مَرّتْ عِدَة أعوام منذ أنْ قررت، أو قـُرّر لي، التنقب، والتحرك كشبح أسود يخيف الأطفالَ ولا تظهر مني غير عينين مُكحَلتين تدوران في محجريهما.
الإنسان من صلصال، والجان من نار، والرجل المسلم من شهوة جنسية إذا رأى وجه امرأة ولو كانت ابنة عمه أو زوجة ابنه أو جارته أو زميلته في العمل تتدفق الدماءُ في كل شرايينه، فينتصب موضعُ العفة منه ولو كان يصلي ويصوم ويعتكف ولا ينتهي من ختم القرآن الكريم حتى يبدأ فاتحته من جديد!
هكذا علـّمني فقهاءُ عصري، وحشروا كل مصطلحات العفة والحشمة والوقار في لغة لا تـُبقي ولا تذر، لوّاحة للبشر، فهي جريمة مُكتملة الأركان، وما أسهل أن تستعين بكتب عليها غبرة، وبرجال بيننا وبينهم مئات الأعوام.
صباح أمس توقفتُ ملياً أمام المرآة فلم أشاهد نفسي، فأنا كائن نصفه موت، وموءودة لا تجرؤ أن تسأل نفسها بأي ذنب قُتلت، وأنا عار على الرجل رغم أن أنثى أنجبته، وأنثى أرضعته، وأنثى خلـّدت اسمه في رجال من صلبه، فأنا أمه وأخته وزوجته وابنته ثم يكذب مفتريا على نبي الإسلام، صلوات الله وسلامه عليه، فيدّعي أنه قال بأن أكثر أهل النار من النساء!
خلقني ربي لأتعرف على البشر، وجمع معجزته الكبرى في وجهي فوضع فيه مشاعري، وأنفاً أتنفس منه، وفماً يبتسم، وشفتين مع لسان يصنعون لغة التواصل، وبـَشرة تحّمَرّ خجلا، وتصفـَرّ مرضا، وتسّوَدّ حزنا، وتزرقّ تعباً، وتنضح صحة أو تذبل سقماً.
كل معجزات العلي القدير تحتاج إلى شرح الهدف منها ليتدبر أولو الألباب، فالنجوم مُسَخـّرات، والشمس تجري لمستقر لها، والقمر قدره منازل، والجبال أوتادٌ، والبحر نأكل منه لحماً طرياً، إلا الوجه فهو أم المعجزات، ومن تخفيه ليست فقط كمن تحَرّم ما أحل الله، ولكن كمن ترفض التوجيه الالهي بأن العزيز الوهاب خلقنا شعوبا وقبائل لنتعارف.
دخلت في خيمتي المتحركة وأنا أشعر بدونية لا مثيل لها، فالرجل المسلم لا يهينني فقط، لكنه يهين نفسه، ويُظهر ضعفه، ويحتقر شهوته التي تحركه فلا ينتبه لحديث امرأة أو تعبيرات وجهها الذي يفيض غضبا، أو محبة، أو طيبة، أو احتقاراً، أو بغضاً، أو مسكنة، أو إمتناناً، أو شكراً، أو ورعاً، أو رفضا، أو قبولا، أو تأكيدً لمنطق، أو إضعافا لجدال، أو شهادة أمام سلطة قضائية أو تبرئة أمام سلطة أمنية أو ...
لسان حال المسلم الأحمق يقول لي: اصنعي ما شاء لك ضميرك، ولكن بعيدا عني، فهو حارس الفضيلة ظاهرياً، اما الخفاء فأمره لي.
هذا الأحمق يمنحني كل الفرص غير المتاحة للسافرات، فأنا أستطيع أن أفعل كل الموبقات، وأمارس الرذيلة، والخيانة الزوجية، ويدخل شاب إلى مخدعي أمام ذكور عائلتي، ولا يستطيع أي منهم أن يتحقق من شخصيته فالصوت عورة.
وأنا أستطيع أن أتخفى من رجال الأمن، وأمنع معرفة بصمتي بقفاز سميك، رغم أن الله تعالى عندما قال في سورة القيامة ( وسوينا بنانه) كان يوجه، سبحانه، بتوأمة الوجه والأنامل ليتعرف الإنسان على أخيه الإنسان.
خرجت في الصباح وقد أوحي لي نقابي أن كل الذين مررت عليهم ذئاب شرسة، تنتظر رؤية وجهي فتبدأ فكرة اغتصابي ولو كنت محاطة بآلاف مؤلفة من البشر، وحتى الذين أعرفهم، وأعمل معهم، ويجلسون على مقاعد الدراسة بالقرب مني، وأستاذي الأكاديمي الذي يُعلمني، والرجل المسن الذي يقارب عمره عمر جدي وهو جالس أمام دكانه لا يتحرك إلا متكئاً على عصاه، كلهم يحرك روموت كونترول وجهي الشهوة في أجسادهم، فيتصارعون عمن يبدأ بالقفز فوقي، واغتصابي قبل الآخرين.
توقفت قليلا، وتأملت المشهد من جديد، وزاد احتقاري لنفسي، وتضاعفت كراهيتي للذين قتلوني دون نزع الروح مني، وأوهموني أن رب العرش العظيم سيكون في استقبالي يوم الحشر ليسألني عن زنا الوجه، وعن كل الرجال الذين شاهدوني سافرة، أضحك، وأبكي، وأغضب، وأصيح، وأناقش، وابتسم، وأمكر، وأتفاعل مع كل ما يمر بي من حوادث.
قابلت صديقة لي كانت بصحبة سبع فتيات منقبات فلم أعرفها في باديء الأمر، فكلهن متشابهات في اللون، متشحات بنفس السواد كأنهن على موعد مع جنازة أو في الطريق للقاء ملك الموت، أو في نزهة بين المقابر يلقين التحية على الثعبان الأقرع.
وقفنا نتحدث قليلا، ومرت بجوارنا سيدة تجر عربة يجلس داخلها طفل صغير، فنظر إلينا وعلامات الرعب ترتسم على وجهه البريء وكأنه يشاهد فيلما مخيفاً تتراقص فيه الأشباح السوداء قبل أن تفترس ضحيتها.
اشتقت كثيرا إلى أشعة شمس تتسلل إلى وجهي فتدفئه، ثم تحيل لونه إلى إحمرار صحي تبتهج به ابتسامتي، وتستريح نفسي، وتنفتح مسامات كانت عصية ومغلقة بسبب قطعة القماش السوداء الكثيفة.
الرجل الذكر الذي اخترع فكرة ربط العفة بتغطية الوجه سادي بكل المقاييس، فهو لم يخفيني فقط، لكنه اختار اللون الأسود الذي يمتص أشعة الشمس فيجعل حبات العرق تختلط مع خيوط القماش اللزجة لتنطلق رائحة كريهة على جانبي الأنف فتكاد تعمى منها العينان!
المصيبة أن المدافعين عن نقابي يقطعون كل يقين بشك يضحك منه أكثر الأطفال سذاجة، وأكثرهم بارعون في الشتائم، ويملكون إكليشيات يتناقلونها بينهم ويحسبونها نتاج العقل، وصلب الإيمان، وعصارة تجارب العلماء، فإذا هي تهافت التهافت، وإعوجاج جمجمة حشتها كتبٌ صفراء انقطعت عن العصرعصراً، وابتعدت عن زمننا زمناً!
كم أنا مشتاقة لأن أكون النصف الآخر السوي للرجل، فإذا به يراني الضلع الأعوج حاملة خطاياه، ومحرضته على أكل التفاحة، فعثر على الحل النهائي .. أن أقبع في الدار لا أغادره إلا إلى القبر أو بيت الزوجية الذي قد يتحول إلى قبر آخر إن كان حظي في الزواج تعيساً!
مساء أول أمس اتصلت بي ابنة عمتي المقيمة في مدينة تولوز الفرنسية، وكانت تبكي بحُرقة لأن القانون الفرنسي الجديد سيجعل وجهها مكشوفا أمام رجال ليسوا محارمها، فطلبتُ منها أن تغادر فرنسا العلمانية وتعود إلى بلدها.
لكنها قالت بأنها لا تستطيع أن تترك الامتيازات التي تتمتع بها، فهناك حرية، وقدر كبير من المعيشة الكريمة، واحترام لآدمية الإنسان، وقوانين تتعامل مع الجميع على قدم المساواة، ورجل شرطة يوقفني بلطف شديد ليسألني بأدب جَمّ عن هويتي، وحقوق لي في التعليم والصحة والكتاب والمعاش عندما يأتي أوانه.
سألتها إن كان الرجل الفرنسي يبحث في وجوه كل النساء، في الشارع، وفي المترو، وفي المظاهرات، وفي المحلات، عمن يشتهيها دون الأخذ في الاعتبار أي علاقات أخرى بين الإنسان وأخيه الإنسان؟
انخفض صوتها قليلا، ثم قالت بصراحة: الحقيقة أن الهوس الجنسي في عالمنا فقط، وأن السلطة المُعادية للشعب تجدها في العالم الثالث، العربي والأفريقي والإسلامي، الذي أنا جزء منه.
وأنهت حديثها قائلة: في الواقع فأنا أصيح، وأرغي، وأصرخ، وأبكي حتى أُرضي ذكور قومي، لكن مشاعري، وقلبي، وعقلي مع قرار منع النقاب، فمن أرادت أن تصبح مبنية للمجهول في عالم يتعارف الناس فيه ويحترمون بعضهم، فلها أن تختار بين علاقة صحية يكون فيها الوجه واجهة الإحترام والتقدير، أو العودة إلى الوطن السجن حيث ينشغل ذكور القوم برضاع الكبير، وعدم تهنئة الكفار بأعيادهم، ورفض تجاور كنيسة ومسجد، والشفاء ببول البعير، واعتبار النقاش حول كتاب ألف ليلة وليلة أهم من المطالبة بالافراج عن المعتقلين الأبرياء الذين مكثوا سنوات طويلة خلف القضبان دون محاكمة.
صديقة لأختي الكبيرة تناولت طعامَ الغداء معنا، واضطر والدي وشقيقي الأصغر إلى الانتقال لغرفة أخرى فتغطية الوجه هنا ستكون غير عملية بالمرة، خاصة وأن الإسباجتي هو الطبق المفضل لضيفتنا.
بعد الغداء جلسنا ومعنا والدتنا نتحدث عن هموم العانسات من أبناء قومي، وأدهشني أن اسمع إحصائية عن عددهن!
إنها جريمة مفزعة يشترك فيها الجميع، فالفتاة التي تقبع في دارها لا تغادره إلا إلى القبر، أو يتحدث عنها أحد لدى شخص لا يعرفها، فيصفها كما يصف البائع بطيخة غير مبقورة، وتظل السلعة موجودة في المخزن، أعني في البيت، وقد يأتي ابن الحلال أو لا يأتي أبدا، فذكور قومنا على استعداد للبحث في أقوال العلماء والفقهاء الذين مروا على الدنيا في الألف والأربعمئة عام الأخيرة، وقادرون على استدعاء شهادة الزور من الأرفف أو من افواه رجال دين يعيشون بيننا، وعقولهم وقلوبهم ونفوسهم لم تغادر القرن الثالث الهجري، وأزعم أن أهل الكهف أكثر استنارة من بعض علمائنا في عالم نظنه قد أصبح قرية صغيرة.
تذكرت وعيناي تفيض دمعاً حاراً كل الفتيات العانسات اللائي تعرفت إليهن في السنوات الماضية، وحكاية كل واحدة مع العنوسة والحرمان والعزلة تجعل القلب الحجر ينفطر حزناً، وينشق كمداً، فتغطية وجه المرأة حال دون العثور على الزوج، والحمقى من المدافعين عن قطعة القماش التي تحجب الوجه يردون سؤالا بسؤال، فيقولون: أليس بين السافرات عانسات؟ هل من تبحث عن الخطيئة تحتاج لتغطية الوجه؟ هل الرجل الذي يتحرش بالأنثى يحتاج إلى النقاب لينحشر بينهن؟
وهكذا دواليك، إكليشيهات متحركة في قلوب ميتة وعقول خاصمت العصر كأنها اختبأت مئات الأعوام في كهف لا يعرف له أحد سبيلا!
أشعر برغبة شديدة في أن أعلن على الملأ أنني أحترم إنسانيتي وآدميتي، وأنني لست بضاعة مزجاة يخفيها صاحبها عن الأعين.
أريد أن أشهر شخصيتي، ويعرفني الجميع، وأفرض احترامي على كل من يحدثني.
أريد أن أعطي الحق لمحدثي أن يرى وجهي كما أنا أرى وجهه، فهي ليست حرية شخصية لي أنا فقط، رغم أنني أخفي وجهي بأوامر من أدعياء حراسة الفضيلة، فكل شخص يملك الحق المطلق أن يرى تعبيرات وجه الأخر، فهي مكملة للحوار، ومرشدة لما بين الكلمات، ومعبرة عما لا تستطيع اللغة إيصاله.
أشعر بخنوع شديد، فكل من هب ودب يحشر أنفه في خصوصياتي، ويتقدم الدفاع الساذخ والسخيف جهلاء وأميون وشباب محرومون من الجنس، وبعض الذين انتفخت أدمغتهم ورماً فظنوه ثقافة دينية.
الرجل يتلقى على قفاه سبعين صفعة في اليوم، ويركع للسلطة، ويغمض عينيه عن كوارث بلده، وينافق الكبار، ويرتعش أمام رئيسه، ويلتصق لسانه بسقف حلقه رعباً من سوط السلطة، ويغمض عينيه عن مئات من الأخطاء والتجاوزات وصور الفساد، ويمشي بجوار الحائط لئلا يراه رجل أمن.
والرجل هو الباحث عن الخطيئة، وهو الذي يشتري الجنس في بيوت البغاء، ويفكر كذئب قبيل اغتصاب امرأة فيظن عندئذ أن كل أصدقائه وأقاربه وزملائه ورجال قومه ذئابٌ تبحث عن حريمه.
معركة النقاب التي يخوضها الرجل نيابة عني هي نفاق مصطنع، فهي معركته هو ليخفيني، ويرتكب فواحشه كلها دون أن يتعرف أحد على من تسير معه، أو من تقوم بزيارته.
النقابُ حالة من الكراهية للأخلاق، ودعوة للرذيلة، واحتيال باسم الدين، ووسيلة صنعها الرجل ليخفي جرائمه، ويصطحب معه أمام الجميع عشيقته دون أن يرفع أحد عينيه أمامه.
أبحث عن الفضيلة في سفوري، وعن الاستقامة في وجهي، وعن الحرية في كرامتي كامرأة وأنثى، وعن دوري في مجتمع يعرفني الجميع فيه.
يزداد احتقاري لنفسي كلما زاد المزايدون في الدفاع عن حجب وجهي، خاصة أن أكثرهم هم الأبعد عن الفكر والثقافة والتحضر والتمدن واستخدام العقل واحترام.
وجهي، أيها السادة الذكور، ليس أردافي، ومؤخرتي، وخاصرتي، وحقين علاهما ند، وفخذين فوقهما كفل(!)، لكنه معجزة المعجزات التي وضعها العلي القدير فوق كتفين علاهما رأس!
وجهي، ايها السادة، هو هويتي، وبطاقتي الشخصية، والنقاط التي أضعها فوق حروف كلماتي، وهو صحتي وسقمي، ومحبتي وكراهيتي.
وجهي هو أنا، فإذا أخفيته فقد وأدت نفسي، وخنقت روحي، وأهنت كرامتي، وأصدرت أحكاماً جائرة على كل رجل بأنه ذئب يتربص بي.
معركتكم، أيها السادة الذكور، ليست من الدين، وليست من أجلي، فأنتم تخشون تعرية فضائحكم، وتبحثون عن التخفي كما يبحث زائر بيوت البغاء عمن لا تعرفه.
وجهي، أيها السادة، هو فضيلتي، وحُسن أخلاقي، ولغة مشاعري، وفخري أمام مرآتي، وحقيقتي في مواجهة محدثي.
استيقظت فجر اليوم، وصليت لله تعالى، واستخرته ليدلني على الطريق المستقيم، وشعرت براحة شديدة وأنا اكتشف نفسي لأول مرة، وعندما خرجت من الدار كان وجهي مشرقا، وتنفسَتْ مساماته وهي تتفتح أمام اشعة شمس أحالت لونه في دقائق معدودة إلى صحة ونضارة، وأفصحت عن شخصيتي، ورفعتُ رأسي عاليا فأنا معجزة خلقها الله لتلد الرجال والنساء، وتصنعهم وهم يكبرون أمامها، وتعَلـّمهم، وتربيهم، وتدفع بهم إلى الحياة أصحاء وشجعانا وعقلاء.
لأول مرة أشعر أن هويتي الشخصية ليست فقط قطعة ورق في جيب بلاستيكي، لكنها وجهي الذي أعتز به، ويحميني، ويؤكد لكل من يراني بأنني المسؤولة عن تربية كل رجال الأمة وقد خرجوا من بطني بعدما حملتهم تسعة أشهر.
اليوم تحررت، ونزعت نقابي، فأنا حامية الفضيلة، وصانعة الحب والإيمان، ومعبودة الله العلي القدير، ولست بحاجة لأنصاف أميين، وصبيان التشدد، وعشاق الكراهية للدفاع عني.
اليوم فقط أشعر أنني امرأة تستحق رضا الله، فقد التزمت بأمره، وأفصحت عن هويتي، وأعرف الناس ويعرفونني، وقد تخلصت من المحامين الصبيان المرضى بهوس الجنس.
اليوم تأكدت أن النقاب حرام .. حرام .. حرام!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في 22 مايو 2010
Taeralshmal@gmail.com
التعليقات (0)