استيقظتُ باكراً علىَ حنين ناقة، ورغاء جَمَل فلمْ أتردد في اختيار حليب الأولى فهو يمنحني قوة تنزع أوتادَ خيمةٍ متينةٍ ولو كانت تمتد في عمق الأرض لتصل إلى النهر الاصطناعي العظيم.
تناولتُ طعامَ الإفطار وعن يميني وعن يساري تقف فتيات راهبات من أجل الثورة، يقمن بحمايتي، ولا يحملن، ولا يلدن، فالحياة تبدأ وتنتهي عند قدميّ قائدهِن .. رسول الصحراء.
أصابني أرَقٌ شديدٌ منذ عدة ايام، فأنا أبحثُ عن مكان أو فكرةٍ أو جماعةٍ أو نظريةٍ أضيفُ إليها كلمة ( العظيمة) تماماً كما فعلت مع النهر الاصطناعي، ومع الجماهيرية العربية الليبية الشعبية، ومع الكتاب الأخضر، وزادت حيرتي، فطلبتُ بعضاً من قردة السلطة، وأمرتهم أن يجدوا حلاً لي لهذه المعضلة وإلا أغرقتهم جميعا في خليج سرت!
لم يكن هذا هو السببَ الوحيدَ لأرَقي، فأنا لم أقرأ أخباراً عني في الصحافة العالمية، وحتى فِرَق كرة القدم الأوروبية التي دعمتها لم تعد تعبأ بي، وكذلك الفتيات الجميلات الإيطاليات اللائي استضفتهن في زيارتي لعاصمة الفنون، وجلسن أمامي بسيقانهن العارية الملساء يسمعن حِكمتي في الحياة والدين والفلسفة كأنني زرادشت.
استدعيت أقرب المستشارين فجاءوا مُلبّين ندائي قبل أنْ أقوم من مقامي، ووقفوا أمامي كما كان العبيدُ يقفون في سوق النخاسة بعد اختطافهم من أكواخهم الآمنة في ليبيريا وترحيلهم إلى العالم الجديد. طلبتُ منهم أنْ يجدوا حَلاً في إهمال الميديا لأخباري!
اقترب أحدُهم وهو يرتعش، ولم أتبين وجهه فقد كنتُ ساهماً، واجماً، أتأمل سقفَ الخيمة، ثم همس في أذني قائلا: أنا أقترح، فخامة الأخ القائد، أنْ نختطف أحمد الجلبي ونقوم بتسليمه إلى السلطات الأردنية، أو نرسل فرقة ليبية لاختطاف الشيخ حسن نصر الله من جنوب لبنان ونقوم بتصفيته كما فعلنا مع الإمام موسى الصدر وصاحبيه، أو نختطف أسامة بن لادن ونبهر الدنيا بعبقرية أجهزة استخباراتنا حتى يتوقف العالم عن امتداح الدبيانيين الذين صعد نجمهم إثر اكتشافهم جريمة اغتيال المبحوح!
لم ترق لي تلك الأفكار العبيطة، فأنا أريد أن يتحدث عني الصغيرُ قبل الكبير في أركان الأرض الأربعة.
تقدم أحدهم وهو يرتجف، وكاد يسقط على وجهه، وقال لي وحبالُ صوته تتأرجح كأنها بندول: لماذا لا نجمع الزعماء العرب في طائرة واحدة، ثم نقوم باسقاطها، وبعدها ندفع تعويضات ، وينتهي الأمر، لكنك ستصبح بطل مذبحة المماليك الثانية؟
قلت له بأن الفكرة ليست عملية بالمرّة لأن أكثر الزعماء العرب يعتذرون في اللحظات الأخيرة عن أيّ قمة حتى لو كانت بين السماء والأرض.
قال لي أصغرهم عٌمراً وأشجعهم قوّلاً، وهو صديق شخصي لابني الأكبر: لماذا لا نحتل دول الجوار، مصر والجزائر وتشاد وتونس والسودان، ونعلن قيام الجماهيرية العظمى، قولا وفعلاً؟
تذكرت حينئذ مهانة جيشنا في تشاد وكيف عاد مهزوماً في صحراء قاحلة بعدما تصَدَّىَ له التشاديون بأسلحة بدائية تعود إلى الحرب العالمية الأولى، ورفضت الفكرة على الفور.
قلت لهم بأنْ لا فائدة فيهم، وطلبت من حارساتي السمراوات أن يركلن المستشارين على مؤخراتهم، ويطردونهم خارج الخيمة.
جلست أفكر، وأتأمل، فأنا قائد، ومفكر، وفيلسوف، ورسول الصحراء، وأديب، وواضع الكتاب المقدس الأخضر، وصاحب النظرية العالمية، وملك ملوك أفريقيا، وإمام المسلمين،وعسكري رغم أن رتبتي تعقدت عند العقيد رغم مرور أربعة عقود.
اقتحم خلوتي فجأة واحدٌ من المخلصين لي، وأبلغني بأنَّ هناك شبه تمرُّد في سجن من سجوننا الكثيرة التي تمتد من طبرق إلى طرابلس وتهبط في عمق الصحراء حتى غدامس!
قلت له على الفور قبل أن أسمع ما لدىَ الرجل من حقائق أو أكاذيب: عليكم بالتخلص منهم جميعا كما فعلنا مع 1200 سجين في سجن أبو سليم، فأنا واهب الحياة لليبيين، ومن يفكر في عصياني فليتبوأ مكانه تحت الأرض.
انسحب الرجل في طرفة عين كأنه لم يدخل الخيمة قط، وفهمت أنَّ مذبحة تنتظر هؤلاء الأوغاد الذين سمحوا لألسنتهم أن تنطق بكلمة ( لا ) في حضرتي!
فكرتُ لبعض الوقت في إعلان الجهاد ضد فرنسا لأنها حظرت ارتداء النقاب على نساء المسلمين، وربما أضم لاحقا بلجيكا إلى حملتي العسكرية.
تذكرت يوم أعلنت الجهادَ على سويسرا،ففي لحظات كانت المحلات تتخلص من أي بضاعة عليها إشارة لهذه الدولة ذات اللغات الأربع، وحتى الأدوية التي يحتاجها المرضى وهي في غالبيتها سويسرية الصنع كانت قد غضبت هي الأخرى وتركت الصيدليات لتعيث فيها فساداً أدويةٌ مغشوشة تساهم معي في التخلص من الليبيين.
ثلاثة أرباع الشعب الليبي لم يعرفوا زعيما غيري، والذين كانوا في سن المراهقة عندما قمت بثورتي ضد الحكم الإدريسي يقتربون من نهاية العقد السادس، وهذا يعني أن أحفاد عمر المختار صناعة قذافية من كل الوجوه، وأن هذا الشعب الذي وصفته في إحدى المرات بالماعز فصفقوا لي لا يستطيع أن يأكل أو يشرب أو يتنفس بدون موافقتي، وأنني لو قمت ببيع الليبيين لقراصنةٍ أو معامل اختبار أو مستشفيات استثمارية تسرق أعضاءهم الجسدية وتعيد بيعها للمافيا الروسية أو الليتوانية أو اللاتفية فستخرج المظاهرات هاتفة بحياتي وبعبقرية القرار.
تأملت حياتي كصاحب ومُطـَبـِقّْ أهم نظريات الطغيان في كل العصور وهي ( استبداد المهرج) التي لم يتمكن حتى عبد الرحمن الكواكبي من الولوج إليها وهو يكتب عن طبائع الاستبداد ومصارع العباد!
استبداد يجعل القسوة رديفا للنكتة، والتعذيبَ مساوياً للتهريج، والتهبيلَ لا تعلوعليه نظريات سبينوزا وكانط وهيجل وألبرت ماركوز، وتصفية المعارضة لا تستحق أكثر من ابتسامة مع توجيه السبـّابة إلى الرأس!
كل زعماء العالم يتحملون سفالاتي وتهريجي، ويتضاحكون، ويتغامزون، لكنهم في النهاية يأتون لي صاغرين طمَعاً في نفطي، وإثارة لمشاكل مع جيراني حتى ينشغلوا بي عن قضاياهم وهمومهم، ودعماً للفـُرقة بين العرب، وإثباتا عملياً أن الزعامة العربية إنْ لم تكن عظمة الجنون فهي جنون العظمة!
إنني أعتمد على الذاكرة الضعيفة للمواطن الليبي والعربي ولهيئات حقوق الإنسان فلا أحد يحاسبني بأثر رجعي عن كل الجرائم التي أرتكبتها منذ صعودي إلى الحُكم في الفاتح من سبتمبر عام 1969، فأنا إرهابي سابق، وقتلتُ مئات الليبيين تحت التعذيب، ودمرت بلدا رائعا كان يمكن أن يكون جنة شمال أفريقيا، وأهدرت أموالَ شعبي في العباطة والسذاجة والمشروعات الفاشلة، وجففت مياه التربة في مشروع نهري اصطناعي، وطاردت المعارضين في كل دول أوروبا، وتحولت المكاتب الشعبية الليبية إلى أوكار للاجرام حتى الشرطة البريطانية لم تسلم من اطلاق النار فقتلنا ضابطة ليأتيني بعدها بسنوات توني بلير كأن شيئا لم يكن.
تعاونت مع الجيش الجمهوري الإيرلندي، ونشرنا الفزعَ في أنفاق لندن تماما كما فعلت في القاهرة أيام حكم الرئيس الراحل أنور السادات الذي حاول تأديبي بجيشه، فأمسكتُ عن الكلام حتى رحيله.
روّعت الآمنين، وفجـّرنا طائرة فوق لوكيربي فقتلنا مئات الأبرياء، لكنني جعلت الليبيين يسفـّون ترابَ الصحراء في حصار ظالم، كنت أنا وأسرتي نتمرغ في الرفاهية أكثر من الملك إدريس السنوسي، مثلما لم يمس الحصار الأمريكي قصور صدام حسين ومات مليون طفل عراقي، واشترى الإعلاميون العرب فيلات وسيارات بكوبونات النفط مقابل الصمت.
في عهدي حيث الاستبداد والتهريج توأمان سياميان لا ينفصلان يمكن أن أفعل كل الأشياء التي لو حَكـَمَ قردٌ ليبيا لتردد قبل فِعـْل نصفِها، فأنا أهدد بالانضمام لحلف وارسو قبل أن يطلق عليه جورباتشوف رصاصة الرحمة، وأنا أنضم إلى أفريقيا كـُفراً بعروبتي، ثم أرسل حجاجاً إلى القدس الشريف، وأقوم بتمويل الحرب الأهلية اللبنانية، وأدفع من عرق الليبيين تعويضات لجرائم أرتكبتها وأخرى لا أعرف عنها شيئا، ولكن أموال الشعب الليبي في جيبي ولو أهدرتها كلها دفعة واحدة لما ارتفع صوت يتيم يحتج.
لم أعثر في كتب التاريخ كلها على حاكم مُطلق السلطة واليدين والقوة مع رهبة مفزعة مثلي، فالليبيون تحولوا أيضا إلى مهرجين، وخائفين، وفئراناً، وأرانب لو حرَكـَتْ نسمة هواءٍ خيمتي فسيولون الأدبارَ، ويفرّون منها رعباً.
كل دول العالم لها سلطة قوية ولو كان حاكمُها ضعيفاً، وإذا اختفى رجل في تونس أو في صحراء الجزائر أو بين قبائل تعِز والحُدَيّدَة أو في جبال تورا بورا أو بين عصابات بوجوتا أو جوهانسبرج أو على سواحل الصومال فإن إمكانية التفاوض متوفرة، إلا في جماهيرتي فلا يمكن التفاوض، ولا إعادة من اختطفته أجهزة أمني، ولا تعثر على أثر لأيّ مُخْتـَفٍ، من الكيخيا إلى الإمام موسى الصدر، والاختفاء هنا يعني التصفية ثم الانتقال إلى ذاكرة ضعيفة تهيل الترابَ على الجريمة.
أشعر بلذة عجيبة عندما أهين مَنْ حولي، من نفث دخان السيجارة في وجه الرئيس حسني مبارك إلى تأخري ساعتين على حضور جلسة مجلس النواب الإيطالي عندما كنت ضيفا على صديقي برلسكوني، ومن استنكاري السابق بأن هناك عرباً مسيحيين إلى إلقاء الفلسطينيين والمصريين في صحراء السلوم،ومن البصق على أحكام القضاء في قضية الممرضات البلغاريات إلى محاولة إهانة الملك عبد الله بن عبد العزيز في مؤتمر القمة العربي.
لكنني أيضا أشعر بملل شديد من جراء السلطة التي أملكها والتي لم يصل إليها طاغية من قبلي في العصرين القديم والحديث باستثناء بول بوت ومنجستو هيلا ميريم وستالين وأنور خوجة، أما الطغاة الآخرون فيأتون من بعدي بمراحل كثيرة.
قمت بتصفية رفاقي واحدا تلو الآخر، وأعدمت 22 من الضباط بحجة أنهم كانوا يخططون لإنقلاب ضدي، وأعلنت عام 1984 عاماً للحرب ضد الليبيين، وأمرت بأن تتم الإعدامات على شاشة التلفزيون ليعرف أبناءُ الشعب أن أرواحَهم بين إصبعين من أصابعي، ولم يَسْلـَم تلاميذُ المدارس من المشانق التي لم تكن تختلف عن مشانق الإستعمار الإيطالي إلا في نوعية الحبال، ورفضتُ توجيه الإتهام لأي من رجالي الذين قتلوا 1200 ليبي في ساعة زمنية واحدة بسجن أبو سليم، ولو تمرد الشعب كله وقامت لجان الثورة بتصفية الليبيين عن بكرة أبيهم فلن أقدم أحداً من القتلى للمحاكمة.
أكره الليبيين كراهية لم يعرفها قلب أيّ طاغية يحمل بغضاءً لشعبه، وقد حاولت طوال أربعين عاماً أن أجعلهم الأكثر تخلفاً، وفقراً، ومهانة، وإذلالاً، وخوفا من السلطة، ولو حكمهم الثلاثي ليبرمان وزين العابدين بن علي وعمر حسن البشير لكانوا أرحم عليهم مني، ومع ذلك فكل شيء هاديء على الجبهة الليبية، ولو حلم قائد عسكري وهو يغط في نومه بالتمرد، وانعكس حلمه على تعبيرات وجهه، فعليه بالعد التنازلي للصمت الأبدي، سواء بكاتم الصوت أو باختطافه من أحضان زوجته وأولاده.
أتفهم أن القمع الذي أمارسه أخرس الليبيين، ولكن ما لا أفهمه هو الصمت القبوري الذي ران على قلوب وعقول وألسن المثقفين العرب والسياسيين والأكاديميين ورجال الفكر والدين والسياسة والحزبيين والإعلاميين!
أليس الليبيون إخوة لهم؟
أشعر بالغثيان من الذي يزعمون أنهم تحضـّروا، وتمدّنوا، وتثقفوا، وتعلموا، وأصبحوا عقل الأمة وضميرَها، فإذا بهم أكثر جُبنا من النعام، وهم يغمضون أعينهم عما يحدث للشعب الليبي، بل كثيرون منهم يقفون كالمتسولين على أبواب المكاتب الشعبية الليبية، ينتظرون دعوة لزيارة ليبيا، والتسابق لشهادة زور ستكون حجارة لهم في نار جهنم.
أحس بالقرف من كل عربي، أديب، أو فنان، أو شاعر، أو كاتب، أو صحفي، أو سياسي، أو مشرف على موقع أو منتدى، ثم يغض الطرف عن جحيم صنعته أنا لليبيين، ولا يزال قائما حتى تصعد روح آخر ليبي.
هذه أمة ميّتة لا ينفع معها دينٌ أو إيمانٌ أو تعليمٌ أو كِتابٌ سماويٌّ أو رُسُلٌ أو أنبياءٌ أو مُصلحون أو ثائرون، فليس هناك عربيٌّ واحدٌّ من جزيرة طـُنب الكبرىَ إلىَ أغادير، ومن أرض الصومال إلى اللاذقية لا يعرف تفاصيلَ الوطن السجن الذي صنعتـُه لإخوانهم الليبيين، ومع ذلك فهم بصَمْتـِهم شركاء معي في قهر الشعب، وقمع الحرية، وقتل الأرواح البريئة، وإهدار أموال الدولة.
أتحدى أيّ عربي يقول بأنه لا يعرف ماذا يحدث في جماهيرية الاستبداد والتهريج، لكنهم بلعوا ألسنتهم وكرامتهم، واستحقوا احتقاري، وازدراءَ كل الشرفاء الذين يقفون، ولو بأضعف الإيمان، مع الشعب العربي الليبي.
أتحدى أي أوروبيّ يقول بأنه لم يكن يعرف بكل الجرائم التي ارتكبتها، ومع ذلك فعندما تخليت في 19 ديسمبر 2003 عن البرنامج النووي، بعدما تم تهديدي بالقبض عليّ في جحر، ونقلي إلى سجن أمريكي، تصلبت أطرافي، وعدت إلى حظيرة الطاعة مع السماح لي بين الحين والآخر بحركات بهلوانية، وسبّ الاستعمار، وتوجيه الشتائم إلى بعض القوى الغربية، ثم العودة سريعاً فأراً يهرب من خياله.
ثم استقبلت في الجماهيرية زعماء أوروبيين كانوا يصنفونني إرهابياً، وكنت ضيفاً على المفوضية الأوروبية في بروكسل، ولاعباً مهماً في القمة الأوروبية / الأفريقية بالعاصمة البرتغالية، وكنت على استعداد لأن أدفع تعويضات لحادث مرور عابر في مكان مجهول، وأتحمل المسؤولية كاملة، شريطة أن تبقيني أوروبا وأمريكا بعيداً عن محور الشر!
لا أحد يعبأ بالشعب الليبي، والمثقفون العرب يُصـَدّعون رؤوسَنا بالحديث عن العروبة والقومية والشرف والوحدة، والإسلاميون يخطبون آناء الليل وأطراف النهار عن القيم والمباديء والنـُبل والأخلاق والشجاعة، وعن تعاليم سماوية حفظوها عن ظهر قلب، لكنهم جميعاً شركاءٌ في صمت حقير، ووضيع، وجبان وهم يتابعون فرمي، ودهسي، وإذلالي، وإهانتي للشعب الليبي.
أكاد أتقيأ على القلم العربي الذي إنْ أراد الكتابة عن كوارث الشعب العربي الليبي انحرف ناحية المصيدة التي نصبتها لهم جميعا .. تلك التي تكتفي بوصفي مخبول، ومجنون، ومهرج ليستريح ضمير صاحبه، ويظن أنه أدى مهمته النبيلة فإذا به يتحول إلى شريك معي في القضاء التدريجي على أبناء الشعب الليبي.
كل شيء يمكن أنْ أشتريه بأموال الليبيين، من المثقف العربي إلى دول الجوار، ومن السياسيين الغربيين إلى كلمة رئيس التحرير في كبرى الصحف العربية، فشراءُ الذِمَم أسهل من إعلان الجهاد ضد سويسرا!
أحتاج لساعات طويلة لكي أتذكر اسماء الذين قمت باغتيالهم:
محمد مصطفى رمضان في لندن، وعبد اللطيف المنتصر في بيروت، ومحمود عبد السلام نافع في لندن، وعمران المهدوي في بون، ومحمد فؤاد أبو حجر وعبد الحميد الريشي وعبد الله محمد الخازمي ومحمد سالم الرتيمي في روما، وأبو بكر عبد الرحمن في أثينا، وعز الدين الحضري في ميلانو، وفشلت في اغتيال الرائد منعم الهوني عضو مجلس قيادة الثورة!
وقام رجالي بتسميم على الأطيوش في اليونان، ثم تولوا اختطاف جبريل الدينالي في المكتب الصحي الليبي في بون، وفي 12 يونيو 1984 قام لطفي العسكر وهو أحد كلابي الأوفياء باغتيال صالح أبي زيد في أثينا، وتمكنت أجهزة الاستخبارات الليبية العظيمة من تهريب القاتل إلى ليبيا، لكنني فشلت في اغتيال محمد يوسف المقريف، المعارض الشهير في الخارج.
ما أتذكره أنا في ساعات ينساه المواطن العربي في دقائق!
جرائمي كتاب مفتوح يقرأه الأمريكيون والغربيون والزعماء العرب وكل من فتح الله عليه وتعلم القراءة والكتابة في عالمنا العربي الممتد من الصمت إلى الجُبن، لكنني في حمايتهم جميعا.. من جامعة الدول العربية إلى الأمم الأفريقية، ومن خصومي في السودان وتشاد والسعودية إلى المتصارعين على أرض إسراطين!
أمُّ الجرائم أن يزعم أحد أنه لا يعرف شيئا عن مشهد القمع الأربعيني للشعب الليبي، ومع ذلك فالعالم كله متضامن معي صمتاً، أو خوفاً، أو طمعاً في أموال الذهب الأسود.
لكنني لن أغادر الدنيا قبل أن أقلب عاليها سافلها، من تقسيم نيجيريا، إلى التشكيك في النبوة المحمدية، وتغيير التواريخ، والأعياد، وبدايات السنوات، وأسماء الشهور، والدعوة لفتنة طائفية من أقصى المغرب إلى عاصمة الدولة الفاطمية.
نعم، أنا مستبد، ومهرج، وبهلوان، وجاهل، ومريض نفسي وعقلي، وطاغية لم تعرف ليبيا مثلي شبيها، لكنني أشرف من كل الذين يبتسمون لمسرحياتي السخيفة، ويعطون ظهورهم لجحيم يعيش فيه أبناء الشعب الليبي.
أنا صريح، أما الصامتون فأكثر مني شراكة في صناعة جهنم الليبية!
كل صاحب قلم، وموقع، ومنتدى، وقناة فضائية، ورئيس حزب، وعضو برلمان، وزعيم دولة، ورجل دين متضامن معي ولو أقسم بكل الايمانات أن لا حول له ولا قوة.
تلك هي بعض خواطري في مقطع من يومياتي، وأحسب أنني أحتاج لتفرغ كامل حتى يخط قلمي وصف عذابات الشعب الليبي تحت قدمي وأقدام أسرتي وكلابي ولجاني الثورية.
إنني على يقين من أن هذا المقطع من يومياتي لن يتأثر به أكثر من حفنة من الشرفاء، أما الباقون من الثلاثمئة مليون عربي، ومنهم المعارضة الليبية في الخارج، وأدعياء الدفاع عن حقوق الإنسان في كل مكان، فيستعدون لنوم أكثر عمقا حتى ينتهي آخر ليبي من فوق هذه الأرض الملائكية التي أنجبت شياطين.
ترى أي الجريمتين أشد بشاعة، وقسوة، وإنتهاكاً لحرمة الدم، ولروح الله التي نفخها في أبناء آدم: القتل أم الصمت؟
أيها الصامتون على جحيم شعبكم العربي الليبي، شكرا لكم، فأنتم أيضا من كلاب خيمتي!
محمد عبد المجيد
رئيس تحرير مجلة طائر الشمال
أوسلو في الأول من يونيو 2010
التعليقات (0)