بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمدا عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وحبيبه، صلوات الله وسلامه عليه، وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، ورضي الله عن من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين... وبعد،
لقد ختم الله تعالى الرسالات بدين الإسلام ، فجاءت أحكامه وتشريعاته غاية في الحكمة، تعنى بمصلحة الفرد والجماعة، توازن بين الروح والمادة، وكان من أبرز خصائص هذا الدين، هو الدعوة إلى خلْق مجتمع متراحم متكافل متعاطف، يشعر الغني فيه بالفقير، والقوي بالضعيف، والشبعان بالجائع، والصحيح بالمريض، والكبير بالصغير، فيعيش أفراده متماسكين تماسك اللبنات في البنيان الواحد. قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ}[الصف:4].
وحمَّل الله سبحانه هذه الشريعة خاتم رسله محمدًا صلى الله عليه وسلم، الذي قال له ربه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ}[الأنبياء:107]، فقام صلوات الله وسلامه عليه، يزكي في المجتمع هذه الروح الطيبة (روح التراحم) وينادي في الناس: "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابوا.." وأعلن أن "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا"، وأن المجتمع المسلم ينبغي أن يكون كالجسد الواحد، فقال صلى الله عليه وسلم: " مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى"، وهو تمثيل بليغ منه صلى الله عليه وسلم، ولو كان حال المجتمع المسلم على هذا الحال (مثل الجسد الواحد) لشعر الكل بالبعض، كما أنك ترى الإصبع الصغير، إذا دمي أو علته قرحة – عافى الله المسلمين من كل بلاء- بكته العينان، وبث شكواه اللسان، وسعت في علاجه القدمان، وتفتحت لكلام الطبيب الأذنان.. وبات الجسد كله متيقظا متألما؛ من أجل هذا الإصبع. ولعلَّه أصغر الأصابع. وما هذا إلا لسلامة الجسد وصحته، أما إذا ركبه المرض وأصابه الشلل، فإنك تجده لا يشعر بعضه ببعضه.
وقد بشَّر الله بهذه الأمة المتراحمة في الكتب السابقة للقرآن، يقول الله تعالى: { مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ}[الفتح:29].
فالرحمة والتراحم هو أهم ما يميز هذه الأمة، فهم متراحمون فيما بينهم، أشداء على أعدائهم، قائمون بأمر ربهم ركوعا وسجودا. وجوههم تشرق بالنور من أثر السجود لخالقهم، وهم غيظ لأعدائهم، وبهجة ونور لأوليائهم.
وهذا التراحم هو الأساس الذي تنبع منه كل صور التكافل الاجتماعي في المجتمع المسلم، فأمة الإسلام هي أمة التكافل والتراحم والتواصل.
وإن من أهم الوسائل التي شرعها الإسلام تزكية وتنمية لهذا التراحم والتكافل، تشريع الصدقات والزكوات. فقد جعل الإسلام الإنفاق من أفضل الأعمال، وأجل القربات إلى الله سبحانه، بل جعلها بمثابة قرض لله سبحانه: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً}[البقرة:245]، {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}[الحديد:11].
ولهذا تسابق السلف في هذا المضمار، فعندما سمع الصحابي الجليل أبو الدحداح بهذه الآية: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} قال: يا رسول الله، وإن الله يريد منا القرض؟ قال: "نعم يا أبا الدحداح" قال : فإني أقرضت ربي حائطي ، حائطا فيه ست مائة نخلة ، ثم جاء يمشي حتى أتى الحائط وفيه أم الدحداح في عيالها ، فناداها : يا أم الدحداح قالت: لبيك ، قال: اخرجي ، فإني قد أقرضت الحائط لربي، فقالت: ربح البيع، ربح البيع.
ولما نزلت هذه الآية {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ}[آل عمران:92]، قام أبو طلحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن الله تبارك وتعالى يقول {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وإن أحب أموالي إلي بيرحاء، وإنها صدقة لله أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بخ ذلك مال رابح، ذلك مال رابح، وقد سمعتُ ما قلت، وإني أرى أن تجعلها في الأقربين" فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول الله. فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه. فيا الله كم تسابق هؤلاء فسبقوا وقعدنا.
ومن أهم وجوه الصدقات، تلكم الصدقات الجارية، التي يبقى أجرها ساريا لإنسان بعد مماته، فأهل القبور قد انقطعت أعمالهم وهم يحاسبون، وهو ما تزال ترتفع درجاته، وتتزايد حسناته، فالحمد لله رب العالمين.
وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له"[1]. وفي حديث آخر: "سبع يجري للعبد أجرهن، وهو في قبره بعد موته: من عَلّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته"[2]. وهذه الأعمال تسمى بالوقف أو الحبس، حيث يحبس المسلم شيئا من ماله، أو من ممتلكاته عليها، في سبيل الله.
وقد ساهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته رضوان الله عليهم في الوقف، فأوقف الرسول صلى الله عليه وسلم حوائط مخيريق، وأوقف عمر رضي الله عنه أرضا غنمها من خيبر، وظل الوقف ذا شأن في المجتمع الإسلامي، يحرص عليه الأغنياء وينتفع به الفقراء، حتى صار له أكبر الأثر في تنمية وتطوير المجتمعات الإسلامية اقتصاديا، واجتماعيا، وثقافيا، وحضاريا. إلى جانب المحافظة على حيوية وازدهار هذه المجتمعات.
وصار الوقف من الأشياء التي تؤكد عظمة الشريعة الإسلامية، وقدرتها على حل مشكلات العصر، فقد عُد الوقف – بأنواعه - علاجا نافعا لكثير من المشكلات، التي طرأت في المجتمع الإسلامي، التي عاشها الفقراء ومحدودي الدخل، وساهم في حلها أهل الخير من الأغنياء وأصحاب الهمم الكبيرة.
ثم إنه في العصور الأخيرة، قد ضعف الوقف، وانحسر دوره وتقهقر، وذلك لأسباب كثيرة، سوف نتعرض لها بشيء من التفصيل من خلال هذا البحث، ولعل من أهم هذه الأسباب وأعظمها، ضعف همة الأغنياء لوقف أموالهم، أو تركز النفوذ في يد مجموعة من الأغنياء الذين لا يعرفون عن هذا التشريع شيء.
ولما كانت حاجة الأمة ماسة إلى هذا التشريع الكريم (الوقف) في وقتنا الحالي، فقد عزمتُ مستعينا بالله تعالى، على الكتابة في هذا الموضوع، كمساهمة في التعريف بالدور الحضاري الذي قامت به الأوقاف في تطوير وتنمية المجتمعات الإسلامية، والتعريف بدور قطر الحالي البارز في هذا المجال، فقد كانت قطر من الدول التي عرفت للوقف مكانته، فآلت على نفسها أن تقوم بإحياء رسالة الوقف الإسلامي، وإعادة بناء دوره البناء في التنمية والإصلاح، فوضعت خطة عمل جديدة للقطاع الوقفي، واستحدثت الكثير من التنظيمات، والمكاتب المتخصصة، من أجل تطوير العمل في القطاع الوقفي، والنهوض برسالة الوقف من جديد، وكانت (الإدارة العامة للأوقاف) أحد الأجهزة الرئيسية، التي أنشئت لخدمة هذا القطاع.
ومن أجل التعريف بهذا الدور الحضاري للوقف قديما، ودور قطر في إعادة إحيائه حديثا، كان هذا البحث والذي هو بعنوان (الوقف في حضارتنا الإسلامية ودوره في المجتمع القطري المعاصر). وأسأل الله أن يكون فيه الهدى لطالبه، والنور لراغبه، وأن يكون دليلا على الطريق.
وقد صدَّرته بتمهيد ذكرت فيه مفهوم الوقف عند أهل اللغة، وفي اصطلاح الفقهاء.
ثم الفصل الأول: أحكام الوقف. وفيه مباحث:
الأول: أصل مشروعية الوقف وأدلته.
الثاني: حكمة مشروعية الوقف.
الثالث: مسارعة السلف إلى الوقف.
الرابع: أنواع الوقف.
الخامس: أركان الوقف.
السادس: خصائص الوقف.
ثم الفصل الثاني: الوقف وأثره في التنمية. وفيه مباحث:
الأول: التنمية في الإسلام.
الثاني: أثر الوقف التنموي في الناحية الدعوية.
الثالث: أثر الوقف التنموي ودوره في النهضة التعليمية والثقافية.
الرابع: أثر الوقف التنموي ودوره في النهضة الاقتصادية.
الخامس: أثر الوقف ودوره في التنمية الاجتماعية والرعاية الصحية.
ثم الفصل الثالث: تأخر دور الوقف في الوقت الحاضر. وفيه مباحث:
الأول: أسباب انحسار دور الوقف في الوقت الحاضر.
الثاني: الحاجة إلى إحياء وتطوير نظام الوقف، وما نتمناه لمستقبل الوقف.
الثالث: دور الوقف وأهميته في بناء المستقبل الحضاري للأمة.
الرابع: مجالات جديدة للوقف.
ثم الفصل الرابع: الوقف في دولة قطر. وفيه مباحث:
الأول: تاريخ الوقف في دولة قطر.
الثاني: الهيكل التنظيمي للأوقاف في دولة قطر.
الثالث: دور قطر في تثمير الأوقاف، والمحافظة عليها.
الرابع: أهم أعمال الأوقاف القطرية داخل قطر وخارجها.
ثم ختمته بخاتمة، وهي خلاصة ما أردت الوصول إليه من خلال هذا البحث..
ولا يسعني في النهاية إلا أن أقوم بالشكر الجزيل لوزارة الأوقاف، ممثلة في الإدارة العامة للأوقاف، وأخص بالذكر الأستاذ محمد الخليلي مدير العلاقات العامة بالإدارة، والذي كان له أعظم الأثر في نشأة هذا الكتاب، فله وللعاملين على إبرازه مني كل الشكر، وأسأل الله لهم عظيم الأجر.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.
عبد الله السُّكرُمي
[1]- رواه مسلم في الوصية (1631) عن أبي هريرة رضي الله عنه.
[2]- رواه البزار في (13/483)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع (3602) عن أنس رضي الله عنه.
التعليقات (0)