مواضيع اليوم

مقهى الفيشاوي

محمد أنقار

2012-11-01 21:55:01

0

مقهى الفيشاوي
محمد أنَـقَّـار
 

جلس المغني الجوال في عمق المقهى المفتوح حتى يتسنى للجميع مشاهدته. ومن أجل أن يشد إليه الأنظار والآذان أخذ في البداية يسوّي العود بنقرات مرتجلة، تائهة. ثم ألصق بحنان كبير خده بالآلة المنتفخة كأنه يستجديها ألا تخذله في ما هو مقبل عليه. ثم راح ينشد:
يا مْسافِر وحْدَك وُفايِتْـني لِيهْ تِبْعدْ عَنّي وتِشْغِلْـني..
كنت أجلس بعيداً عن المغني الأنيق ذي الشارب الدقيق. وحينما تاه بين سراديب أغنية عبد الوهاب ونقرات الآلة أغمضتُ عيني وسافرت معه..

فتحت عيني فإذا بي في موضع مغلق غريب. كان جليسي قريباً مني فبادرته بالسؤال:
- أين أنا؟..
ابتسم صاحب الطاقية الرمادية والجلباب المفتوح عند الصدر:
- في الفيشاوي.. في مقهى الفيشاوي وسط القاهرة. لكن من تكون؟ وما الذي رمى بك إلى هنا؟
- دعني أوَّلاً أسترد وعيي..
وانصرف عني الرجل الممتلئ الوجه، من دون أن تفارقه الابتسامة الهادئة. قلت:
- جئت من المغرب ناوياً متابعة الدراسة في المشرق.
- خطوة عزيزة.
ثم أردف:
- تبدو متعباً أكثر من اللازم. أجئتَ ماشياً؟
أجبت بصوت متهدج:
- تلك هي المشكلة. الخوف من الطائرة اضطرني إلى ركوب الحافلات، والقطارات، وحتى البغال والحمير..
وتفرس ملياً في ذقني غير الحليق وملابسي البالية:
- الظاهر أيضاً أنك جائع.
وأجبته بعيني شبه الباكيتين، من دون كلمات، فصاح طالباً إلى النادل طعاماً وشاياً.
وجالتْ نظراتي المتعبة في المقهى الفسيح؛ بين الكنبات، والكراسي، والشيشات، والصور، والرواد القِلة. ثم التقت عيني عينَ الرجل المسترخي:
- أعرف أن نجيب محفوظ لم يعد يجلس هنا..
وبمجرد ما أن سمع الاسم حتى غُص حلقه بالدخان القوي الذي استنشقه من النارجيلة. تنحنح وسعل ثم قال:
- فعلاً، انقطعَ عن الجلوس، لكن رائحته لا تزال تعبق في فضاء المقهى.
وصمتَ برهة ثم رفع أنفه إلى الهواء:
- كأوَلا تشمُّ شيئاً؟..
ومن أجل الإجابة الصادقة استرخيت بدوري، وفتحت منخريّ على سعتهما، كأني واحد من رواد استحضار الأرواح. قلت معترفاً:
- ثمة روائح مفعمة بفكر متحرر.. كما لو أن الأمر يتعلق بغادة تعرف كيف تَـفْتِـنُ من غير أن تؤذي..
وانتشى بجوابي وضحك، ثم أمر النادل بالتعجيل فكان له ما أراد.
والتهمت طبق الزيتون والجبن والرغيف، وشربت شاياً فأحسست بانتعاش كثيف. سألت الرجل:
- كيف حال المحروسة؟
وانقض وجهه كما الحكيم المقبل على البوح:
- هي أرياح شتى تهب في وقت واحد، والتِّرمُومتر يوجد في ساحة التحرير...
- هذا كلام ألغاز.
- لكل مقام مقال. عندما تكون في مجلس انطماس كمجلسنا لن تجود عليك القريحة إلا بكلام منسطل. وعندما تكون في خلوةِ شهوةٍ لن ينطق فمك الكريم إلا بالكلام الحريري. أما في موقف الرعب فلن تستطيع الكلام أصلاً، حيث ينوب عن الكلمات اصطكاك الأسنان..
- ومع ذلك لا أكاد أفهم. لكني لا أنسى أننا في عصر الديموقراطيات..
- وأنتم أي ريح تهب عليكم هناك؟..
صمتُّ برهة ثم قلت:
- ثمة نوع من الرياح نسميه في الشمال بالشرقي، وفي الجنوب نسميه الشركي. تارة تكون حارة وجافة وتارة تأتي محملة بالرطوبة. وسواهما هناك الغربي؛ وهي ريح رخاء شبيهة بالصبا التي قرأنا عنها في الشعر الجاهلي.
- هذا حديث في علم الأنواء ليس من الواقعية في شيء..
- أنت القائل لكل مقام مقال.
وتأمل الرجل ذو الصدر المشعر كلماتي، ثم تفتق تأمله عن فكرة طريفة:
- ما دامت الرياح تهبّ علينا جميعاً من كل جانب لماذا لا نستغل وجودنا في الفيشاوي المفعمة بروائح العم نجيب لعلها تسعفنا على تهدئتها؟.
- كيف؟
ـــ تعودتُ في لحظات الانطماس القيام بمثل هذه التجربة. عندما أكون وحيداً وقد أُقفلتْ في وجهي كل الأبواب والنوافذ أختلي في هذا الركن من المقهى. أطلب النارجيلة، ثم أستنشق وأنفث منها أنفاساً متتالية إلى أن يتكاثف الدخان حولي، وتلمع العين. حينذاك أفكر بتركيز في نجيب محفوظ فتحضر صورته وهو يقهقه. تماماً مثلما يفعل هواة تحضير الأرواح. واليوم أظن أن صورته ستحضر واضحة ما دامت تطلبه في وقت واحد رياح المشرق والمغرب.
وكذلك كان؛ فقد طلب لي الرجل نارجيلة ورحنا ندخن بتتالٍ واهتمام. وفي اللحظة الحاسمة صاح:
- الآن!..
وركزّ كل منا عينه الحمراء في عين الآخر، ثم أردف في دهشة:
- ها هو قد حضر. أتسمع قهقهته؟
- أسمعها..
- إذن كلّمه أنت باعتبارك ضيفاً:
ودخلتُ معمعة الصمت الرهيب حتى تراءت أمام ناظري صورة نجيب. ثم نطقتُ عندما سمعت قهقهته الشهيرة تقترب:
- العم نجيب. أعرف أنك تكره المقدمات، لذا أسألك مباشرة عمّ يحدث بيننا؟.
وصمت هنيهة ثم قال ساخراً:
- دعني أولاً آخذ نفساً من الشيشة حتى ينشرح المزاج، ثم بعد ذلك أجيب.
وترددت ضحكته مجلجلة بين الكنبات. ثم شرب نفساً قوياً من نارجيلتي. وانتظرتُ الجواب، لكنه لم يتكلم. وبادرت:
- ما الذي أسكتك يا عمي؟.
- ما دمتم جميعاً في الهوى سواء أريد أن أذوق حتى من نارجيلة الأُسْطى الذي يجلس إلى جانبك. سأجيبكما معاً ربحاً للوقت الضائع.
وأخبرت صاحبي بما قاله نجيب فمد عن طيب خاطر فم نارجيلته في الهواء كأن يداً خفية ستمسك بها. قلت:
- ها نحن قد لبينا طلبك؛ فماذا أنت قائل؟
لكنه لم يجب فطال صمته مرة أخرى. وتمكن منا التطلع إلى سماع رأيه إلى درجة القلق. واضطررت إلى تذكيره من جديد:
- نحن في الانتظار، يا عم نجيب..
آنذاك رأيته ينقل بصره بيني وبين صاحبي. وأخيراً تكلّم:
- أخاف أن أفتي بما لا أعرفه.
- كل من هبّ ودبَّ أصبح اليوم قادراً على الإفتاء.. في الدين.. والسياسة.. والعلم..
- وحتى في كرة القدم.
وقهقه عالياً من جديد ثم عاد إلى صمته. لكنه لم يسكت طويلاً هذه المرّة:
- ذات يوم صاح أحدهم في أذني الثقيلة وسأل:
- كيف يمكن يا أستاذ نجيب أن نحلّ المشاكل المعقدة التي يتخبط فيها العالم؟.
صمتُّ قليلاً ثم أجبته:
- لو كنت أعرف لقلت لك.
وقهقه صاحب ثرثرة فوق النيل إلى درجة أن النادل ورواد المقهى التفتوا إلى ناحيتنا.
وأخبرت صاحبي بالجواب المتملص فقهقه هو الآخر ثم قال:
- هل هناك جواب أكثر إقناعاً مما سمعتَ؟. سمّـِه بلاغة المسطولين، وأضفه هو الآخر إلى كلام المقامات الذي نخوض فيه.
وقهقهنا معاً قهقهة منطمسين جمعهما الهمّ، لكنهما اهتديا خلاله إلى حلول مفعمة بالإبهام والدخان. والتفتَ إليّ صاحبي بوجه صارم:
- أتمنى ألا تنسيك النارجيلةُ طلبَ العلم.
- وأنت هل أنستك؟..
ونفخ في وجهي سحابة من الدخان أعمت عيني، فبدت لي ملامحه كما لو كان فتوة. قال جازماً:
لا. لكني أطلب هذه الأيام فسحة من الراحة الطويلة لعلني أسترده..
ومرة أخرى لم أفهم.

وانتبهت فإذا بالمغني يمد نحوي طبقاً مهزوماً من الألومنيوم المدبوغ من فرط الاستعمال. وضعتُ فيه درهماً فلم يرن، ثم راح يدور على بقية الجالسين.
وأدركت أني في تطوان، في مقهى المنـزه المفتوح..




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !