مواضيع اليوم

مقبرة المواهب

عبد الهادي فنجان الساعدي


انتهت الاحتفالية المقامة لتكريم أحد أعلام العراق .. وما أكثر هذه الاحتفاليات .. ذهب المشاركون في الاحتفالية إلى مائدة عامرة بألذ الأطعمة والمرطبات .. وأما أنا فقد عرجت على باب الخروج من القاعة .. يصطحبني شبح قديم يلازمني كلما عشت حالة الضياع .. وخصوصا ضياع الأيتام .. ، أنه حزني ، ذلك الشبح الذي لا يرغب أن يفارقني وخصوصا عندما نضطر لمشاركة الآخرين السير خطوات الألف ميل إلى الخلف .
صحيح أن أكرام الميت دفنه ولكن كيف ندفن ذكراه خصوصا إذا كانت ذكريات عطرة ومؤثرة في مسيرة حياة المجتمع العراقي من كتب ودواوين شعر وقصص ووثائق تسجل مسيرة العراق والأحداث الجسام التي مرت عليه .
يقول السيد هبة الدين الحسيني الشهرستاني (رحمه الله) ((خير المخلفات .. المؤلفات)) وخير ما يخلفه الإنسان الكاتب أو الشاعر .. مؤلفاته .. وقد اقترحت على الكثير من المؤسسات وفي الكثير من المناسبات أن يكون التكريم الحقيقي بان تطبع مؤلفات الفقيد الذي نريد تكريمه .. وخير التكريم هو المقرون بالوفاء الحقيقي الذي يخلو من دموع التماسيح والخطب العكاظية.
أن الوفاء يكون بطبع مؤلفات الكاتب او الروائي او الشاعر كمجموعة كاملة وهذا فيه عطر الذكرى واحتضان عائلة الفقيد واعمام الفائدة للاخرين وحينها سيموت الكاتب من دون ان يلتفت الى الخلف "وفي نفسه شيء من حتى" .
وقد شمل التكريم بعض الشخصيات الثقافية العراقية التي عاشت الغربتين .. غربة الروح .. وغربة الوطن، احتفلت بها المؤسسات الأجنبية والعربية .. أما نحن هنا فقد كانت السلطة تزيد من شد الحبل على خناق الأهل والأحبة في الوطن .. ترى لماذا كانت المؤسسات الأجنبية والعربية تكرم اولئك العراقيين؟!! لقد ساهموا بشكل فعال ومتميز في مسيرة الحضارة العالمية وذلك برفدها باعز ما عندهم .. وهي الكلمة التي كانت تخرج من القلب بمباركة العقل العراقي الذي يحمل جينات حضارة عمرها سبعة الاف سنة .
ولقد اطلعت على بعض تلك المؤلفات الرائعة في زمن الاستنساخ والممنوع فكانت بحق مساهمات متميزة في البناء الحضاري .. لقد كررت الاقتراح السابق باعادة طبع مؤلفات كتابنا العراقيين الذين يحملون جواز الغربتين لكي يشعروا بان دموعهم وماسيهم لم تكن قبضة ريح .. انما هي وثائق رائعة تدين الجاني وتساعد في ترميم البنية التحتية لاخلاق الناس التي دمرها تاريخ من الاستبداد .
لقد اعترض الكثير من المسؤولين على هذه المقترحات بان الارهاب يستنزف كل موارد البلد .. وأن مثل هذه الاقتراحات مكلفة .. وترهق الميزانية العامة او بالاخص ميزانية وزارة الثقافة .
ونحن بدورنا نقول: هناك طريقتان لتنفيذ هذا المقترح .. الأولى هي التي عملت بها أحدى المؤسسات الأوربية الطباعية الصغيرة التي استطاعت أن تعيش وتستمر في بحر الطباعة ووسط حيتان الشركات الطباعية وذلك بفضل خطتها وهي عدم رفض أي مطبوع ولكن بالمقابل لا تطبع اكثر من الف نسخة حيث ليس لديها مخازن لحفظ المطبوعات وليس لمديرها سكرتيرة .. وقد اختزلت الكثير من الخدمات المالية لكي يخرج المطبوع محدود العدد ومناسب السعر جدا والفضل في ذلك لسياسة المؤسسة الطباعية والتخطيط العلمي المسبق .. وعندما يلاقي احد تلك المطبوعات النجاح وينفد من السوق .. يعيدون طبعه بعد نفاد الكمية المطروحة في السوق وذلك لعدم الابتذال في الطرح وقد نجحت التجربة بشكل لافت للنظر .
الطريقة الثانية هي الطبعة الشعبية من حيث الورق (ورق الصحف) والغلاف جميل ورخيص وهذه التجربة ماخوذة عن الطبعات الشعبية في مصر التي كانت سائدة في اعوام الستينيات من القرن الماضي وقد ساهمت في اغناء المثقف المصري خصوصا والعربي عموما ويذكر ذلك جيلنا والاجيال التي قبله ، اذ أن هذه الطريقة بدأت في مصر بعد ثورة 23 يوليو تموز 1952 وهي طريقة ماخوذة من تجارب الكثير من الدول الثورية والحركات السياسية الثورية التي تطبع نشرياتها الثقافية بهذه الطريقة ويذكرنا ذلك بمطابع النجف الاشرف ورباعية المرحوم الكاتب الفذ (شمران الياسري) (أبو كاطع) ... تلك الرباعية التي نزف فيها كل تجربته الفذة وضمنها كل جمالية الريف العراقي، وحبذا لو التفتت احدى التنظيمات التقدمية العديدة الى هذه الرباعية لاعادة طبعها بدلا من كيل التهم والمزايدات على الشعارات المريضة بفقدان الذاكرة . وما المني اكثر .. أن نكرم المرحوم شمران الياسري (أبو كاطع) وننشر صوره من اقطاب الثقافة التقدمية العراقية دون أن تلتفت تلك الاقطاب التي تمسك بزمام القيادة وتتصدى لطبع ذلك الاثر الرائع دون أن تذرف الدموع على الصور الحميمية المنشورة لترينا ماسينا في قتل العظام من ابناء شعبنا والبكاء عليهم بدموع التماسيح .
لقد حاولت اعادة قراءتها ولكنني لم اجد النسخ كاملة لغرض اعادة التقييم وبالرغم من كل ذلك فانا اعتقد بان هذه الرباعية لابد أن يعاد طبعها وترجمتها الى بعض اللغات الاجنبية لانها تحمل بذور العالمية .. فهي رواية في اربعة اجزاء ، محلية، شديدة الالتصاق بالارض، شديدة التعبير عن العلاقات الاجتماعية والانسانية، وعندما تقرأها تجد انك تغور في الطين مع الفلاحين الذين يزرعون الرز وبمواجهة الريح العاتية مع زارعي الحنطة والشعير من اقنان الارض المستعبدين وهي تؤرخ لنشوء الاقطاع والتحولات الاجتماعية العديدة التي عصفت بالمجتمع العراقي الفلاحي ، وكلما استذكرت قسما من هذه الرباعية اكاد اخرج من جلدي غيظا لاننا فرطنا بكاتب يملك كل هذه القدرات التقنية العظيمة وكل هذه المواهب الروائية العالمية ولم نقف بينه وبين حتفه الاثم .
هل حقا أن العراق "مقبرة المواهب" كما قالها السيد هبة الدين الشهرستاني لأخي حينما كنا صغارا وسأله أخي ((سيدنا ما هو العراق)) لقد دهش ذلك الرجل العظيم لفطنة هذا الصبي واجابه بعد حين ((العراق يا ولدي مقبرة المواهب)) انها كلمة قاسية ومؤسية في نفس الوقت .. ولكن هل آن لنا ان ندحضها بالفعل وليس بالقول ؟؟؟




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !