاته السابقة لرئيس الوزراء ووزير الخارجية في مكتبيهما أثناء المباحثات الرسمية.
1959م- زيارة الأمير الحسن الرضا ولي العهد إلى لندن. الواقفون من اليمين السادة: عبدالله إسماعيل بن لامين، الزبير لنقي (القنصل)، محمود البشتي، عبدالغني دريبيكة، -، شمس الدين محسن، - ، - ، السفير عبدالسلام البوصيري، بشير السني المنتصر، الأمير الحسن الرضا، العقيد راسم النايلي (ياور الأمير)، السفير (القاهرة) خليل القلال، فتحي الخوجة (كبير التشريفات الملكية) وفتحي العابدية (مستشار). الجالسون من اليمين السادة: يوسف البوصيري، أحمد عسكر، - ، - ، أحمد محمود المنتصر (طالب)، سليمان افتيتة، د. محمد محمود البشتي وعلى عسكر.
كان انطباعي أن رئيس الوزراء البريطاني ووزير الخارجية وجدا في إجابات الأمير العامة أنه غير مطلع على مجريات الأمور في ليبيا، وأن الملك لم يشركه في أمور الدولة. كما لاحظا ضعفه الثقافي واهتزاز شخصيته وعدم ثقته في نفسه، فلم يتكلم عن نفسه وطموحاته وأفكاره وآماله كملك المستقبل. وقد يكون هذا هو السبب في محاولات بريطانيا وأمريكا في السنوات الأخيرة التي تلت زيارته إلى واشنطن ولندن في التركيز على دور الأمير وإعداده للمستقبل وتدريبه ومشاركته في أمور الدولة، وشعورهما بعدم الاطمئنان لموقف الملك وبعض الشخصيات الليبية منه، ودوره غير الظاهر في مجريات الأمور في البلاد. بعد الانتهاء من الحفلة قال لي المستر هيلي وزير حكومة الظل للشئون الخارجية أني كنت الشخص الوحيد الذي استفاد من الحفلة، لأنني عرفت ما جرى بين الأمير ورئيس الوزراء ووزير الخارجية وفحوي تبادل الرأي بينهم، وهو الهدف لزيارة الأمير وهذه الحفلة.
في أواخر الفترة التي كنت فيها في بريطانيا تم نقل المستشار السيد فتحي العابدية إلى السعودية، على ما أذكر، وعين الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا مفوضًا ومستشارًا مكانه. ولم تمض شهور حتى تقرر نقلي من لندن وتعييني كسكرتير أول في السفارة الليبية في القاهرة، وهكذا انتهت أسعد فترة قضيتها في حياتي أثناء عملي الحكومي. فقد استطعت في هذه الفترة مواصلة دراستي العليا، ولكنني لم أستطع دخول أي امتحان شهادة، كما كان متوقعًا، لأني لم أتمكن من مواصلة حضوري في الجامعة ومتابعة دراستي التي كنت حريص عليها لأسباب ضغط العمل واندماجي في الحياة الاجتماعية الجديدة. ولست نادمًا على ما فعلت، فقد استفدت من عملي الدبلوماسي أضعاف ما كنت سأستفيده من دراستي الجامعية. كما أن إطلاعي على مجرى الصحافة البريطانية ومتابعة ما يجري فيها ووضع تقارير كتابية يومية وأسبوعية عنها مكنني من توسيع معرفتي والاستفادة أكثر مما كنت أستطيع أن استوعبه في قاعات الدراسة والبحث.
كما مكنني عملي في لندن من التعرف بكثير من الشخصيات البريطانية ومقابلة ملكة بريطانيا والعائلة المالكة ورؤساء وزراء بريطانيا والوزراء في المناسبات التي ذكرتها، وكذلك قابلت الكثير من زعماء العالم الذين زاروا لندن في تلك الفترة وسفراء الدول وأعضاء السلك الدبلوماسي في لندن وهم خيار السلك الدبلوماسي في العالم. كما استطعت الاستفادة من الحياة الفنية في لندن ومشاهدة المسرح والأوبرا وحضور المحاضرات المتخصصة التي لا تتاح إلا للقلة من المثقفين ورجال الفكر، ومشاهدة متاحف لندن النادرة التي يقطع الناس آلاف الأميال للقدوم إلى بريطانيا لمشاهدتها. وكذلك أتاحت لي لندن فرصة العمر للالتقاء برفيقة حياتي التي أصبحت زوجتي بعد ذلك، وهي ألمانية المولد والجنسية، والتي لم أتمكن من الزواج منها في تلك الفترة لأسباب قانونية نظرًا لأن قانون السلك الدبلوماسي الليبي يمنع زواج أعضاء السلك الدبلوماسي من أجنبيات، بالإضافة لعوامل أخرى اجتماعية وسياسية، ولم يتم زواجنا إلا بعد زوال تلك العقبات وانتقالي للعمل في الأمم المتحدة بجنيف سنة 1977.
الانتقال إلى السفارة الليبية في القاهرة
في صيف 1961 استلمت برقية من وزارة الخارجية بدون سابق إنذار بنقلي إلى السفارة الليبية في القاهرة، وذلك في الوقت الذي كنت أنتظر فيه خبر ترقيتي إلى درجة سكرتير أول، التي طال انتظاري لها، بسبب تعديل الدرجات الدبلوماسية بجعل السكرتير الثاني بالدرجة الثالثة التي رقيت إليها، وأصبحت وظيفة السكرتير الأول الدرجة الثانية. وهكذا قضيت فترة درجتين الرابعة والثالثة في الخدمة المدنية تحت لقب سكرتير ثاني. وقد علمت أن سبب نقلي المفاجئ هو صدور أمر ملكي إلى رئيس الوزراء بنقل جميع موظفي السفارة الليبية في القاهرة فورًا وتغييرهم بآخرين لأسباب معينة.
وهكذا قامت وزارة الخارجية باتخاذ قرار عاجل بإجراء حركة تنقلات استثنائية بتوزيع موظفي سفارة القاهرة على عدد من السفارات ونقل موظفين من هذه السفارات ومن ديوان الوزارة إلى سفارة القاهرة. ونتيجة لذلك نقلت أنا من لندن كسكرتير ثان والسيد شمس الدين عرابي كمستشار من روما والسيد محسن عمير كسكرتير أول والسيد يحي زكريا كسكرتير ثان إلى السفارة الليبية في القاهرة دفعة واحدة. وكان السفير الليبي في القاهرة آنذاك هو السيد خليل القلال. كان نقلي من لندن قبل قضاء المدة المحددة، وهي أربع سنوات، صدمة لي لأسباب خاصة. وكنت قد قررت دخول المستشفى للعلاج وإجراء كشوفات عامة، مما اضطرني إلى طلب تأجيل نقلي إلى نهاية 1961م كفترة إجازة صحية وكذلك إجازاتي السنوية المتراكمة.
وهكذا قضيت فترة في العلاج والإجازة ولم أستطع الانتقال من لندن إلى القاهرة حتى نهاية 1961م. وقد مررت بليبيا في طريقي إلى مصر وقابلت وزير الخارجية السيد سليمان الجربي ووكيل وزارة الخارجية آنذاك الأستاذ مصطفى بعيو، الذي تربطني به علاقات قديمة، وكان أستاذي في المدرسة الثانوية وصديق لوالدي، كما أنه كان من مصراته. وكنت غاضبًا لنقلي العاجل من لندن، وكان لقاءًا عاصفًا، ولكنهما استطاعا تهدئتي وشرحا لي الظروف الاستثنائية التي فرضت هذا النقل المفاجئ، وسافرت بعدها إلى القاهرة.
في هذه الفترة عين أخي علي السني المنتصر، الذي كان في ديوان الوزارة منذ نقله من لندن سنة 1959، في الجزائر كقائم بأعمال أول سفارة ليبية فيها إثر إعلان استقلالها. وكانت تربطه روابط صداقة متينة بالرئيس بن بلة أثناء وجوده في طرابلس وزعماء ثورة الجزائر. وكانت فترة تعيينه قد تميزت بالصراع بين السيد بن يوسف بن خدة رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة وجيش التحرير بقيادة السيدين هواري بومدين وأحمد بن بلة. وكان أخي الأصغر الهادي السني المنتصر، الذي لا زال طالبًا، من العاملين النشطاء في تأييد جبهة التحرير الجزائرية وجمع المساعدات والتبرعات لها على المستوى الشعبي مع عدد من كبار أعيان طرابلس وتجارها، وكان الجزائريون يقدرونه ويعتبرونه كواحد منهم، وقد دعي بعد استقلال الجزائر مع وفد ليبي شعبي كبير لزيارة الجزائر.
وصلت القاهرة في يناير 1962م، ولم أزرها منذ تخرجي من الجامعة في يونيو 1956م، وقد وجدتها قد تغيرت في معالمها. وأقمت في شقة بالزمالك بجوار نادي الضباط مع الزميلين السيدين محسن عمير ويحيي زكريا فقد كنا جميعًا عزابًا. كان عملي بالسفارة الليبية في القاهرة ممتعًا، فقد أسندت لي مهام الشئون الصحفية، فأتيحت لي فرصة التعرف على الصحفيين المصريين ومن بينهم زكريا نيل مراسل الأهرام الذي عرفته منذ حضوره لاجتماع الجامعة العربية في بنغازي عندما كنت سكرتيرًا لرئيس الوزراء السيد عبدالمجيد كعبار، وكان كثير التردد على السفارة الليبية، كما تعرفت على آخرين من جريدة الجمهورية ودار أخبار اليوم ودار الهلال.
كان السفير الليبي في القاهرة السيد خليل القلال من الزعماء الليبيين الذين شاركوا في فترة الإعداد للاستقلال منذ الأربعينات، وكان قوي الشخصية ويرتبط بعائلتنا
بروابط الصداقة والقبيلة فهو من كوافي بنغازي التي تتفرع من كوافي مصراته. وكان على علاقات غير ودية بأبناء الشلحي، السادة البوصيري وعبدالعزيز وعمر، الذين كانوا يزورون الإسكندرية والقاهرة باستمرار، وأقام أخوهم السيد عمر في القاهرة.
وكانت زيارات السيد البوصيري الشلحي ناظر الخاصة الملكية إلى مصرتحظى باهتمام خاص من طرف السلطات المصرية، فكان حال وصوله يستقبله الرئيس عبدالناصر وتذاع المقابلة على الراديو والتلفزيون، كما يقابل السيد حسن إبراهيم وكبار المسئولين والوزراء المصريين ويناقش معهم العلاقات الليبية المصرية باسم الملك إدريس دون حضور السفير الليبي السيد خليل القلال، مما جعل هذا الأخير يشعر بالإهانة، وكانت علاقاته مع المسئولين المصريين على أسوأ حال.
السيد خليل القلال السيد البوصيري الشلحي
وأذكر أنه أثناء مرور الملك إدريس ببورسعيد على سفينة في طريقه للحج سنة 1962 ذهبنا جميعًا، السفير وأعضاء السفارة، للسلام علىه وتوديعه مع كبار المسئولين المصريين. وقد سلمنا على الملك وقدمني السفير للملك تقديمًا حارًا، وقال له هذا السيد بشير المنتصر ومن عائلة المنتصر المعروفة ودكتور في العلوم السياسية ومن أحسن موظفي السلك الدبلوماسي الليبي، وأضاف بأنه يعتمد عليّ في تسير عمل السفارة في القاهرة، وقد سر الملك بذلك ورحب بي ترحيبًا حسنًا وشد على يدي طوال حديث السفير عني.
كان السيد البوصيري الشلحي يرافق الملك ويعامل السفير بمنتهى العداء حتى في حضور الملك. وعندما انتهى الجميع من السلام على الملك اختلى السفير القلال بالملك للتشاور دون أخذ إذن من السيد البوصيري الشلحي، وقد رتب المقابلة للسفير السيد فتحي الخوجة كبير التشريفات الملكية. وعندما علم السيد البوصري الشلحي بالمقابلة الخاصة أسرع إلى الغرفة التي يستقبل الملك فيها ضيوفه وطلب من السيد فتحي الخوجة إنهاء المقابلة حالًا، وعندما تردد هذا الأخير، دخل السيد البوصيري على الملك وطرق الباب بشدة معلنًا انتهاء المقابلة على مسمع الملك، الذي أنهى المقابلة دون اعتراض وعلى مسمع من جميع الحاضرين.
وكان السفير السيد خليل القلال قد تلقى رسالة من وزارة الخارجية في ذلك اليوم تعلمه بنقله من القاهرة إلى وزارة الخارجية في البيضاء كسفير تحت الطلب. وقد استغل السفير هذه الفرصة وطلب من الملك نقله إلى الرباط بدلًا من وضعه دون عمل في الوزارة، وقد وعده الملك بذلك، وفعلًا تم تعيينه في الرباط حال رجوع الملك إلى ليبيا. وكان السيد البوصيري الشلحي السبب في نقل السيد خليل القلال من مصر، لأنه كان يرفض استقباله في المطار عند قدومه إلى مصر ولا يهتم بزياراته، وهذا يحرج وضع السيد البوصيري أمام المسئولين المصريين. كما أن السيد خليل القلال رفض حضور جنازة السيد الأخضر العيساوي صديق الملك ورفيق جهاده الذي توفي في لندن عندما كان فيها للعلاج على حساب الحكومة الليبية ودفن في القاهرة.
كلف الملك السيد البوصيري الشلحي لحضور جنازة السيد العيساوي نيابة عنه، مما اعتبره السيد خليل القلال إهانة له، لأنه يعتبر نفسه هو الممثل الشخصي للملك في مصر. وهذا الاعتذار لعدم حضور السيد القلال الجنازة أتاح الفرصة للسيد البوصيري الشلحي أن يقترح على الملك نقله من القاهرة إلى وزارة الخارجية، وهو يعني في ليبيا بالنسبة للسفراء إحالة على التقاعد، لأن السفراء الليبيين كانوا من السياسيين ولا يتولون وظائف دبلوماسية في ديوان وزارة الخارجية، ولهذا كان السيد البوصيري الشلحي يريد عدم إعطاء السيد خليل القلال فرصة للاختلاء بالملك وطلب نقله إلى سفارة أخرى بدلًا من الخارجية. هكذا كان الملك يعامل وزراءه وسفراءه، يستمع من هذا وذاك ويرضي هذا وذاك، كالوالد الحنون يغضب أحيانًا على بعض أولاده ولا يعادي أحدًا منهم من أجل إرضاء الآخر، ولا يهمل أحدًا.
23 يونيو 1955م - السفير خليل القلال يسلم الرئيس جمال عبدالناصر قلادة إدريس الأول
كانت علاقتي مع السفير خليل القلال علاقة ممتازة. وقد لاحظ في ذلك اليوم على سفينة الملك أني كنت أجلس باستمرار إلى جانب السيد عمر الشلحي الذي جاء بدوره للسلام على الملك، لأنه كان مقيمًا في القاهرة، فلامني السفير وديًا قائلًا لقد لاحظت أن أعضاء السفارة بما فيهم أنا يحيطون بالسيد عمر الشلحي تاركين سفيرهم بمفرده (ويقصد نفسه).
كما ذكرت أسندت إلي في السفارة الشئون الصحفية، ولكن ما أن تقرر نقل السيد خليل القلال حتى رجع السيد مبروك الجيباني لتولي منصبه كملحق صحافي، وكان قد نقل إلى ليبيا ضمن الموظفين السابقين للسفارة الذين نقلوا جميعًا دفعة واحدة كما ذكرت أعلاه، ولم يتمكن من العودة بسبب معارضة السيد خليل القلال. ولما تقرر نقل السفير القلال من مصر سعى السيد الجيباني لدى الملك عن طريق أصدقائه أبناء السيد إبراهيم الشلحي للرجوع إلى وظيفته في القاهرة التي استمر يتولاها منذ أن أنشئت السفارة الليبية في القاهرة، وقد استقبله السفير القلال عند عودته ببرود. وبقدوم السيد مبروك الجيباني لتولي مهام الملحق الصحفي تفرغت أنا لشئون الجامعة العربية التي كنت أقوم بها مع السيد محسن عمير والتي تشمل حضور جلسات مجلس الجامعة ولجانها العديدة، وقد أتيحت لي الفرصة لدراسة الجامعة العربية ومشاكلها المختلفة المزمنة.
لم تطل فترة عملي بالسفارة الليبية في القاهرة فقد تقرر نقلي إلى ديوان الوزارة في أواخر سنة 1962م. وقبل أن أباشر عملي في وزارة الخارجية في البيضاء أخذت إجازتي السنوية وقضيتها في لندن لإعادة ذكرياتي الجميلة بها. وطبعا لم أكن راضيًا عن نقلي المتكرر، وقد أدت اعتراضاتي المتكررة إلى سوء العلاقات بيني وبين المسئولين في وزارة الخارجية في ليبيا. وقد حاولت أثناء مروري بالبيضاء من لندن إلى القاهرة عند نقلي إليها مقابلة السيد محمد عثمان الصيد رئيس الوزراء آنذاك للشكوى من سوء معاملتي من طرف المسئولين كما كنت أعتقد خاطئًا.
كنت أعرف السيد محمد عثمان الصيد جيدًا لما كان وزيرًا للصحة أثناء عملي مع السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء السابق، ولكن يظهر أنه كان يعرف مشكلتي وسبب طلبي للمقابلة ولهذا حاول الصديق السيد حسن أبوخريص، الذي رشحت انتدابه من وزارة الخارجية لوظيفة السكرتير الخاص مع السيد عبدالمجيد كعبار واستمر مع السيد محمد عثمان الصيد، أن يقنعني بلطف بانشغال رئيس الوزراء ونصحني بعدم انتظار مقابلته لأن ذلك قد يأخذ وقتا طويلًا، وفهمت من ذلك أن طلبي للمقابلة قد رفض. ورغم ذلك أخبرني السيد حسن أبوخريص أنه يسعى للخروج إلى إحدى السفارات في الخارج، وأن رئيس الوزراء السيد محمد عثمان الصيد يفكر في تعييني لأحل محله. ولكن هذا لم يحدث، والحمد لله، لاستقالة حكومة السيد محمد عثمان الصيد بعد رجوعي إلى البيضاء مباشرة.
الانتقال إلى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء
بعد نقلي من القاهرة إلى وزارة الخارجية في مدينة البيضاء أسندت لي مهمة رئاسة قسم الشئون العربية وجهاز فلسطين وكان أكبر الأقسام في الوزارة، وكان يضم السيدة الوحيدة فاطمة عاشور والسيد محمد هويسة وعددًا من الزملاء الجدد. وكنت أعتقد أن إقامتي بالبيضاء سوف تكون لفترة قصيرة لأنقل بعدها من جديد إلى إحدى السفارات الليبية، ولم أعرف ما يخبئه لي القدر بأن إقامتي في مدينة البيضاء ستستمر حتى الفاتح من سبتمبر 1969.
زملاء العمل بوزارة الخارجية الجالسون من الشمال الإخوة محسن عمير، بشير المنتصر، على المبروك ثم الدكتور محمد عزوز وآخرون
كان وزير الخارجية آنذاك هو السيد ونيس القدافي، وكان معروفًا بطيبة قلبه وإخلاصه للعمل وملازمته للمكتب ليل نهار، وسأتعرض للحديث عنه عندما أكتب عن الفترة التي كان فيها رئيسا للوزراء. كان الأستاذ مصطفى بعيو وكيلًا للوزارة وكانت علاقتي به جيدة منذ كان أستاذي في مدرسة طرابلس الثانوية، ورغم بعض المشاكل التي أثرتها معه بشأن نقلي المتكرر من السفارات، إلا أنني كنت على خطأ، فالموظف الدبلوماسي معرض للنقل وهى إحدى شروط الوظيفة.
أثناء تولي الشئون العربية سافرت عدة مرات إلى القاهرة لحضور اجتماعات الجامعة العربية. وبعد رجوعي في أواخر سنة 1962 من السفارة الليبية في مصر سافرت إلى جنيف سويسرا ضمن الوفد الليبي الذي ترأسه السيد خليفة موسى مدير عام الجمارك لحضور اجتماع "الغات". وكان السيد خليفة موسى ومنذ 1959، وبالرغم من وجودي في السفارة الليبية في لندن، يصر على ضمي للوفد الليبي لحضور هذا الاجتماع ويطلب ذلك رسميًا عن طريق رئيس مجلس الوزراء، رغم معارضة وزارة الخارجية التي ترى أن سفري لهذه المهمة قد يعطل بعض العمل الذي أقوم به في السفارة أو في وزارة الخارجية. والهدف من حضور ليبيا لهذا الاجتماع، كما بينت سابقًا، هو تقديم تقرير سنوي عن الإعفاءات الجمركية التي تتمتع بها صادرات ليبيا إلى إيطاليا، ويستدعي موافقة منظمة "الغات" وتجديد الإعفاء سنويًا للتأكد من حاجة ليبيا لمثل هذه المساعدة.
وكانت إيطاليا تعرف أن معظم المزارعين الكبار في ليبيا في ذلك الوقت كانوا من الرعايا الإيطاليين المقيمين في ليبيا، ولهذا تحرص إيطاليا على الموافقة على الإعفاء، كما أن ليبيا تصر عليه لأن صادرات منتوجاتها الزراعية إلى إيطاليا لا تستطيع منافسة الدول الأخرى في السوق الإيطالية، وكانت دول المغرب العربي الأخرى تتمتع أيضًا صادراتها الزراعية إلى فرنسا بالإعفاء لنفس السبب، وقد اضطرت ليبيا للتنازل عن هذا الإعفاء بعد بدء صادرات ليبيا من البترول.
كانت واجبات رئيس قسم الشئون العربية كثيرة، وكان بريد الجامعة العربية يصل في أكياس كبيرة يقوم القسم بإحالتها على الوزارات المختصة ويدرس معها جداول أعمال اللجان المختلفة، هذا بالإضافة إلى العلاقات الثنائية مع الدول العربية. كنت في نفس الوقت رئيسًا لجهاز فلسطين، وهو جهاز أسس في وزارات خارجية جميع الدول العربية مستقلًا عن الإدارات الأخرى بقرار من الجامعة العربية لضمان متابعة القضية الفلسطينية والقرارات الخاصة بها وإعطائها الأولوية. ومن مهامي حضور اجتماعات الجامعة العربية ولجانها العديدة بما فيه اجتماع أجهزة فلسطين.
ولما كنت في القاهرة حضرت أول اجتماع للجنة الدائمة للإعلام التابعة للجامعة العربية في الكويت بعد استقلالها سنة 1961. وقد استُقبلنا في الكويت استقبالًا رسميًا من طرف الشيوخ والوزراء وأمير الكويت نفسه الشيخ عبدالله السالم الصباح، وكذلك من طرف وزير الخارجية وولي العهد آنذاك الشيخ صباح السالم الصباح. وأذكر عندما قدمت نفسي للشيخ صباح السالم في الحفلة التى أقامها للوفود، بأني من ليبيا تهلل وجهه وقال إن ليبيا دولة ملكية كالكويت وظروفنا واحدة ونريد بناء علاقات متينه معها، وأصر على الإمساك بيدي وإبقائي واقفًا إلى جواره وهو يستقبل المندوبين العرب للاجتماع وكبار رجال السلك الدبلوماسي والمسئولين الكويتيين الذين قدمني إليهم. وبعد ذلك أصر على جلوسي إلى جانبه على الكنبة التي كان يجلس عليها، مما أحرجني، لأنه كان من بين الحاضرين وزراء ووكلاء وزارات من الدول العربية وأمين الجامعة العربية أولى مني بالجلوس إلى جانب ولي العهد.
وبعد انتهاء حفلة الاستقبال استدعى الشيخ صباح السالم أحد الشخصيات الكويتية وقدمني إليه، وقال لي هذا هو السفير الذي عينته في ليبيا وتونس والمغرب، وأريده أن يجتمع بك وبمندوب تونس ومندوب المغرب لتبادل الحديث عن دول المغرب وأفق التعاون مع الكويت. وفعلًا دعانا السفير الكويتي، أنا ومندوبي تونس والمغرب، إلى بيته وكان صالونه غاصًا بأمراء وأعيان الكويت. وبعد أن انتهت حفلة الاستقبال أبقانا أنا ومندوبي تونس (السيد الشاذلي زوكار) والمغرب حتى خرج الكويتيون، وبعدها دعانا للدخول لصالون آخر وقدمنا لزوجته وبناته المتخرجات من الجامعات الأمريكية، وكأنه يريد أن يرينا أنه رغم أن المرأة الكويتية محافظة في مجتمعها إلا أنها على درجة عالية من التقدم الاجتماعي والعلمي، خاصة أنه يعرف ويسمع أن المرأة في دول المغرب العربي أكثر تقدمًا واختلاطًا وتأثرًا بالحضارة الغربية.
1962م- بشير المنتصر يلقي كلمة ليبيا في اجتماع اللجنة الدائمة للإعلام التابعة للجامعة العربية بالكويت
وفي فترة عملي في وزارة الخارجية رجع السيد فتحي العابدية من السعودية ليكون مديرًا للإدارة السياسية بالوزارة ثم وكيلًا لها. وأود هنا أن أذكر أن علاقتي بالسيد العابدية كانت وطيدة منذ كنا معًا في السفارة الليبية في لندن ولهذا كان تعاوننا في الوزارة جيدًا، فالسيد العابدية وطني غيور وقومي مخلص لعروبته، ودراسة ومعالجة الشئون العربية معه كانت منتجة ومشجعة.
وفي أواخر فترة حكومة السيد محمد عثمان الصيد حصل تغيير وزاري تم بمقتضاه تعيين الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا للخارجية والسيد الطاهر باكير سفيرًا لليبيا في القاهرة بدلًا من السيد خليل القلال الذي عين سفيرًا في الرباط كما أوضحت. وكان الجو السياسي يضيق الخناق على حكومة السيد محمد عثمان الصيد، فقد زادت الإشاعات حول فساد الوزراء وسوء الإدارة المتزايد، ولم تدم حكومة السيد محمد عثمان الصيد بعد التعديل إلا أسابيع معدودة، وحان الوقت للسيد محمد عثمان الصيد لتقديم استقالته.
لم يكن أحد يعرف ما يدور في رأس الملك في تلك الفترة، فدعوة الدكتور عمر محمود المنتصر الوزير المفوض في لندن وتعيينه وزيرًا للخارجية في حكومة السيد محمد عثمان الصيد، التي كانت في أيامها الأخيرة، أثار إشاعات عن استقالة حكومة السيد محمد عثمان الصيد وإحلال الدكتور عمر محمود المنتصر مكانه. وفعلًا تمت استقالة السيد محمد عثمان الصيد في مارس 1963، ولكن الملك اختار الدكتور محي الدين فكيني ليكون رئيسًا للحكومة خلفًا له، وذلك بدعم من السيد البوصيري الشلحي صديق الدكتور فكيني. وقد أبقى الدكتور محي الدين فكيني الدكتور عمر محمود المنتصر وزيرًا للعدل في حكومته.
فترة حكومة الدكتور محي الدين فكيني
بعد تجربته مع الساسة المخضرمين لرئاسة الحكومة فكر الملك في تجربة الشباب المتعلم، ولهذا لم يكن إجراء نقل الدكتور عمر محمود المنتصر من لندن وتعيينه وزيرًا للخارجية في أواخر حكومة بن عثمان سوى مؤشرًا لاحتمال تعيينه خليفة للسيد محمد عثمان الصيد. إلا أن الحاشية الملكية وعلى الأخص السيد البوصيري الشلحي، باستثناء الملكة، لم تكن تؤيد تعيين الدكتور عمر محمود المنتصر رئيسًا للحكومة. ولهذا فكر الملك في اختيار شاب آخر متعلم، فاستدعي الدكتور محي الدين فكيني من واشنطن، وهو صديق البوصيري الشلحي، وكلفه يوم 19 مارس 1963 بتأليف الحكومة بعد قبول استقالة السيد محمد عثمان الصيد. وعلى إثر ذلك نقل الأستاذ مصطفى بعيو وكيل وزارة الخارجية إلى الجامعة الليبية وعين بدله السيد فتحي العابدية وكيلًا للخارجية، وعين السيد شمس الدين عرابي مديرًا للإدارة السياسية.
كانت الحكومة الجديدة تضم معظم الوجوه القديمة مع بعض التغييرات وهو ما جرى العمل به منذ الاستقلال، فقد كان الملك يحرص دائمًا على عدم إحداث تغيير شامل فجأة، بل كان يجري التغيير تدريجيًا، حتى رؤساء الحكومات السابقين كانوا دائمًا وزراء في الحكومات المستقيلة السابقة، باستثناء الدكتور محي الدين فكيني وبعده السيد محمود المنتصر الذي اختير رئيسًا للوزراء بعد الدكتور محي الدين فكيني من خارج الحكومة المستقيلة.
الدكتور محي الدين فكيني شخصية معروفة وسمعته جيدة وهو يحمل أرقى الشهادات في القانون من فرنسا وهو من عائلة معروفة منذ أيام الجهاد الليبي، وقد قوبل تعيينه بالترحيب، وخاصة في ولاية طرابلس، ولكنه لم يكن معروفًا في برقة، مما جعله موضع شك وحذر. كانت سنة 1963 مليئة بالأحداث العربية، وكان الدكتور محي الدين فكيني يعطي الشئون العربية اهتمامًا خاصًا، ولهذا كان السيد فتحي العابدية كثيرًا ما يأخذني معه بصفتي رئيسًا لقسم الشئون العربية في مقابلاته لرئيس الوزراء عندما يدرس معه الشئون العربية لثقته فيّ وتقديره للجهود التي أبذلها في عملي.
أثناء هذه الفترة بين استقالة السيد محمد عثمان الصيد وتعيين الدكتور محي الدين فكيني رئيسًا للوزراء سافرت إلى القاهرة لحضور اجتماعات مجلس الجامعة العربية. وكان سفير ليبيا في القاهرة السيد الطاهر باكير رئيس الوفد الليبي، وكان من الرعيل الأول ومن المثقفين في العلوم الدينية واللغة العربية، وهو من بيت علم في مدينة طرابلس ومن الساسة المحترمين شعبيًا، فوالده الشيخ إبراهيم وعمه الشيخ محمد كانا من كبار العلماء.
كان الشيخ إبراهيم باكير (1856-1942م) فقيهًا وعالمًا وشاعرًا فلقِّب بـ (شيخ مشايخ القطر الطرابلسي)، ولد وتوفي بطرابلس. أثناء الحكم التركي ترأس محكمة الاستئناف، وفي سنة 1906م عين مفتيًا لطرابلس. ولما احتل الإيطاليون طرابلس هاجر إلى سوريا سنة 1912م وبقي بها نحو ثماني سنوات، ولما عاد إلى طرابلس عين عضوًا بالمحكمة العليا الشرعية ثم رئيسًا لها، كما كان في نفس الوقت إمامًا لمسجد درغوت باشا بطرابلس. ومن مؤلفاته: (رسالة في علم المنطق) و(رسالة في علم البيان) و(منظومة في الحكمة والأدب) و(فتاوى على المذهب الحنفي)، وله ديوان شعر لا يزال مخطوطًا عند الأديب علي مصطفى المصراتي ولم يطبع بعد. وللشيخ إبراهيم باكير أبيات شعر مشهورة في البازين الأكلة الشعبية الأولي في ليبيا تقول:
خير الموائد عندنا البازين .. واللحم حوله ناضج وسمين
فاقطع بكفك قطعة من أصله .. ثم أدلكنها جيدًا فــتلين
حتى إذا ما أشبعت مرقًا فكل .. بالخمس من يمناك فهي تعين
هذا هو الأكل اللذيذ وإنه .. ذو لذة للآكلين تبين
وبعد ذا كاسات شاي أخضر .. ورقيلة صوت لها ورنين
كان السيد الطاهر باكير لا يتفق في الرأي مع الساسة المصريين بسبب سياستهم الليبرالية وطموح الرئيس عبدالناصر للسيطرة والهيمنة على العالم العربي. وكان يشكو من كثرة وثائق اجتماع مجلس الجامعة العربية، ولهذا كان يرجع إليّ عند مناقشة هذه الوثائق على أساس أني قادم من ليبيا وقد درست مع المسئولين في وزارة الخارجية جدول أعمال مجلس الجامعة في ضوء السياسة الليبية. وكان دائمًا يتجنب الاصطدام مع الوفد المصري، فسياسة مصر ليبرالية وسياسة ليبيا محافظة، وكانت قضية الاعتراف بالانقلاب في اليمن على قائمة جدول الأعمال مجلس الجامعة العربية الذي جئت لحضوره.
بشير المنتصر والسيد الطاهر باكير السفير الليبي في القاهرة يحضران اجتماعا لمجلس الجامعة العربية
كانت ليبيا الدولة الثانية بعد السعودية التي لم تعترف بالانقلاب في اليمن حتى ذلك الحين. وكان السيد محمد عثمان الصيد يحاول قبل استقالته الحصول على موافقة الملك للاعتراف بالوضع الجديد في اليمن لكنه لم ينجح في ذلك، فموقف الملك من الانقلابات العسكرية ضد الأنظمة الملكية معروف منذ موقفه من انقلاب العراق. وقد غادرت البيضاء دون تعليمات محددة في هذا الموضوع لأننا لم نحصل في وزارة الخارجية على توجيهات الملك ورئيس الوزراء بعد استقالة السيد محمد عثمان وتولي الدكتور محي فكيني مهمة تأليف حكومته. وقد أدي الوضع الجديد إلى تأخري في السفر إلى القاهرة وقد وصلت بعد جلسة مجلس الجامعة الأولى. وأذكر أن السفير وأعضاء السفارة الليبية كانوا ينتظروني على أحر من الجمر لمعرفة تعليمات الحكومة في موضوع الاعتراف بالوضع في اليمن.
علمت من الوفد الليبي أنه فعلًا تم عرض موضوع الاعتراف بالنظام الجمهوري في اليمن في أول الجلسة الافتتاحية لمجلس الجامعة العربية. ورغم اقتراح عضو الوفد الليبي السيد شمس الدين عرابي على السفير طلب تأجيل الموضوع حتى تصل تعليمات الحكومة الليبية، إلا أن السفير، وهو رئيس الوفد، تردد ولم يأخذ الكلمة، وكان يخشى رد الفعل في الإعلام المصري وإذاعة صوت العرب، ولهذا اتخذ موقف الصمت. لم يطلب رئيس مجلس الجامعة العربية التصويت على القرار وأعلن موافقة جميع أعضاء المجلس باستثناء المملكة السعودية، التى تحفظت، على الاعتراف بالنظام الجديد في اليمن. ولم يعلق السفير الليبي، ولكنه في نهاية الجلسة أسر للأمين العام للجامعة العربية بأن وفده لم يعلن رأيه في القرار منعًا لأي خلاف بين أعضاء الجامعة رغم وصول تعليمات من حكومته، وكان رد الأمين العام عبدالخالق حسونة باشا دبلوماسيًا، وقال للسفير نعم ما فعلت يا سعادة السفير.
وما أن انتهت جلسة المجلس في ذلك اليوم حتى بادرت الصحف المسائية المصرية في اليوم نفسه والصحافة المصرية في صباح اليوم التالي، معلنة في صفحاتها الأولى بالخطوط العريضة الحمراء خبر اعتراف ليبيا بجمهورية اليمن، وخصصت الإذاعات المصرية والعربية حيزًا كبيرًا للخبر. وعندما عرف السفير السيد الطاهر باكير أني لا أحمل تعليمات الحكومة في الموضوع أصيب بانزعاج كبير تحسبًا من ردة فعل الملك عندما يسمع الأخبار بالاعتراف باليمن دون موافقته، وهو دائما يتابع أخبار الإذاعة المصرية ولندن. وأذكر أننا بقينا في السفارة ساعات طويلة لإعداد برقية مطولة إلى وزارة الخارجية في ليبيا، نشرح فيها ما جرى في مجلس الجامعة، وعدم إعطاء رئيس مجلس الجامعة الفرصة للسفير الليبي إبداء رأيه، واستغلال الإعلام المصري لهذا الموقف.
وفي صباح اليوم التالي وصلت برقية من وزارة الخارجية الليبية بموافقة الحكومة الليبية على الاعتراف بالنظام الجمهوري الجديد في اليمن، وكان هذا أول قرار لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي استطاع الحصول على موافقة الملك عليه أثناء حلف اليمين، إذ لم يكن من عادة الملك رفض اقتراحات رؤساء حكوماته في أيامهم الأولى في الحكم، مهما كانت خطورتها. وهكذا تهلل وجه السفير باكير بشرًا وفرحًا، واعتبره نصرًا شخصيًا، وأن موقفه في مجلس الجامعة كان نصرًا لليبيا، وتحسينًا لسمعتها، والإشادة بدورها الفعال في السياسة والقضايا العربية.
تأخر اعتراف ليبيا بالنظام الجمهوري في اليمن يعطي دليلًا آخر على كراهيه الملك للحكومات العربية الليبرالية والثورات العسكرية، ومناصرته للأنظمة الملكية والأسرة الهاشمية وأهل البيت بالذات. كما يدل على إيمان الملك بدوره في حكم البلاد بما يراه هو، ولا عبرة لرأي الآخرين، وأن القرارات الهامة في الشئون الداخلية والخرجية تجب موافقته عليها قبل صدورها، مما يجرح شعور رؤساء حكوماته المسئولين دستوريًا على هذه القرارات أمام مجلس الأمة، وخاصة أن الملك كثيرًا ما يصدر تعليماته شفويًا أو عن طريق سكرتيره الخاص دون مناقشتها مع رئيس الوزراء مقدمًا.
كانت سنة 1963م مثيرة بالقرارات الوطنية الشجاعة لحكومة الدكتور محي الدين فكيني الذي كان متواضعًا في تسييره لأمور الدولة، وكان يستعين برأي كبار الموظفين الذين لم يتعودوا على هذه المعاملة على هذا المستوى. وأذكر أنني اقترحـت بصفتي رئيس قسم الشئون العربية وفلسطين أكثر من مرة على وكيل الوزارة السيد فتحي العابدية أن يقترح على رئيس الوزراء استدعاء السفراء الأجانب للاحتجاج على أي إجراء تعسفي إسرائيلي ضد الشعب الفلسطيني أو مساس بالقضايا العربية، وإذاعة مثل هذه المقابلات عبر وسائل الإعلام لإظهار مشاركة الحكومة الليبية لشعور الشعب الليبي والرأي العام العربي بما يجري فى المنطقة العربية، وهو ما كان يشكو منه الشعب الليبي في عهد الحكومات السابقة، حيث كان مغيبًا عما يجري من أحداث عربية هامة، تجنبًا لأية مظاهرات وما يتخللها من حوادث الشغب، ويعتمد الشعب الليبي في معرفة ما يجرى على بعض الإذاعات العربية الليبرالية التى كانت تثير الشعوب العربية ضد حكامها، وتستعمل القضية الفلسطينية وسيلة لهذا الهدف.
وأود هنا أن أذكر بأننا كنا كموظفين في مجالاتنا الدبلوماسية نتجاوب مع ما يحدث في فلسطين والعالم العربي والعالم الإسلامي، وكنا نصارح الدبلوماسيين الغربيين ممثلي الدول الصديقة لإسرائيل بخطورة مثل هذه الأعمال التعسفية التي تقترفها إسرائيل في فلسطين على العلاقات بين بلادهم وليبيا التي هي جزء من الوطن العربي، ونطلب منهم بإلحاح نقل ذلك إلى حكوماتهم ولفت نظرها إلى الأثار السيئة التي تحدثها مثل هذه الأعمال الإسرائيلية على مصالحها في المنطقة العربية، وضرورة عدم ترك إسرائيل تتمادى في عدوانها على الشعب الفلسطيني. وللتاريخ أقول، كان هؤلاء السفراء والدبلوماسيون يتجاوبون معنا في نقل كل ذلك إلى حكوماتهم، وكانوا يصارحوننا بالصعوبات والضغوط التي تتعرض لها حكوماتهم وبرلماناتهم ووسائل الإعلام من اللوبي (lobby) الصهيوني المؤيد لإسرائيل في العواصم الغربية، وخاصة في الولايات المتحدة الأمريكية.
وكان الدبلوماسيون الأجانب دائمًا ينقلون صورة حية وحقيقية لما يجري في البلاد التي يمثلون بلادهم فيها. وكنا في وزارة الخارجية تنقصنا المعلومات الدقيقة عما يجري في العواصم العربية والغربية نتيجة لضعف الجهاز الدبلوماسي الليبي في الخارج. وكان الدبلوماسيون الأجانب مصدر معلومات بالنسبة لنا، لأنهم كانوا يوفرون لنا المعلومات عما يجري في المنطقة العربية والعالم، التي تصلهم تباعًا من حكوماتهم وسفاراتهم في دول العالم، وخاصة في الدول العربية، وما ينشر في صحف بلدانهم اليومية والمتخصصة.
حاولت أثناء عملي كرئيس لقسم الشئون العربية تنظيم وثائق القسم، وهي كثيرة، وكان يساعدني موظفون أكفاء وعلى رأسهم السيدة فاطمة عاشور، أول دبلوماسية في السلك الدبلوماسي الليبي، والسيد محمد هويسة. وفي هذه الفترة، وبطلب من وكيل وزارة الخارجية، اشتركت مع المستشار السيد العارف بن موسى ولفيف من الزملاء في الوزارة للإعداد لمؤتمر القمة الإفريقي الأول الذي عقد في أديس أبابا في مايو 1963 والذي شاركت ليبيا فيه بوفد يرأسه الأمير الحسن الرضا ولي العهد، وكنت من ضمن أعضائه. وكان المستشار السيد العارف بن موسى مشهورًا بحرصه الشديد على إنجاز ما يسند إليه من مهام بكل إخلاص واتقان مبالغ فيهما. فقد أعددنا بإرشاداته أرشيفًا كاملًا لجميع قرارات المؤتمرات الإفريقية السابقة وقرارات الأمم المتحدة وهيئاتها المختلفة المتعلقة بالقارة الإفريقية، وقمنا بإجراء الدراسات الوافية على جدول أعمال القمة الإفريقية والمشاكل الإفريقية، كما أعددنا التوصيات عن مجالات التعاون الإفريقي، التي سيقترحها الوفد الليبي على مؤتمر القمة.
تألف الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا ولي العهد نيابة عن الملك الذي اعتذر لظروفه الصحية وتعذر سفره جوًا، لأنه لم يركب الطائرة طوال حياته. وكان الدكتور وهبي البوري وزير الخارجية رئيسًا للوفد الليبي إلى مؤتمر وزراء الخارجية الذي كلف بإعداد جدول أعمال وتوصيات مؤتمر القمة. وقد شارك الوفد الليبي مشاركة فعالة، رغم الخلاف بين الدكتور وهبي البوري والسيد العارف بن موسى حول محتوى كلمة ولي العهد في المؤتمر. فقد أصر السيد بن موسى على أن تكون الكلمة بالصيغة التي أعدت في البيضاء وأطلع عليها مجلس الوزراء، بينما رأى الدكتور وهبي البوري تعديلها حسب المستجدات في المؤتمر، وفعلًا تم ذلك. لكن السيد العارف بن موسى أصر على تقديم التوصيات الكثيرة التي أعدها الوفد الليبي إلى القمة مباشرة، بعد تعذر دراستها من طرف وزراء الخارجية.
بشير السني المنتصر ضمن الوفد الليبي برئاسة الأمير الحسن الرضا ولي العهد في مؤتمر القمة الإفريقي الأول الذي عقد في أديس أبابا في مايو 1963م برئاسة أمبرطور أثيوبيا هيلا سيلاسي والذي أقر فيه ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية
كانت القرارات أمام القمة تقتصر على الموافقة على ميثاق المنظمة وملاحقه، وترك بقية القرارات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلى دورة قادمة، بعد التصديق على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية من السلطات التشريعية للدول الأعضاء وبعد تأليف اللجان المتخصصة في المجالات المختلفة. ولم يعجب هذا السيد العارف بن موسى، وأصر على تقديم توصيات الوفد الليبي العديدة كاملة في اجتماع القمة النهائي بدون موافقة وزراء الخارجية الأفارقة والدكتور وهبي البوري. ورغم عدم إدراجها في جدول الجلسة الختامية للقمة، إلا أن السيد العارف بن موسى طلب الكلمة في الاجتماع الختامي وأثار موضوع توصيات الوفد الليبي، مما أحرج السكراتيرية. وبعد مداولات جانبية اقترح رئيس المؤتمر الموافقة على أن تلحق التوصيات الليبية في المسائل الاقتصادية والثقافية على اللجان المختصة بعد إنشائها، واقتصر قرار المؤتمر على الموافقة على الميثاق كما كان مقررًا. وقد أعتبر السيد العارف بن موسى هذا نجاحًا خاصًا للوفد الليبي.
الرئيس الجزائري أحمد بن بلة (الأول من اليمين) والسيد الحسن الرضا ولي العهد في استقبال الرئيس جمال عبدالناصر
وقد كان المؤتمر عظيمًا ومهرجانًا أفريقيًا تاريخيًا تصالح فيه الخصوم، وضم الأباء المؤسسين لأفريقا الحرة أمثال كوامي نكروما وهيلا سيلاسي والحبيب بورقيبة وجمال عبدالناصر وباتريس لومومبا وأبوبكر طفاوة بن عليوة وغيرهم. وكانت آمال وطموحات الإفريقيين في أوج ذروتها. وقد حقق المؤتمر نجاحًا بالموافقة على ميثاق منظمة الوحدة الإفريقية. وكان المؤتمر فرصة لنا جميعًا لحضور هذه المناسبة التاريخية العظيمة، وأن نستلم ميدالية المؤسسين للمنظمة التي وزعت على جميع أعضاء الوفود التي حضرت المؤتمر.
الزعماء الأفارقة في طريقهم إلى صالة الاجتماعات
ومن أهم الأحداث التي عايشتها في هذه الفترة أن بعض زعماء الدول الإفريفية كانوا مهتمين بالاشتباك المسلح بين الجزائر والمغرب نتيجة نزاع على الحدود بينهما، ولهذا قرر ستة من زعماء أفريقيا، كان من بينهم الرئيس عبدالناصر إمبراطور الحبشة، عقد اجتماع لبحث هذا النزاع في مدينة طرابلس لموقعها الجغرافي المتوسط، وموقف ليبيا المحايد، دون الرجوع إلى الحكومة الليبية وأخذ رأيها مسبقًا في الموضوع على أساس أن هذا الموضوع يهم الجميع. وأذيع الخبر في الإذاعات العالمية، ويظهر أن الملك كان يستمع إلى إذاعة لندن التي أذاعت هذا الخبر، فاتصل برئيس الوزراء مستفسرًا عن صحة الخبر وعما كان قد وافق على مثل هذا المؤتمر. وطبعًا نفى رئيس الوزراء علمه بالموضوع، وحتى لا تفاجأ ليبيا بالأمر الواقع ووصول الزعماء، طلب الملك من رئيس الوزراء إبلاغ الرؤساء المعنيين بعدم إمكانية عقد هذا المؤتمر في طرابلس لعدم توفر الإمكانيات.
والحقيقة أن الملك خشي أن يتم هذا الاجتماع في طرابلس ويحضره الرئيس جمال عبدالناصر، وما قد يؤدي إليه حضوره من قيام الشعب الليبي بالترحيب به بشكل قد يؤدي إلى عدم السيطرة على الأمن في البلاد وقيام مظاهرات يصعب السيطرة عليها، وقد تؤدي إلى نتائج وخيمة. وسرعان ما اتصل رئيس الوزراء بوكيل وزارة الخارجية السيد فتحي العابدية الذي بدوره اتصل بي والسيد محسن عمير، وكان آنذاك مديرًا للإدارة السياسية، وطلب منا الحضور إلى مكتبه في ساعة متأخرة من الليل لدراسة الموضوع وتنفيذ تعليمات الملك.
ورغم أن السيد العابدية كان قوميًا متعصبًا للعروبة والرئيس عبدالناصر، إلا أنه كان ينفذ تعليمات الملك ورئيس الوزراء دون اعتراض، لذلك قام بالاتصال بالسفارات الليبية في العواصم المعنية وطلب منها الاتصال بالجهات المختصة والإعراب عن الأسف بعدم إمكانية عقد مؤتمر القمة المقترح في طرابلس. وكان السيد فتحي العابدية قد طلب مني والسيد محسن عمير رأينا في الموضوع، فأعرب السيد محسن عمير عن رأيه بصراحة قائلًا إن عقد مثل هذا الاجتماع في ليبيا شرف لها ويدعم حيادها في النزاعات القائمة ودورها الإفريقي والإسلامي. فأوضح له السيد فتحي العابدية بأن الأوامر صدرت بالاعتذار، لكن إذا أصر السيد محسن عمير على رأيه فيمكن رفعه إلى الملك، ولكن السيد محسن عمير سحب تعليقه بحجة أن هذا من مهام رئيس الوزراء لا من موظف في الخارجية. وفعلًا قمت أنا والسيد عمير بالاتصال بالسفراء المعنيين في ليبيا وإبلاغهم الاعتذار عن عقد المؤتمر المقترح في ليبيا، وكان السفراء الذين اتصلنا بهم لا يعرفون شيئا عن الموضوع. وكان هذا الحدث صدمة لنا جميعًا وللدكتور فكيني الذي كان يأمل في انتهاز سياسة عربية متحررة لحكومته الجديدة.
كان الدكتور فكيني متحمسًا وكان يأمل في إصلاح الوضع السياسي في ليبيا وتحسين الظروف التي كانت تعيشها البلاد. وفعلًا توحدت البلاد وانتهى النظام الاتحادي، وحاول الوقوف في وجه الضغوط الخارجية والداخلية وتدخل الحاشية الملكية في شئون الحكومة. وكان يأمل أن يساعده صديقه السيد البوصيري الشلحي، ولكن هذا الأخير كان بدوره يواجه صعوبات مع المسئولين في برقة ويتجنب الاصطدام بهم لنفوذهم لدى الملك ويأمل من أن يتمكن رئيس الحكومة من السيطرة على البلاد وإضعاف نفوذهم، مما يزيد من نفوذه هو أيضًا. وهكذا وجد الدكتور محي الدين فكيني معارضة متزايدة من زعماء برقة يتزعمهم الفريق محمود أبوقويطين قائد قوة دفاع برقة والمدير العام للأمن في ليبيا وهو من أقوى الشخصيات التي كان لها نفوذ عند الملك.
كان رئيس الحكومة يأمل الإقلال من مشاريع البناء الضخمة في البيضاء ويفكر في تحويلها إلى مدينة جامعية، وقد أصدر أوامره فعلًا بتحويل بعض المباني لهذا الغرض، مما زاد من قوة معارضة زعماء برقة له. لا أستطيع أن أتعرض لمزيد من التفاصيل عن سياسة الدكتور محي الدين فكيني لأنني لم أكن قريبًا منه. ويقال عنه إنه كان واقعًا تحت تأثير أخيه السيد علي فكيني الذي كانت له طموحات كبيرة في حكم البلاد والحصول على تعويضات مادية من الحكومة عن أملاك عائلته التي صادرتها إيطاليا في الحرب الليبية الإيطالية، ومنها بيتهم الكبير في شارع ميزران بطرابلس الذي شيدته إيطاليا وجعلته بيتًا لكبار موظفيها والذي أرجعه السيد محمد عثمان الصيد لهم عندما كان رئيسًا للوزراء.
من مصادفات القدر أني سافرت في نهاية 1963م في إجازة إلى لندن وكانت عادتي أن لا أعطي عنواني لأحد حتى لا أستدعى من الإجازة لأي سبب من الأسباب. وكانت التحضيرات تجري لحضور ليبيا لمؤتمر القمة العربي الأول في القاهرة الذي خصص لدراسة قضية فلسطين والقيادة العربية المشتركة وتنسيق جهود الدول العربية لمواجهة الصراع العربي الإسرائيلي في المرحلة القادمة. كانت فترة تتميز بغليان الشارع العربي لموقف حكوماته المتخادل والسلبي من القضية الفلسطينية منذ الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956م. كنت أنوي أخذ قسط من الراحة قبل عقد المؤتمر، ولكن لظروف طارئة لم أكن أعرفها تم تقديم تاريخ موعد عقد المؤتمر ولم تتمكن وزارة الخارجية من معرفة عنواني لدعوتي للعودة، فقد كنت رئيس قسم الشئون العربية وقسم جهاز فلسطين ودوري كان هامًا للإعداد والمشاركة في مؤتمر القمة.
وهكذا لم أحضر المؤتمر الذي كان الرأي العام العربي يتابعه باهتمام، وكان الشعب الليبي من أكثر الشعوب العربية تحمسًا واهتمامًا بالمؤتمر. وأثار اعتذار الملك عن الحضور وإنابة ولي عهده غضبًا شعبيًا كبيرًا في ليبيا وقامت المظاهرات الصاخبة في مدينة بنغازي واصطدم الطلاب مع قوات الأمن، مما أدى إلى سقوط ضحايا من الطلاب، واتهمت فيها قوة دفاع برقة باستخدام العنف المبالغ فيه إلى حد دخول المدرسة الثانوية في بنغازي تعقبًا للطلاب.
وقد أثارت هذه الحوادث غضبًا شعبيًا كبيرًا في بنغازي وتجاوب الشعب والطلاب في طرابلس وبقية المدن الليبية مع إخوانهم في بنغازي وقامت مظاهرات عارمة لم تعرفها البلاد في الماضي. وكان رئيس الحكومة في هذه الفترة في القاهرة لحضور مؤتمر القمة، وحال رجوعه ألقى خطابًا هامًا في إحدى المظاهرات في مدينة طرابلس مؤكدًا بأن التحقيق سيأخذ مجراه ضد ضباط الأمن المسئولين عن استعمال العنف في بنغازي، وأصدر قرارا بإيقاف كبار ضباط القوة المتحركة في برقة، مما أدى إلى اصطدامه مع مدير الأمن العام الفريق محمود أبوقويطن الذي وقف مؤيدًا لضباطه.
وفي طرابلس رفض ضباط الأمن تنفيذ الأوامر الصادرة لهم من الفريق أبوقويطين بفض المظاهرات باستعمال القوة خوفًا من ملاقاة نفس مصير إخوانهم الضباط في برقة، مما اضطر الفريق أبوقويطين للتدخل وأمرهم على مسئوليته الخاصة، لأنه هو المسئول عن أمن البلاد، وليست الحكومة. بل أكثر من هذا اتهم رئيس الوزراء بمحاولة بلبلة الرأي العام وتعريض الأمن للخطر، وكذلك لإصدار أوامره إلى قوات الأمن برفع الحراسة عن المسئولين السابقين، ووقف كل المرتبات والهبات التي كانت تدفع لبعض المسئولين ومشايخ القبائل في برقة.
وأمام هذا التحدي لسلطاته وجد رئيس الوزراء نفسه مضطرًا إلى أن يطلب من الملك الموافقة على مرسوم بإعفاء الفريق محمود أبوقويطين من منصبه. ووجد الملك نفسه في موقف حرج بين رئيس وزرائه الدكتور فكيني والفريق محمود أبوقويطين أخلص إنسان إليه. فالفريق محمود أبوقويطين يعتبر من أقرب الناس إلى الملك وخدمه طوال حياته في المهجر وبعد الاستقلال. وهكذا طلب من الدكتور محي الدين فكيني تقديم استقالته وتكليف السيد محمود المنتصر برئاسة الحكومة الجديدة. وقد سمعت من السيد إدريس بوسيف سكرتير الملك الخاص بعد ذلك أن الملك قضى أيامًا عصيبة ولم يغمض له جفن أثناء هذه الأزمة وكان يصلي طوال ليله مستخيرًا إلى الله أن يهديه القرار السديد. وفي صباح أحد الأيام بعد صلاته للصبح أبلغه بأنه بعد تفكير عميق وجد أن البلاد في خطر وفي حاجة إلى رئيس وزراء حازم لينقذها مما هي فيه كما أنقذها في السنوات الأولى للاستقلال وأن هذا الشخص في نظره هو السيد محمود المنتصر.
مارس 1957م: من اليمين إلى اليسار السيد الفريق محمود أبوقويطين قائد عام قوة دفاع برقة، السيد وهبي البوري وزير الخارجية، السيد فتحي الكيخيا نائب رئيس مجلس الوزراء، المستر ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي دوايت أيزنهاور، السيد أبوسيف ياسين ناظر الداخلية بولاية برقة
من الأحداث التي أذكرها عندما كنت في الخارجية زيارة المستر ريتشارد نيكسون نائب الرئيس الأمريكي إلى ليبيا سنة 1957، أثناء حكومة السيد مصطفى بن حليم، وكنت ضمن بعض موظفي وزارة الخارجية الذين قدموا إليه من طرف السيد سليمان الجربي وكيل وزير الخارجية آنذاك. وكان اللقاء على ما أذكر في فندق الودان بطرابلس، وقد كان نيكسون محاطًا بحرس في داخل الحجرة التي استُقبلنا فيها، إلا أني لا أذكر تفاصيل عن زيارته ومقابلاته لأنني كنت حديث التعيين في الخارجية.
مواقف طريفة من البيضاء
رغم أني عشت في مدينة البيضاء حوالي سبع سنوات، ورغم مضي السنوات الطويلة لا زالت هذه المدينة الجبلية على لساني تذكرني بالحياة غير الطبيعية التي كان يعيشها الوزراء والموظفون الليبيين في هذه المدينة الجبلية الصغيرة، فقد فرضت عليهم الحياة في البيضاء دون عائلاتهم وبعيدًا عن أعمالهم ومسئولياتهم وأصدقائهم ومجتمعاتهم. وكما هي العادة عندما لا يستطيع الإنسان إبداء رأيه وإعلان معارضته يلجأ إلى النكتة. ومدينة البيضاء كانت موضع سخرية ونكت المقيمين فيها من وزراء وموظفين جاء معظمهم من طرابلس وبنغازي حيث يستقر معظم السكان.
وأذكر في سنة 1958 في أيام السيد عبدالمجيد كعبار رئيس الوزراء تقرر نقل الحكومة إلى البيضاء في فترة الصيف، ولم يكن في البيضاء استعداد لمكاتب وبيوت الوزراء وكبار الموظفين. وخصص المكتب القديم للمتصرفية أو المديرية لرئاسة الحكومة ومجلس الوزراء، وخصصت بعض الفيلات القديمة التي كانت لموظفي الحكومة الإيطالية لإقامة الوزراء العزاب. وخصص لكل وزيرين فيلا واحدة صغيرة مكونة من حجرتين، وكان الحاج إسماعيل بن لامين وزير المالية والشيخ عبدالحميد الديباني وزير العدل يقيمان في فيلا واحدة.
وأذكر أن الحاج إسماعيل بن لامين، وهو مشهور بالنكتة الليبية البسيطة، علق على رفيقه في الفيلا الشيخ الديباني، فقال إن الشيخ عبدالحميد يقوم الساعة الخامسة صباحًا ويستحم في الحمام ويصلي الفجر ثم ينام، ويقوم بعد ذلك الساعة الثامنة ويستحم من جديد ليكون طاهرًا لأوقات الصلاة الأخرى. ولما كان سخان المياه يحتاج إلى ساعتين أو أكثر لتسخين الماء فإن الحاج إسماعيل بن لامين عندما يصحى في الساعة التاسعة يجد المياه باردة يتعذر معها أخذ حمام، فسأل زميله في الفيلا الشيخ عبدالحميد الديباني لماذا يستحم مرتين كل صباح في الساعة الخامسة وفي الساعة الثامنة، فكان جواب الشيخ عبدالحميد بسيطًا وفي كلمتين: "أضغاث أحلام يا إسماعيل بي".
ويحكي الحاج إسماعيل بن لامين نكتة أخرى عن الشيخ الطاهر باكير وزير المعارف آنذاك، ويقول إن الشيخ الطاهر باكير الرجل الأرستقراطي ابن المدينة مل حياة البيضاء، وكان ينتقد انتقال الحكومة إليها بشدة، وقال إنه سيشرح للملك في أول اجتماع له معه الظروف الصعبة التي يعيشها الوزراء والموظفون في مدينة البيضاء ويطلب منه نقل الحكومة من البيضاء إلى طرابلس العاصمة. وعندما اجتمع الملك بالوزراء بعد ذلك بدأ الشيخ الطاهر باكير الكلام قائلا: "البيضاء يا مولاي.."، وقبل ان يستمر في الكلام قاطعه الملك بشدة ناهرًا: "مالها البيضاء؟" فعرف الشيخ باكير أنه يخوض مياهًا عميقة فأكمل قوله البيضاء: "يا مولاي مدينة عظيمة هواؤها عليل وموقعها في الجبال جميل، خضراء تسر الناظرين، وجوها صحي والوزراء والموظفون فيها سعداء، وشكرًا لمولاي على اختياره لها مقرًا للحكومة". وعندما خرج الوزراء من اجتماع الملك سألوا الشيخ الطاهر باكير عن سبب تحوله من الشكوى إلى الإشادة بالبيضاء في حضرة الملك فقال: "أردت أن أشكو من الحياة في مدينة البيضاء ولكن لساني نطق بما يريده مولاي الملك!"
وفي سنة 1966م رجع أخي علي من سفارة ليبيا في روما إلى وزارة الخارجية التي كان مقرها البيضاء في تلك الفترة وأقام معي في بيتي، وكان بيتي مجاورًا لبيت الشيخ سالم لطفي القاضي وزير المالية. وكان الوزراء والموظفون عزّابًا وعائلاتهم في طرابلس وبنغازي ويقضون سهرات الليل مع بعضهم البعض يلعبون لعبة الورق ويطبخ سائقوا سياراتهم لهم طعامهم. وكان بيت الشيخ سالم لطفي القاضي قبلة كثير من الوزراء وكبار الموظفين، فقد عرف بكرمه، وكان بابه مفتوحًا للجميع. وكنت أنا وأخي علي نذهب بدورنا لقضاء السهرة معه تحت إصراره وكان يلعب الورق مع بعض ضيوفه.
منظر من البيضاء
وأذكر مرة كان الشيخ سالم القاضي منسجمًا في لعبة الورق فسأله أخي علي قائلًا: "أنتم الوزراء تقابلون الملك فلماذا لا تطلعوه وتقولون له الحقيقة وإننا نعيش في البيضاء حياة مهينة كالسجناء وكأننا في ثكنات من غير عائلات بعيدًا عن أهلنا وأصدقائنا". وكرر هذا السؤال عدة مرات، فما كان من الشيخ سالم القاضي إلا أن قال له بعنف: "توا نقولوله يا سيد علي!" (سوف نقول له يا سيد علي) تهكمًا بمعنى من يجرؤ أن يقول للملك إن البيضاء غير لائقة كعاصمة، واستمر الشيخ سالم في لعبة الورق (لاص اسكمبيل).
وبعد أيام أقيم احتفال واستعراض عسكري في مدينة البيضاء بمناسبة عيد 9 أغسطس وكان الشيخ سالم القاضي رئيسًا للوزراء بالوكالة نظرًا لتغيب السيد حسين مازق رئيس الوزراء الأصيل في إجازة في إيطاليا. وكان أخي علي السني مديرًا لإدارة المراسم بوزارة الخارجية وكان يستقبل السفراء المدعويين الذين جاءوا من طرابلس وبنغازي، وكبار المسئولين أثناء وصولهم للاحتفال. وكان مكان الاحتفال رغم الاستعدادات غير لائق، فالغبار والتراب الأحمر من الطرقات غير المعبدة التي رشت بالمياه حولته إلى بقعة من الوحل تغوص فيها سيارات المدعوين وسيارات الجيش والشرطة، كما أن عمليات البناء التي كانت تجري في كل مكان حولت المكان إلى ركام من الأحجار والرمال تعبث فيها الرياح وتملأ الجو غبارًا. وعندما وصل موكب الشيخ سالم القاضي رئيس الوزراء بالوكالة إلى مكان الاحتفال استقبله الأخ علي طبعًا وهو يحاول تجنب الوحل وسط الغبار الذي يعكر الجو ويملأ المكان، وما أن رآه الشيخ سالم لطفي القاضي فى هذه الحالة المزرية حتى انفجر ضاحكًا وقال له بصوت جهوري مسموع للحاضرين:" توا نقولوله يا سيد علي!" وهو نفس الجواب الذي قاله للأخ علي في بيته كما تقدم ذكره. وقد تساءل بعض الحاضرين عن معنى ( توا نقولوله) ولكن اللبيب منهم قد فهم بالإشارة. وإذا كان رئيس الوزراء التي توفرت له كل الخدمات والإمكانيات يقول هذا وينكت ويشكو من البيضاء علنًا فما بالك بالموظف العادي!
التعليقات (0)