مواضيع اليوم

مقطع من يوميات شاب سعودي

 

 

ينتابني ارهاقٌ شَديدٌ مُنْذ الصباحِ، فَقَدْ سَهَرتُ أمام النِتَّ ساعاتٍ طويلةً، ثُم أجريتُ مُكالـَماتٍ موبايليةً لبعضِ الأصدقاءِ الذين كانوا يَجوبون المدينةَ بسياراتِهم الجديدةِ بعدما بَدَّلوها مَرَّةً أو اثنتين هذا العام مِنْ جَرّاءِ التفحيط، واظهارِ مَهارة الشابِ في تدمير ما لـَمْ يُصِبْهُ تَعَبٌ في الحصولِ عليه.

بعدما خَلَدْتُ إلىَ النومِ بأقل من ساعةٍ أيقظني أبي لصلاةِ الفَجْر في المسجد القريبِ، وكدْتُ أَعْتَذِر إليه لشِدّة تعبي ، فأمسك بكتفي ونهرني قائلا: صلاة الفجر واجبة جماعة في المسجد حتى لو لم تفهم ما تقول، ولا تستوعب قراءة الإمام!

لمْ يبق علىَ موعدِ الذهاب إلىَ الجامعة غير ساعة، فأيقظتُ والدتي لتقوم بتحضير طعام الإفطار مع الخادمة الإندونيسية، فأنا لا أدخل المطبخَ إلا قليلا، وحياتي كحياة أيّ شاب سعودي ميسور الحال، فالخادمةُ لديّنا أهم من الأم، وإذا غابت الأولى شهرا أو اثنيّن في زيارة عائلتها بجاكرتا أو كلكُتّا أو إسلام أباد أو مانيلا فقد أصبحنا أيتامًا حتى تعود.

أتذكر ُعندما كنتُ طفلا صغيرا ونخرج على الشاطيء نتنزه، فأبحث عن ابتسامة والدتي التي أخفَتْها خلف خِمار، وأشتاق إليها وهي علىَ مَقْرُبة ثلاثة أمتار مني لتلعب معي، وتجري خلفي، وأرتوي أمام الناس من وجهها الجميل وهو يشرُق حُبَّا، لكن للأسف فوالدتي ككل النساء الأخريات اللائي يختبئن داخل العباءة السوداء القاتمة، فلا أستطيع التمييزَ بينهن!

انطلقتُ بسيارتي بعد أقل من ساعة إلى الجامعة، وبعد المحاضرة الأولى جلستُ في الكافتيريا مع مجموعةٍ من الأصدقاء نتحدث عن عبقرية كل واحد مِنّا في اختراق جدار الممنوعات والـمُحَرَّمات في المملكة!

كل الأشياء في بلدي خاضعةٌ لِسَوّطِ رجلِ الدين، فهو الأبُ والأمُّ والمُفتّي والمُفَسِّر والمُعَلم!

إنه الدولةُ برُمَّتِها ولو كان يملك القدرةَ علىَ القفز إلىَ البيوت من النوافذ ليشاهد حياتـَنا بين أربعة جدران، ثم يتسلل إلى غُرَفِ النوّم للبحث عن الأحلام المحرَّمة لما تردد هُنَيّهة أو أقل!

منذ يومين كنتُ قد قررت أنْ أصلي العشاءَ مع أسرتي، ووقفتُ أستريح بالقرب من أحد المساجد بعد التسوّق، فإذا به أمامي كأنه عِفريتٌ من الجن. لحية كثيفة، وعصاة رفيعة، وعينان مكحلتان، وأسنان صفراء باهتة.. سألني عن سبب وقوفي بعدما أَذِّنَ مُؤَذِّنٌ للصلاة!

لم ينتبه لـِما قلته عن رغبتي في الصلاة في داري، فمحكمةُ التفتيش المتنقلة لا تسمع ما يقوله المواطن، وهؤلاء المطاوعة هم سَوّط الأمن، يعيدون المواطنَ إلى دائرة الخوف إنْ ذهب به الظنُّ أنَّ شهقةً من الشجاعةِ ستنفخ فيه الروح.

صديقٌ لي كان في معسكر خاص في الصحراء مع صحبة شبابية، يضحكون، ويتسامرون، ويستمتعون بشهيّ لحم باربكيو أمام نار تضيف إلىَ ظلام الصحراء قَبَسًا دافئًا، وفجأة ظهرت سيارةُ جيب، وقفز منها ثلاثة مطاوعة، فتجمدت الدماءُ في عروق الشباب.

بعد تحقيقٍ مُطَوّلٍ عَمَّا يفعلونه، وعن الممنوعاتِ التي في حوّزتهم، وعن الذي سيؤمهم في الصلاة، ألقوا علىَ الأرض صُنْدوقاً به مجموعة من الكتب عن عذابِ القبر، ثم انصرفوا وهم يتوعَّدون بالعودة مرة أخرى للتأكد من عَدَمِ وجود ممنوعات.

اتصل بي صديقٌ عزيز ٌمِنْ عاشقي القراءةِ وطلبَ منّي أنْ أصْحَبه إلىَ مكتبةٍ كـُبْرَى للبحثِ عن بعضِ الكُتُبِ التي قرأ عنها علىَ النتّ.

فَـغـَرَ البائعُ فاهًا وكأنَّ صديقي يبحث عن مُذكراتِ غانيةٍ أو يومياتِ راقصةٍ مشهورة، فالبائعُ يعرف أنَّ الكُتُبَ المُتَعَلِّقةَ بالفلسفةِ ومقارنةِ ونَقْدِ الأديان والموسيقىَ والطغاةِ والسجون والمعتقلات وحقوق الشيعة والأسرة الحاكمة وحركات المعارضة ومئات من الموضوعات غيرُ مَسْموحٍ بها اطلاقًا.

كان البائعُ خائِفًا، وخِلته سيسقط علىَ الأرض، فهو ليس سعوديًا، وطريقُ التفنيش علىَ أول طائرةٍ هو أقصر الطرق بين شفتي الكفيل وأذنيي الوافد، فانسحب الرجلُ فورا لينجو بحياتِه وبلُقْمَةِ عَيّشِهِ!.

تلقيتُ اتصالا من والدتي تطلب مني أنْ أقومَ بتوصيلِها إلى المستشفىَ لزيارة ابنةِ أختها الكبرىَ والتي تعاني من مرض عِضال.

على باب المستشفىَ أوقفني حارسٌ ضخمُ الجُثـّةِ كأنه شجرةٌ عجوز، فقلت له بأنني أقوم مع والدتي بزيارة ابنة خالتي في الطابق الثالث، لكنه رفض صعودي لأنني لست مَحْرَمًا، وأنَّ لديه تعليمات مُشَدّدة بحراسة الفضيلة، وهذا الأحمق لا يعرف أنَّ التي نقوم بزيارتها تُعاني من مرض خطير قد لا يمهلها شهرين آخريّن، وأنني سأكون في حضرة والدتي، وأنَّ الخيالَ المريضَ لأدعياءِ حِراسةِ الفضيلة لا يمرّ بذهني قط!

رجالُ الدين في بلدي قاموا بتحويل الدين إلى رؤية بورنوجرافية محشورة بين قرني ثور مصنوع من الفتاوى الفجّة، والحياةُ بالنسبة لهم لا تخرج عن سبع كلمات: الجنس، والمرأة، والعقوبات، وازدراء المخالفين، وطاعة ولي الأمر، والفتاوى، والقشرة الخارجية للمسلم ولو كان المختبيء تحتها الشيطان نفسه.

أنعم اللهُ علينا في وادينا غير ذي الزرع بذهبٍ أسود تحت الأرض، وبكمياتٍ كان يمكن أن تتحول السعوديةُ بحُسْن استغلالها إلى جنة يقف على بابها عشرات الملايين الذين جاءوا من كل فجٍّ عميقٍ ليتأملوا عبقريةَ المسلم في صناعة قِبلة العالم في التحضر، والتمدن، والقوة، والتطور، والجمال، والتسامح، والحرية!

مئات المليارات قدَّمها لنا باطنُ الأرض، وفي عملية حسابية بسيطة كان وصف المشهد السعودي المفترض كالآتي: جيش قوي يهابه الجميع. مصانع أسلحة تقوم عليها عبقرية أبناء المملكة، فنقوم ببيع الصواريخ بعيدة المَدَى لفرنسا، والدبابات السعودية لألمانيا، والأسلحة الخفيفة لدول أفريقية، وتنضم جيوش الخليج تحت ألويتنا.

تحلية مياه البحر، وتراجع الأميّة إلى الصِفْر، مناخ للحرية تحسدنا عليه دول الجوار، مكتبة في كل شارع يغرف منها القاريء ما يشاء من كل العلوم والفنون والآداب والترجمات، ندوات في كل مدينة وقرية وحَيٍّ تتطرق إلى كل الموضوعات، مواطن سعودي يرفع رأسَه أمام الاثنين معا: رجل الأمن ورجل الدين،أقلام حرة في صحافة يتسابق الكُتَّابُ الكِبارُ للتشرّف في تنسم الحرية في بلاطها، مواطـَنة لا تفرق بين شيعي وسُنّي وغير مسلم ووافد هندوسي أو بوذي، عدالة مُطلقة يتساوى أمامها الأمير والعامل البنغالي، اعتبار المطاوعة من العصر الحجري فلا وجود أو أثر لأي شخص ينهر مواطنا أو يرفع العصا على ظهره ليؤدي شعائر الله، نقاشات في حرية مطلقة وليس لها خطوط حمراء فالعقل هو السائد، والمنطق السليم ينتصر، والتسامح يحتضن المخالِفين في النهاية.

مشهد سعودي يضحك عليك من تسأله عن وجود أسرة فقيرة، ويصطحبك إلى قسم الشرطة بتهمة الافتراء لو قلت له بأنك شاهدت سعوديا يتسول في الشارع، نظام ضمان اجتماعي يُغطـّي الوطن كله، تجفيف كل منابع التطرف والتشدد والتزمت، سلطة لا تفزعها تفسيرات رجال الدين، ولا يخيفها التلويح بالثعبان الأقرع.

منع تام لنفاق السلطة الرابعة، عدم دعوة الإعلاميين الذين ينفخون في القرارات الظالمة، احتقار صحافة استقبال وتوديع الأمراء.

فجأة تذكرت أنني في غمرة أحلام اليقظة، فبلدي العظيم خَسِرَ في السنوات العشر الماضية ما يحتاج إلى نصف قرن لاصلاحه مرة أخرى، وفي عالم الشبكة العنكبوتية إذا دافعتَ عن المملكة اندفع العشرات للسخرية منك، وإذا امتدحت في أحد أركان نظام الحكم فستلهبك أقلام حادة لا تستطيع أن تتهمها بأنها تكره السعودية أو السعوديين، لكنها غاضبة على ما آل إليه الوضع هناك.

اليمن، عمق السعودية، على وشك أن تعود إليه قوات الاحتلال فتلتهمه يـَمَنَيّن هذه المرة وليس يـَمَنَاً جنوبيا واحدا، ونحن هنا منشغلون بتحريم عمل المرأة كاشيير رغم أنها داخل عباءة سوداء سميكة وتظهر منها عينان كحيلتان، لكن معارك أبناء وطني دائما ساذجة وعبيطة ومتخلفة بفضل القُوَى التي دفعت بخمسة عشر شابا سعوديًا لتفجير البرجين التوأمين، فخرج جودزيلا من القُمقم، ودمَّرَ العراقَ وأفغانستان ويستعد لانهاءِ العصر الإسلامي والعربي!

في طريق العودة إلى البيت شاهدت رجلا كبيرا يمسكه اثنان، ويجلده الثالث في ساحة شعبية. كاد الخوفُ ُيحيل وجوهَ المشاهدين إلى اللون الأزرق، فكل منهم يعرف أن الجَلْدَ للصغار فقط، وأن هذا مصيرُ مَنْ لا يطيع، أمّا الكِبار فساكنو القُصورِ يقومون بحمايتِهم.

أحبُّ بلدي حُبّاً جَمّاً، وأحلم بتطورها، وأتمنى أن أراها خَيّرَ أمم الأرض وأكثرها استقلالية في القرار، فأبناءُ المملكة لا يستحقون العصا، والسوط، والمطاوعة، والممنوعات، والمحرمات، والفتاوى الحمقاء، والتفسيرات المتخلفة لكُتب عتيقة، والحرمان من الهواء النقي المُمـَثـَل بالاختيار الحر، والتسامح الأوسع، وقبول الآخر، والمساهمة في الحُكم، والتعاون لبناء البلد.

أغضب غضبا شديدا إنْ قام أحد بانتقاد بلدي نقدا وضيعا، وظالما، وتهكُمِيّاً، فنحن شباب المملكة نستطيع أن نجعل من السعودية جَنة الله على الأرض بما نملك من امكانيات مالية وملايين من الشباب الواعي والمثقف والمتعلم والمتحمس لخدمة الوطن، لكن أصواتنا لا تصل إلى القصر، فأبواب خادم الحرمين الشريفين مُشَرّعة للمدّاحين، وعفاريت التدَيُّن الزائف، وهمسات قوى الأمن.

أحلم باليوم الذي يتولى الحُكْمَ فيه شبابٌ لا يتجاوز أكبرهم الأربعين من عمره، وأن تتفتح كل الطرق لقوى الابداع، فيحصل أفضل فيلم سعودي على جائزة دولية، وتذهب الأُسَر السعودية إلى المسرح القومي السعودي، ونسهر على أنغام سيمفونية رائعة يقود مايسترو سعودي الفرقة الوطنية التي تعزفها، وإذا شعر غيرُ المسلمين بتمييز ضدهم في أي بلد عربي يهربون فورا إلى بلدي الجميل فالسعوديون حُماة الحرية الدينية والتسامح.

فجأة وقف رجل ملتح أمامي وطلب مني الهوية الشخصية! لم تتمكن شفتاي المرتعشتان من الاعتراض أو حتى سؤاله عمن يكون، رجل دين أم أمن! أخرجتها له وركبتاي لا تستطيعان حملي، وسألني عن السيدة التي مرت بجواري مصادفة، فأقسمتُ له أنني لا أعرفها. لم يُصدقني، لكنه ألقىَ، وهو عابس، الهوية الشخصية في وجهي، ثم انصرف لحال سبيله.

هنا فقط عرفت أنني مواطن سعودي لا يملك أكثر من أحلام يقظة لا تحرك ساكنا!

مقاطع سابقة للكاتب

مقطع من يوميات مواطن نوبي

مقطع من يوميات شاب إنترنتّي

مقطع من يوميات ضابط شرطة مصري

مقطع من يوميات معمر القذافي

مقطع من يوميات طفلة عربية

مقطع من يوميات منقبة

مقطع من يوميات الرئيس مبارك

مقطع من يوميات مواطن عراقي

مقطع من يوميات كلب

مقطع من يوميات برلماني مصري

مقطع من يوميات جبان

مقطع من يوميات مواطن قبطي

محمد عبد المجيد

رئيس تحرير مجلة طائر الشمال

أوسلو في 5 نوفمبر 2010

Taeralshmal@gmail.com




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات