مواضيع اليوم

مقهى حميد عمارة !

فيصل عبدالحسن

2009-09-18 09:49:57

0

مقهى حميد عمارة !

 

عن كتابات -

بقلم : حسين عبد الزهرة مجيد

 

نشأت الويمبي وسط صحراء الملح والنار. لا نعرف من بناها. تنظر بعيداً فلا تر غير السراب, وزجاج القناني, ترِكة الجيش البريطاني, تلمع وتبرق في النهار الأشيب. لا شيء غير الملح, وخط أفعواني أسود لا ينتهي, هو طريق الجيش في الحرب الأولى, حتى الشعيبة. أفاعٍ وعقارب سود. أحيطت المدينة بمربع مائي, يعلو ويجزر كل يوم. أخرجنا الملح من البيوت, وزرعناها بسيد الشجر, البرحي, فزارتنا العصافير. سرنا إلى مدرسة الصرائف لنسمع فيها أول نعي للسياب, وتصورناه جميلاً مثل الرصافي. ظهر جيرانٌ لنا على السطوح, نتسلل في حرّ الظهيرة, ونعطيهن أشياءَ بيض رسمناها بعناية. نارٌ, لا نريد لها الانطفاء!

 

على طرف المدينة الشمالي, نشأت من البردي مقهى حميد عمارة, كرويتات عارية, وصورتان, الأولى للسيد الحكيم, والثانية ربما لعليّ, يشير بسبابته إلى مكان مجهول, أو إنه كان يتوعد.

 

هنا, وفي ذلك البيت, سكن السياب فترة, وكان يضع الموت في حضنه لعبة. ومن هنا سار عبد الوهاب شمالاً حتى وصل إلى القيادة القومية في دمشق. ومن هنا تغنى عبد الرزاق أحمد وأخوته, بالكرة سنين. كواه الباب المقابل, لعله يفتحُ عنها, وأحرقت صدره سجائر غازي. هنا جلس عباس أياماً ينظّمُ الفتية في طريق الكفاح المسلح, قبل زمنٍ من عزيز الحاج. وهنا بدأ سيد طاهر الكلام عن حزب اسمه الدعوة, قبل أن يمشي جنوباً إلى الكويت .غاب , وعاد ليحمل معه من جديد أخاه الأصغر, أحمد مطر. ومن هنا بدأ محسن عمارة الرسم بالمربعات قبل أن يفرّ إلى أكاديمية الفنون الجميلة في ميلانو, بلا عودة.

 

هنا ظهر الرعيل الأول من طلبة جامعة بغداد. سار محسن إلى بغداد, باب المعظم, كلية الهندسة, وما لبث سيد عبد الأمير أن لحق به. ثم جاء الأطباء, والحقوقيون, والاقتصاديون, والعلماء, وصرنا نكتب لهم الرسائل.

 

كانوا يغدون, ويروحون

 

ذات مساء رأيت أحدهم يلعب الطاولي وفي حضنه كتاب على غلافه صورة جميلة لرجل يدخن, وجهه محفور كالأرض البور, أو كالكيكة التي تركت أياماً في المطر والشمس, وقبل أن أمد يدي إليه, ردها بلطف, وعاد إلى رمي الزهر : د. ه. أودن! بعد سنين, حينما امتدت يدي المرتجفة إلى ورقة الامتحان في كلية ألفستون, وقرأت أسئلة أودن, تذكرتُ الصورة, ورقّت العيون.

 

هنا رأينا الأبيض والأسود من "شباب امرأة". ومن هنا أيضاً كان جمال حسين عليّ يتسلل على قدميه الصغيرتين, ليعود بعد ساعة بمجلة الأقلام . لم نشأ أن نكسر فرحته ونطلبها منه. وهنا كان يأتي فيصل عبد الحسن بالزي الموحّد, يحمل مسطرة التيسكوير, ويدخل وارد بدر السالم محدودبا, يكلم نفسه. هنا دخلت علينا "قصائد عارية" بغلاف جواد سليم, ورأينا "الوجودية مذهب إنساني". هنا قرأنا "عيون إلزا"؛ "تموز في المدينة"؛ "مخلوقات فاضل العزاوي الجميلة"؛ "ضرورة الفن"؛"المثل العليا في الإسلام وليس في مؤتمر بحمدون". ارتجل الأولاد "الذي يأتي ولا يأتي" عن بيكيت والبياتي , واجتمع ناظم حكمت بلوركا. هنا كان فوزي السعد يحمل كل مساءٍ كتابين صغيرين بحجم الكف, كتاباً عن رامبو, وآخر عن الشاعر الرجيم. من هنا سمعنا أول مرة بالأرض الخراب, ومنهم من قال, بل هي الأرض اليباب. ومن هنا بدأت حروف قصيدة النثر

 

الخراف تسعى, ملفوفةٌ أقدامُها بقطع الحرير الصخري!

 

هنا دخل علينا محمود يمسك بيد الرفيق سميح, وفي اليد الأخرى "عاشق من فلسطين". هنا ضحكنا على بيان الاستقالة, وصححنا الطريق لياسر عرفات! تنبأنا لجيوشنا, ولعبد الرزاق الصافي بالفشل. كنا ننظر من مقهى حميد عمارة, فنرى نيرودا منزوياً, يكلم نفسه.

 

ذات يوم سأل حميد الجالسين من الطلبة, هل سمعتم بقصة الرجل الذي مات ابنه, ولم يجد من يواسيه غير الحصان, فبكى على رأسه ...!

 

الله, حميد! من أين لك هذا؟

 

من السجن. قرءوها لنا في السجن. كتبها أمريكي, نسيته!

شيكوف, أنطون!

 

هذا هو!

 

ومرةً أسرّ لهم شيئاً, فكتبوا له ورقةً, حتى إذا رآها, يعطيها لها باليد. لكن الرجل تسمر, ولم ينطق بشيء. عاد ليقول, أنا, وهذا ذراعي الذي كويته بعد آخر سجارة, وهذا كتفي, ما زال يخفي رصاصات حرب الأخوة في الشمال ... آخر الزمن. لا بارك اليوم الذي يعشق به حميد!

 

نزل ضابط من الواز يسأل عن الملازم البحري دريد. نظر حميد بريبة وقال, لو قلبت قبور الأموات على الأحياء, ما وجدت هذا الاسم. لدينا كل العبيد, من عبد الله إلى عبد الكاظم! وتشاجر جاسم ستيف, فتحطم الراديو الترانسستور في يده. التقط حميد برغياً من الأرض. خذ, نسيت المذيع!

 

ومرةً جاء جبير الوصخ من الأمن (اسمه, لا نعرف غيره), فلما انصرف سألوه, خير أبا حميد! قال, لو كانت عندي ساعة يد أضعها على أسته, لدارت عقاربها عكس الاتجاه, وفلتت! لكن حميداً ضاع أشباهه اليوم.

 

ماذا لو عادوا اليوم؟ لكنها هرمت, ودب السوس في كنباتها, فانقرضت, وهم ما زالوا

 

"يتفتحون, ويزهرون, ويثمرون

وبسحرهم قهروا التعاسة

واصلوا الإبداعَ

في صحراءِ وحدتهم,

وكانوا/ ما يكونْ.

تركوا على أسوارِ هذا الكونِ

بعضَ رموزِهم,

وهمُ إلى أرض الكواكبِ يرحلون"

 

قالوا له, وكان يجمع ما تبقى من سقط المتاع , حميد, نسيت الصورة على الحائط ! قال, دعوها, فهي تخبركم, وترشدكم إلى مكانٍ آخر بعد أيام!

 

بعد أيامٍ قامت القيامة, ها هنا المحمرة!

 

Husseinmajeed82@yahoo.ie

 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !