بقفزة هائلة في الهواء..ودون التحسب على ما يبدو لعمق الهوة"السبق" التي دفع إليها منظومة التهاتر الإعلامي العربي.. وبتجاوز يحمل الكثير الكثير من الاختراق غير المسبوق لكل الخطوط الملونة..نقل السيد محمد علي إبراهيم..رئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية الخلاف المتفاقم بين حكومتي مصر وقطر من عالم النوايا المكبوتة التي تتأرجح على جانبي حزام العلاقة المصيرية المقدسة التي تربط أعضاء نادي الحكام العرب إلى أكثر المناطق حرمةً وحساسية لمنطقة ما تحت ذلك الحزام..
ففي تطور لافت..حولت صحيفة الجمهورية الرسمية المصرية, مدافع هجومها المستمر على الدوحة إلى المساس بشخص الشيخ حمد أمير الدولة القطرية وأسرته من خلال استهداف السيدة حرمه بافتتاحية غير مألوفة استهلت بالقول:
"إن دولة قطر تلخصت في امرأة وقناة فضائية!.. قطر باختصار شديد هي الشيخة موزة زوجة أمير قطر الشيخ حمد بن خليفة.. والقناة الفضائية هي "الجزيرة".. بدون الشيخة موزة ناصر المسند و"الجزيرة" سيخفت صوت قطر ووجودها وتأثيرها الإعلامي والسياسي"..
وهذا يؤشر بوضوح إلى مدى الضيق والتبرم الذي يشعر به الإعلام الرسمي المصري تجاه قناة الجزيرة.. المنظومة الإعلامية المثيرة للجدل التي تديرها الشيخة موزة حرم سمو الأمير والذي وصفتها الصحيفة-أي المنظومة- بأنه إعلام بـ "عين واحدة" .. يري عيوب الآخرين ويجسدها ويضخمها ويعجز عن رؤية عيوبه وثقوبه التي تملأ الجزيرة الصغيرة...
وأضاف السيد رئيس التحرير بعض ما لا يقال بين الدول العربية التي تحتفظ بشكل ما من أشكال التمثيل الدبلوماسي: "إن قطر "مشيخة" وليست دولة بالمعني المعروف.. أفاء الله عليهم من فضله الكثير.. ولكنهم لم يستغلوا ثرواتهم في بناء دولة مؤسسات.. وتفرغوا لعقد اجتماعات قمة ورعاية مناضلين ونصابين أمثال سعد الدين إبراهيم".
وقال السيد إبراهيم: "الشيخة موزة المسند وهبت نفسها وأموالها لقضية نشر الديمقراطية في الدول النامية وترسيخ مبادئ حرية الصحافة والإعلام في المناطق التي تراها موزة-بدون ألقاب- بحاجة لتطوير، وتتصرف وكأنها دولة عظمي ترعي الإصلاح السياسي وحرية الرأي في العالم كله".
ويستمر السيد الصحفي الكبير بمقاله الذي يعتبر نموذجا للمعالجات والتحليلات التي لا تستند إلى إستراتيجيات أو تقاليد راسخة، وإنما هي انعكاسات وردود أفعال مبالغ بها متأثرة بمعطيات آنية، لا تمتلك صفة الاستمرارية والديمومة والثبات..بل عرضة للتجاذبات السياسية المتفاعلة والمتغيرة..
فيقول" لا تستطيع جريدة في قطر أن تهاجم فساد وزراء أو شيوخ في العائلة المالكة.. لا يتجرأ أحد علي نشر صور زيارات المسئولين الإسرائيليين إلى الدوحة، ولا يتجاسر أي رئيس تحرير على نشر صور القاذفات الأمريكية وهي تقلع وتهبط في القواعد العسكرية الأمريكية في العيديد أو السيلية أو أم صلال.. "
وكعادة الكتاب العرب المتمتعين برضا الله والحاكم ,لم يفت الأستاذ إبراهيم أن يضمن مقاله بعض التحديات المحببة للمسؤول الأعلى ومغلظاً لحكام قطر القول:
"أتحداكم أن تذكروا عدد السجناء السياسيين في بلدكم.. أتحداكم أن تنشروا قتلى حوادث المرور الذين يسقطون أمام سيارات مسرعة لكبار الشخصيات..
أتحداكم أن تتحدثوا عن ثروة الأمير أو عما يخسره رئيس الوزراء القطري في سهرات القمار في لندن وسويسرا..
أتحداكم أن تكتبوا عن صراع الزوجات علي ترتيب أولادهن لخلافة الأمير.. أو الاعتداء علي أراضي المواطنين لبناء فيلات وقصور.. أو علي قصص المطربة الشهيرة مع أحد كبار القوم وإصراره علي إجهاضها خوفا.. أو.. أو.."
وهنا يستطيع المراقب بسهولة تلمس المأزق الذي يعانيه الإعلام الرسمي العربي عموماً ومن ضمنه الإعلام المصري من خلال عدم استيعاب منطق تعدد قنوات التلقي المعلوماتي والإخباري للمواطن وفقدان الأحادية والحصرية التي كان يتمتع بها هذا الإعلام كمصدر أساسي ووحيد للمعلومات..وفشله التاريخي في ظل وجود فضائيات وإنترنت ومدونات، الكل يعبر فيها دون رقيب.
أو كما أوجز وأصاب الهدف الأستاذ د.شريف درويش مؤكدا فشل الإعلام الرسمي في تحقيق هدفه لأنه ما زال يتعامل: "بمقتضيات عصر محطة (صوت العرب) الإذاعية؛ حيث كان يتم حشد الجماهير خلف رؤية واحدة يتم تمريرها من خلالها".
وغالباً ما تكون هذه الرؤية متبنية و محملة بتطرف بوجهات النظر الرسمية، بل إنها قد تسرف بالاعتماد الذيلي لهذه السياسة من خلال الامتناع عن تحديد موقف معين من الأحداث انتظارا للموقف الرسمي للدولة ..ومتجاهلة التزاحم والتنافس والتدافع بالمناكب في وسائل الاتصال الشعبية والتي يمكن أن يعتمد عليها المتلقي..وفقدان مصطلح الشأن الإعلامي الداخلي مع التمدد الهائل في وسائل الإعلام الفضائي ..
أن الإعلام الرسمي العربي لم يستوعب لحد الآن ملامح القرية الكونية التي وضع لها حجر الأساس في منتصف ليلة السابع عشر من كانون الثاني -يناير من العام 1991م مع التغطية الحية التاريخية غير المسبوقة من قبل محطة الـ C.N.N الإخبارية الأمريكية لأحداث قصف طائرات التحالف الغربي للعاصمة العراقية بغداد حيث ارتبطت عيون أكثر من خمسمائة مليون إنسان بالشاشة وعلى امتداد ما يزيد عن المائة دولة في قارات العالم اجمعها ...وما زالت ذكريات أحداث الحادي عشر من سبتمبر 2001م طرية في الذاكرة حيث فغر العالم فاه وهو يتابع صور الدمار التي وصلتنا قبل وصول سيارات الإطفاء ورجال الإنقاذ إليها..
وقناة الجزيرة رغم التسييس العالي الذي يؤطر توجهاتها الإعلامية وسقف المصداقية المنخفض الذي يواكب بعض تغطياتها الإعلامية وخصوصاً من خلال مقاربتها المفتقرة للحيادية للملف العراقي.. لا يمكن بأي حال من الأحوال إنكار انتصارها الإستراتيجي في معركة كسب اهتمام المتابعين العرب والأجانب وتبوأها صدارة المصادر الخبرية لدى المواطن العربي العادي ..ذلك المواطن الذي فقد الثقة تماماً بوسائل الإعلام الرسمية المكرسة لتطويع المادة الإعلامية لما يؤدي إلى ترسيخ الصورة النمطية الملمعة والمفخمة للحاكم ومن يرضى عنه.. أو كما يقول د.محمود خليل: "هذا ليس إعلاما، لكنه محاولة بائسة للضحك على العقول".
وكان من الممكن تفهم هجوم الصحيفة المصرية على قطر لو لم يتخذ شكل الدعوة إلى التواطؤ في تغييب الحقائق عن المتلقي العربي ..من خلال عرض التعاون على إبقاء الطابق مستوراً من خلال التلميح الأقرب إلى التصريح الذي اختتم به المقال:
"الشأن الداخلي القطري لايهمنا لأنه يهم القطريين فقط.. واتمني أن يكون الشأن الداخلي لبقية الدول محترما عند القطريين مثلما نحترم خصوصياتهم ولا ننشر أسرارهم وما أكثرها..".
ويبقى السؤال المطروح والذي ينتظر الإجابة الآن..هل قام السيد محمد علي إبراهيم..رئيس تحرير جريدة الجمهورية المصرية بتلك القفزة لوحده..أم بتوجيه من مراكز القرار الإعلامي الرسمي المصري.. وهل هناك من سيتلقفها من الجانب الآخر..لتفتح الباب على مصراعيه لنمط جديد من التراشق الإعلامي العربي الذي يمس مناطق محرمة في الجسد الرسمي العربي..أم أن المسألة لا تتعدى حركة تملق روتينية غير موفقة لمشاعر القيادة السياسية.. ولكن بصوت زاعق عالي النبرة أكثر مما يتوجب في هكذا مقام..
التعليقات (0)