مواضيع اليوم

مقدمة مدونتي : متعة التذكر

صالح الموسى

2010-01-06 09:12:20

1

مقدمة

 

طالما سرحت مع نفسي أسألها ، هل الحاضر الذي أعيش فيه، ابتداء من أهلي وأقاربي وأصدقائي بما في ذلك معارفي والمحيط الذي ترعرت فيه، جدير بأن يُكتب ويُنشر عنه ؟ أم أن الكتابة هي حكر على الماضي بمشاهيره وأحداثه التليدة ؟ فصور التاريخ التي تدور رحاها في ذاكرتنا تختلف اختلافا جذريا عما يدور في خواطرنا في هذا الزمان، مع ذلك فلم أفلح في كبت شطحات من الحنين إلى الماضي بين الحين والآخر ! ولكننا نردد دائماً، بأن الحياة مدرسة،ونُعجب كل الإعجاب برجالها ،مهما تضاءل حظهم من التعليم، بدعوى أنهم تخرجوا من جامعة الحياة المليئة بالمواقف والعبر. لذا اخترت الكتابة عن أحداث ومواقف عايشتها وشاهدتها بعيون طازجة .

كما أن الإحساء بالنسبة لي ليست مجرد واحة نخيل ينابيعها قد شارفت على النضوب! بل واحدة من الحكايات التي أحببتها وأحبها الكثيرون من أمثالي، أبطالها رجال ونساء، منهم من يعيش بين ظهرانينا ومنهم من قضى نحبه. فمنذ فترة ويراودني إيحاء , مفاده بأن المجتمع الإحسائي بمجالسه الفريدة وثقافته المتعددة المذاهب، من الممكن أن يكون مادة جديرة بأن توضع بين دفتي كتاب.

فعندما أمضي قدما في حياتي العادية، تحت التأثير القوي للمشاهد والمواقف اليومية ، مستعينا بتأملاتي المتأنية،اكتشف مدى أهميتها بالنسبة لهذا الجيل وللأجيال القادمة. كما إنني مدرك باستحالة تدوين كل ما يدور، فالحاضر أوسع من أن تتسع له أي ذاكرة! ولكن ما أنوي الإقدام عليه أيضا هو اقتناص مواقف وعبر من أفواه الرواة محاولا تحفيزهم على التذكّر، بغرض سبر أغوار الحاضر وتجسيده عن طريق الكلمات. فمن يدري ؟ فربما تكون الحياة ودنيانا التي نعيش فيها لا تقل متعة عن الروايات والأحداث التاريخية يعززها قرب المكان والزمان. لذا وجدت من الأهمية بمكان رصد ما تهيأ لي من واقعنا اليومي الذي يزخر بالقيم والعبر وبالمرح أيضا. كما أن المرح والابتهاج الذي يبرز بين الحين والآخر في ثنايا هذا الكتاب ليس عبثيا، بل يختبئ وراءه إرث من المفاهيم والأفكار الجديرة بالاهتمام.

 


"دار الحسا وإن قيل دار فهي الدار  -  كم زبّنت مضهود وأغنت مفاقير  " الشاعر سعيد الحمالي"


 

بين ماضٍ من الزمان وآتٍ ...

لا أعلم على وجه التحديد لماذا بقيت كتب التاريخ صامتة عن الإحساء لقرون عديدة، على الرغم من أهميتها السياسية والاقتصادية، كأن التاريخ لا يزحف إليها بل يقفز عنها ! فثمة انقطاعات في التسلسل الزمني للأحداث لم تجعل مهمة المؤرخين سهلة ، فلا يمكننا  تفهم آلية عمل التاريخ إلا  من خلال الفحص الدقيق والدؤوب لماضي هذا البلد والذي  أحسبه لا يزال معلقاً. البعض يعزو ذلك إلى الصراع الدائر حولها على مر العصور، من قبل العديد من الأطراف المتصارعة والطامعة فيها، مما تسبب في اضطراب الأمن حولها و في الطرق المؤدية إليها، فربما جعل الوصول إليها أمراً صعباً لدى المهتمين بالتاريخ، وقد عبّر عن صعوبة الحالة الأمنية المبشر صموئيل زويمر عندما زارها عن طريق ميناء العجيرعام 1904 م . بينما يرى البعض الآخر من أمثال ف.ش.فيدال بأن المؤرخين الغربيين تحديداً لم يجدوا في الإحساء ضالتهم، فهم غالباً ما يبحثون عن رومانسية الصحراء القاحلة، والتي لم تكن تتوافر في واحة خضراء مثل الإحساء. بينما في حقيقة الأمر لا يمكن بأي حال من الأحوال تجاهل تاريخ ومكانة هذا البلد العريق، فمسجده التاريخي جواثا هو ثاني مسجد في الإسلام تُصلى فيه الجمعة بعد المسجد النبوي، كما شرفها الله بأن نُسجت فيها كسوة الكعبة مرتين، الأولى في المبرز عام 1217 هـ في منزل الشيخ محمد بن عبدالله الموسى والثانية في الكوت في منزل السقوفي عام 1222 هـ. فضلا عن كونها واحة غناء تُفاجئ القادم إليها من الصحراء بكثافة واتساع رقعتها الزراعية، وبينابيعها العذبة المتدفقة التي تدفع بالأنهار الجارية على الدوام في مختلف الاتجاهات، لتسقي مزارعها المنتجة لأجود المحاصيل، من تمر الخلاص والرز الحساوي والليمون والتين. ناهيك عن مركزها العلمي والأدبي فلقد كانت حقاً بلد العلم والعلماء. ايضا هذا الموزاييك المكوّن من شتى المذاهب والأعراق والذي  كان ولا يزال يعتبر  مثالاً للعيش المشترك.

كانت الإحساء بلداً تجارياً هاماً حيث كان شارع السويق عام 1928 م يعتبر أشهر شارع تجاري في شبه الجزيرة العربية . وقد اشتهرت بالزراعة وبصناعة الذهب والنسيج والفخار والحرف بأنواعها. كما ساهم قربها من الخليج الدخول في تجارة اللؤلؤ من خلال ميناء العقير التاريخي الذي يعتبر أشهر الموانئ في المنطقة في ذلك الوقت. وقد حرص عليها العديد من الفاتحين وعلى رأسهم المؤسس جلالة المغفور له الملك عبد العزيز الذي كان قد قال بعد فتح الرياض بأنه لن يهنأ له بال حتى يضم الإحساء إلى مملكته. وكانت تعتبر أهم وأكبر إمارة بعد الرياض ناهيك عن أهميتها السياسية والاقتصادية حيث كانت إدارة بيت مال الإحساء التي ترأسها الشيخ محمد بن أحمد الموسى عام 1355 هـ تمثل الرافد الأساسي لخزينة الدولة.

هذا المشهد الجميل يصعب على الكثير من المتأخرين تصديقه، فلقد تصدعت اليوم تلك الصورة وفقدت بهجتها وبريقها، نتيجة لعدة عوامل طبيعية وأخرى هي من صنع الإنسان. لم نكن أنا وأبناء جيلي لنلتفت إلى هذه اللوحة الجميلة لولا مجالستنا لكبار السن من الأقارب والمعارف ،  فبدأنا نقتنع شيئاً فشيئاً بأن الإحساء كانت جوهرة ولكن القدر انتزعها من دائرة الضوء، فزُحزحت ووُضعت على الهامش نتيجة لظروف تكالبت عليها أدت إلى صدور حزمة من القرارات تساوت فيها احتمالات الخطأ والصواب.

بالأمس القريب كانت مطمعاً لكل من لديه أحلام بالسلطة والثروة والتوسع، فلقد احتلها البرتغاليون وتشبث بها الأتراك أكثر من مرة وكانت حلما جميلا طالما راود الإنجليز، و تناحرت من أجلها القبائل وأزهقت على جالها أرواحهم، فلا غرابة فلقد كانت وبكل بساطة المكان الوحيد آنذاك في شبه الجزيرة العربية الذي من الممكن أن يعيش فيه الإنسان ويكتفي ذاتياً . وقد عبر عن اهميتها  ابن الإحساء ومؤرخ الدولة السعودية الشيخ حسين بن غنام عندما فتح الإمام سعود بن عبدالعزيز بن سعود بن محمد بن سعود الإحساء عام 1222 هـ في الأبيات التالية :


تقاسمتم الاحساء قبل منالها    -   فللروم شطر والبوادي لها شطر
تعستم فهجر دونها خطة البلى -  ودون حماها يقطع الهام والنحر
فلله فتح طبق الأرض صيته  - وهزه به البلدان وارتعدت مصر
بك الدين يا عبدالعزيز مؤيد  -  يعززه بالبيض أبناؤك الغر

ثم دارت الأيام دورتها وتغير حالها، وبدأت تأنّ تحت وطأة تلك الظروف الموجعة، نتيجة اكتشاف البترول وبروز الدمام كمنافس عتيد وبديل عنها، فلم تعد المحاصيل الزراعية تمثل رافداً يعول عليه لدى الدولة، خصوصاً بعد تدفق الذهب الأسود من تحت أرض الدمام، الأمر الذي أدى إلى نقل كرسي الإمارة منها عام 1956 مـ  إلى الدمام وكان بمثابة قاصمة الظهر لمكانتها، ومما يثير الدهشة حول دواعي هذا القرار أن الدمام في ذلك الوقت كانت مجرد مرفأً صغيراً أرضه سبخة ويقطنه نفر قليل في عشش تابع لإمارة الإحساء .

لقد حاول الملك فيصل  مواجهة تلك الظروف الحتمية لإنقاذ الإحساء من الهجمة الشرسة التي صاحبت اكتشاف النفط ، وأمر بعمل الدراسات اللازمة والتي تمخضت عن إنشاء مشروع الري والصرف، حيث أنفقت الدولة بسخاء على هذا المشروع في وقت كانت فيه إرادات الدولة متواضعة ! لقد كانت قصيدة شبّاب العتيبي أمام الملك فيصل ،  في افتتاح مشروع الري والصرف عام 91 هـ أجمل وصف لمعاناة الإحساء، علماً بأن منظمي الحفل آنذاك اعترضوا على إلقاء القصيدة أمام الملك بسبب مضمونها الممعن في الجرأة حسب رأيهم في تلك اللحظة! فاطلع عليها الشيخ محمد بن أحمد الموسى والذي قال حينها " هذا الكلام الذي يجب أن يُقال " فتدخل بجاهه لدى المسئولين وسمح لشبّاب بإلقائها وقد أعجب الملك فيصل بالقصيدة وعلى إثرها عينه في الحرس الملكي:


يا مرحبا ترحيبة ما بها ميل

حييت يا رمز الشرف والشهامه

وغنت على خضر الغصون البلابيل

وغنت على حدب الجريد الحمامه

وزال الظلام بدربنا وادبر  الليل

وجليت يا فيصل معالم ظلامه

وانت الذي لو دورا فيك ما قيل

ما حصلوا درب يجيك بملامه

وانت عنا نقلت اثقل الشيل

مبداك مبدأ عزنا والكرامه

لوكان زعلوا عابدين التماثيل 

ما للحسود إلا الردا والندامه

ما ذيل جاء راس ولا راس جاء ذيل

والحر حر والنعامه نعامه

حنا معك عقّال واجهل جهاهيل

للشر شر وللسلامه سلامه

عقّال ما نسمع كلام المهابيل

ونعرف كلام المشتبه من حرامه

كان البلاد ابها غيوم ومخاييل

وطلع لها عود عزيز مقامه

وترافق الضرغام والفهد والفيل

من شرقي البصره لغربي تهامه

والعود أرث له رجال مشاكيل

عساه في الجنه تخلد عظامه

يا هجر جاء الي لوطا الارض كالسيل

رجل اذا واعد وفاء بالتزامه

حلّال فتال محيل وحلحيل

والى  انتقظ حبل يكود ابترامه

بلدك في البلدان مجد ومحاصيل

نجد  الفقار وهجر مقدم سنامه

وتندبك هجر الي غروسه مظاليل

منكم لها النظره ومنها ابتسامه

لا الرافدين ولا بردى ولا النيل

هو نهرك الي ما يكمل جمامه

وساعدك ربي في السنين المقابيل

ولا خسر من حكم الشريعه لزامه  

(الشكر موصول لابن العم الفاضل الشيخ / رياض بن احمد الموسى على معاونتي  في الحصول على هذه القصيده وتزويدي بها كامله) 

لم أكن أشارك الكثيرين الحماس نفسه في كون الإحساء بلد مهم وجميل وأيضاً من الممكن أن يكون بلداً سياحياً، حتى قرأت مقتطفات من كتاب "السعوديون والحل الإسلامي" لمحمد جلال كشك ، والذي قال فيه أن من أبرز إنجازات الملك عبدالعزيز هو ضم الإحساء إلى مملكته باعتبار الموقع وما تفجّر عنه من نفط ومال، حتى وإن كانت مكانة الحجاز في العالم الإسلامي لا سبيل لتقديرها مادياً. كذلك الكاتب البريطاني المشهور ( روبرت ليسي) في كتابه "المملكة" الذي قال عندما ضم الملك عبد العزيز الإحساء فأنه وبكل بساطة قد ضم أهم وأغنى بقعة على وجهه البسيطة إلى مملكته . وذكر أيضاً في نفس الكتاب أن أحد الرحالة الإنجليز زارها في أوائل القرن الميلادي السابق ووجد شبهاً بينها وبين الغوطة في دمشق من حيث الأشجار والثمار وجداول المياه. ومما يعزز هذا القول اختيارها للدخول في مسابقة عجائب الدنيا الطبيعية السبع كأكبر واحة نخيل في العالم . بل أن صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان رئيس الهيئة العليا للسياحة له مقولة " من لا يعرف الإحساء لا يعرف تاريخ بلده " وهو محق في ذلك .

ولكن قدر الله وما شاء فعل , حدثت الانتكاسة فأصبح المتبوع تابعاً وتحولت الإحساء من أكبر إمارة إلى محافظة كسائر المحافظات، ومن سخرية القدر أيضا أن تتحول قرى متناثرة في الصحراء وفي منأى عن مصادر الطاقة والمياه إلى محافظات! بل إن البعض منها انهمر الحظ عليها من السماء وتحولت إلى مناطق ! وكأن سيوف القدر سُلطت على الإحساء لكي تتراجع إلى الوراء بدلاً من أن تخطو ولو مجرد خطوة واحدة للأمام؟ كذلك تم بتر شريانها الحيوي وقطع اتصالها بالبحر وبالعالم الخارجي بعد إلغاء ميناء العقير وتحويل مرفأ الدمام إلى ميناء عام 70 هـ لأسباب تضاربت التكهنات حولها . وفي ظروف غامضة اختارت أرامكو الظهران مركزاً لها عوضاً عنها متجاهلة الغوار وما أدراك ما الغوار! أكبر حقل نفط في العالم والذي يقبع تحت أراضيها .

إن الكثير من أبناء هذا البلد يكتنفهم عنت الحيرة ويتساءلون من غير أن يمتلكوا الإجابة حول الأسباب الكامنة وراء كل الذي جرى ؟ ربما البعض منهم يعتقد بأنها في يوم من الأيام سوف تنفض عن كاهلها هذا الركام وتستعيد أمجادها في القريب المنظور، بينما البعض الآخر من المتشائمين يظن بأنها عبارة عن شهاب سماوي أنطفأ وبرد وفقد نوره .

بين الحين والآخر نسمع عن أراء تشير بأصابع الاتهام وتلقي باللائمة على أهالي الإحساء وأنهم السبب في كل الذي جرى لها، من انحدار وتهميش وتخلف. حاولت مراراً أن أجرب حظي في تفسير هذه الفرضية، ثم أيقنت مؤخراً بأنها مجرد محاولة عبثية مني، وأدركت أن هذا الاتهام عبارة عن ذريعة يختبئ ورائها البعض من المسئولين لتغطية فشلهم وتقصيرهم بحق الإحساء.فأهل الإحساء قد جفت أقلامهم وتعبت حناجرهم بسبب المطالبات، والسؤال الذي يطرح نفسه هل أهالي الدمام والخبر والجبيل وغيرهم من المدن الأخرى التي اجتاحتها عجلات التنمية قد سجلت لهم أي مطالب؟ الوقائع تشير أن شيئاً من هذا لم يحدث وإنما فاجأتهم التنمية وأتتهم من حيث لا يعلمون.
 




التعليقات (1)

1 - الاحساء

طير شلوى - 2015-12-03 21:24:28

شكرا قصيدة جميلة بس فيه ملاحظة قصيدة 136 اي لم تكتمل بعد

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !