استيقظت مبكرا بعد ليلة طويلة في كوابيسها وقصيرة في عدد ساعاتها. بعد تناول طعام الافطار، أرتديت ملابسي التي تزينها على الكتفين رتبتي كأحد ضباط الشرطة، وأنا أعرف أن لا أحد يناديني بها لأنني في الظاهر سعادة الباشا.
ألقيت نظرة على المرآة المعلقة في الجانب الأيمن من الصالون، ثم بصقت عليها قبل أن تلحق بي زوجتي لباب الخروج مودعة إياي، وداعية لي بطول العمر والسلامة.
لم تلاحظ شريكة عمري في قسمات وجهي هذا الكم الهائل من احتقاري لنفسي، فهي تظن أنني فارس مغوار أو أسد يرتدي زي ضابط شرطة، أو واحد من الذين أرسلهم القدر لتعليم الغوغاء أصول التمدن والتحضر والطاعة.
توجهت لباب المصعد الذي أطاعني دون أن ألمس أزراره، والحقيقة أن الرجل الأنيق الذي كان بداخله فتح لي الباب ملقيا تحية الصباح فلم أتبين إن كانت تحية سلام أم استجداء.
وقفت بجانبه وحاولت أن أرهف السمع لما يدور في أعماقه فكأنني سمعت ما يدور في خلده، وتناهت إليّ تمتمةٌ لم أتبين منها إلا قوله الذي لم يخرج من بين شفتيه: أعرف أنك كلب.
خرجت من باب البناية ورأيت عيونا كثيرة تنظر إليّ فعرفت أن اصحابها تعرفوا على صورتي التي نشرتها بعض وكالات الأنباء صباح أمس وقد أمسكتُ أحد المتظاهرين من رقبته، وضغطت عليها بشدة، وجاء أحد المسجلين خطرين وهو يعمل معنا كلما هَمّتْ جموعُ الشعب في الاحتجاج على الرئيس حسني مبارك، فجعل يضربه في بطنه وصدره حتى كاد يخر صريعا.
لم تشفع لي نظافة البدلة البيضاء الأنيقة بنجومها البراقة وأنا أخرق الأرض وأبلغ البنايات الشاهقة طولا في أن أبصق على أعماقي دون أن يراني أحد، فأنا في الحقيقة واحد من كلاب الحراسة الذين يأتمرون بأوامر اللصوص، ويقوم الرئيس بتسليطنا على خصومه، فتشتعل نار الغضب في نفوسنا.
كل المجرمين فيهم من روح البشر ولو ذرة واحدة إلا نحن ففينا من روح الكلاب المسعورة ما يجعل الرغبة في قتل النفس هي الحل الوحيد للانتماء للانسانية ولو في باطن الأرض.
زميلي وهو مأمور قسم شرطة آخر كان صباح أمس أقرب إلى أشرس الحيوانات قسوة وسعارا، وقد شاهدته وهو يضرب بحذائه الأسود الثقيل وجه أحد القضاة وحملة أمانة العدالة التي أبت الأرض والسماوات والجبال أن يحملنها، ثم لا يكتفي بهذا بل أمر قبضايات الرئيس من المسجلين خطرين أن يتولوا الباقي.
كان القاضي الذي يحكم بين الناس، وهو ضمير الأمة وصوت العدالة والحَكَمُ الفاصل بين أهواء المتنازعين يرجوني أن أتوقف، ويبكي بدموع لم أشاهد مثلها من قبل ففيها عزة وإباء، لكن فيها أيضا جبالا صماء من الاحتقار لي وكان وهو يستجدينا التوقف أكبر منا جميعا، والفارق بينا لا تدركه الأبصار، فهو انسان فيه نفخة من روح الله، أما أنا فكلب فيه نفخات من كل الشياطين.
توقفت السيارة أمام قسم الشرطة، ووقف كل من مررت به تحية تعظيم واجلال لي، ثم دخلت إلي مكتبي في الوقت الذي خرج فيه أحد السعاة بعدما وضع فنجان القهوة.
ألقى تحية الصباح بسرعة خاطفة، لكنني سمعتها هكذا: صباح الخير أيها الكلب!
بعد دقائق دخل أحد المخبرين قائلا: المجموعة التي قبضنا عليها بالأمس لا تزال في التخشيبة، وقد طلب أحدهم دواء عاجلا كنا قد صادرناه، فهل يسمح الباشا أن نعطيه إياه؟
قلت له ولكن تعليمات السيد الرئيس حاسمة بأن يتم معاملة الغوغاء كأنهم حيوانات أو أقل قيمة، فعليك أن تمنع الدواء عنه فكل ما يسعد الرئيس مبارك يصب في صالح استمرارنا فوق رؤوس رعاياه.
خرج المخبر مسرعا، وأغلق الباب خلفه، لكن أحدا لم يشاهدني وأنا أنظر إلى صورتي في سطح مكتبي الذي يبرق، ثم أبصق عليها مرة أخرى.
قلت لنفسي: الدنيا كلها تعرف أنني كلب يحرس سيده ولصوص الوطن وقساة الأمة وحيتان الفساد، وأنني أصنع جحيما لأولادي، ومستقبلا مظلما لأولادهم، وأن سيدي في قصره المعمور بالخيرات والكلاب يحتقرني ويزدريني بأكثر مما أفعل أنا مع الأحرار والمتمردين والمعتصمين والمتظاهرين.
أحسدهم على جمال الروح التي تتردد صداها في جنبات كل الشوارع والميادين التي يمرون بها.
إنهم ينامون ملء جفونهم، ويقبضون السماء بأيديهم من رفعة وسمو أرواحهم فهم يصنعون زمنا جميلا، ونحن نصنع القبح والدمامة والصديد والغثيان.
كانوا يقفون على الرصيف المقابل لنادي القضاة، وكانت نظراتهم لي ولزملائي الكلاب تخترق أجسادنا، وتهتز ضلوعنا خوفا وفزعا من مصير قاتم جحيمي ينتظرنا عندما يهرب الطاغية حسني مبارك وأسرته ورجاله.
يا إلهي، كم هي لحظات مرعبة ومفزعة تلك التي ستمر بي عندما يتحرر هؤلاء الناس، ويبدأ كشف حساب طويل بطول النهر الخالد، ويسألني أحدهم: كيف كان شعورك وأنت تعلق مواطنا من قدميه في سقف مكتبك ثم تهوي بسوطك فوق ظهره العاري؟
كيف ستلتقي عيناي بعيني حارس العمارة وأنا عائد ذليل فيه كل مسكنة المهانة بعدما يتحرر المصريون؟
إنهم يعرفون أنني كلب أنبح واصرخ وأنهش بأنيابي في جسد نحيل لقاض أو مستشار أو مواطن عادي تعتبره ابنته الصغرى مثلا أعلى لكل القيم والمباديء السامية الجميلة.
يا إلهي، لماذا لم تخلقني انسانا على هيئة كلب بدلا من كلب على هيئة بشرية في صورة باشا يرتدي زيا يحسده عليه الحمقى والأغبياء؟
لماذا لا تنشق الأرض وتبتلعني فأصون لأسرتي كرامتها، ويحفظ أولادي من بعدي صورة لوالدهم على غير حقيقته؟
بعد قليل تتوسط شمس حارقة كبد السماء، وقد تلقيت للتو مكالمة هاتفية من مساعد السيد الوزير يطلب مني التوجه مع فرقة من الأمن وصف الضباط وبعض المخبرين والمرشدين وكل الأولاد المسجلين خطرين في الحي الذي يقع فيه قسم الشرطة إلى أحد الميادين الكبرى، فهناك مجموعة من المصريين تتظاهر مطالبة بحقوقها في زمن الرئيس حسني مبارك.
علمت أن الرئيس غاضب جدا لأن عدد المعتقلين أقل مما توقعه فخامته، لذا فعلينا مهمة جديدة وهي ادخال البهرجة والسرور على سيد القصر كما تفعل القرود المدربة في السيرك القومي.
وصلنا إلى الميدان في وقت وجيز، وتفرقنا على مداخل الشوارع المؤدية إليه، لكن احساسا غريبا انتابني فجأة وكأنه كابوس في أشد لحظات الوعي واليقظة.
أحسست أن مصر كلها، برجالها ونسائها وأطفالها وشيوخها وكل الأحياء والدواب التي تمشي على أرضها قد تجمعت أمامي في مشهد كأنه يوم الحشر، ثم فجأة بصقت كلها في وجهي بصقة واحدة لم تستمر أكثر من ثوان معدودات، ثم استمعت لصوت بجانبي يقول: سعادة الباشا، لقد قبضنا على أحد المجرمين وكان يصرخ ويقول بأنه رئيس محكمة.
في أقل من لمح البصر كانت قد عادت لي روح الكلب فأمسكت بوجه القاضي ثم ...............
التعليقات (0)