المشروع الثقافي ودعم الكتاب العماني
أ.د. حسني محمد نصر
صباح ذلك اليوم استمعت إلى رقم غريب ذكره احد مقدمي برامج (التوك شو) المعروفين. الرقم كان صادما إلى حد كبير لدرجة أنني لم انتظر حتى اذهب إلى عملي وسارعت إلى الدخول إلي شبكة الانترنت لأفتش عن الإصدارات الإسرائيلية والعربية وأتأكد من صحة ما قاله مقدم البرنامج وهو صحفي ورئيس تحرير احدى الصحف العربية اليومية المستقلة ، وبعد قليل من البحث وجدت بالفعل ان إنتاج إسرائيل من الكتب يصل - كمال قال الصحفي - إلى 17 ألف كتاب ، وهو ما يفوق إنتاج كل الدول العربية مجتمعة من الكتب ، ويمثل ضعف ما تنتجه مصر من الكتب في العام الواحد.
في طريقي إلى العمل كان الخاطر الذي يلح علي هو لماذا تأخرنا كثيرا – كعرب- في نشر الكتب رغم اننا عرفنا المطابع الحديثة في وقت مبكر من تاريخ النهضة العربية الحديثة ؟ ولماذا تبقى أعداد إصداراتنا متدنية إلى هذا الحد المخجل الذي يعادل أو قد يقل عن ما تنتجه الدولة اليهودية المغتصبة التي لا يتجاوز عمرها الستين عاما ، ولا يتجاوز عدد سكانها الملايين الأربعة ويتحدثون لغة لا يفهمها سواهم في العالم. فكرت في إعداد ورقة علمية عن أسباب تراجع صناعة الكتاب في العالم العربي ثم تضاءلت الفكرة بمرور الوقت وفي ظل حجم أعباء العمل اليومية المتزايدة إلى مجرد كتابة مقال حول هذه المفارقة الصادمة حين يتوفر الوقت.
بهذا الكم من الإحباط الذي بدأت به يومي جلست لأطالع صحف اليوم ، وإذا بي – لحسن الحظ- أقف أمام حدثين مهمين يتصدران الصفحات الأولى من صحف السلطنة اليومية الأربعة الناطقة باللغة العربية ويصبان في نفس ما كنت أفكر فيه. أول ما خطر على بالي هو ان الله هيأ لي مطالعة الصحف في الصباح بدلا من المساء كعادتي في الآونة الأخيرة حتى لا استمر محبطا مما سمعته من الصباح. فالحدثان جديران بان يحيلا إحباطي إلى تفاؤل وان كان تفاؤلا حذرا. هداني تفكيري إلى القول ان هذين الحدثين في هذا التوقيت بالذات يمثلان في رأيي تطورا مهما من الناحية الثقافية. الحدث الأول هو توقيع اتفاقية تصميم مجمع عمان الثقافي ، والثاني الذي تم في نفس ذلك اليوم هو الإعلان عن البرنامج الوطني لدعم الكتاب. ويأتي هذان الإنجازان ليمثلا إضافة نوعية للانجازات التنموية ، خاصة ان أولهما يمثل حلما طال انتظاره وتتويجا للعمل الثقافي في السلطنة ، إذ كانت فكرته - كما قالت صحيفة عمان - قد بدأت في مطلع ثمانينات القرن الماضي ، إلا أنها لم تتبلور في الواقع وظلت حلما لجميع المثقفين حتى جاءت المباركة السامية لتصاميم المجمع الثقافي الذي سيقام على مساحة 400 ألف متر مربع وبتكلفة مبدئية تبلغ 45 مليون ريال.
ورغم ان الإعلان عن مشروع المجمع الذي نشر الفرحة والارتياح في الأوساط الثقافية هو الحدث الأكبر بالنظر إلى التكلفة والحجم والآمال المعقودة عليه ، إلا ان المشروع الثاني الذي يتعلق بدعم الإنتاج الوطني من الكتب لا يقل أهمية عن إنشاء المجمع الثقافي. بل انه يُعد حجر الزاوية الذي لا غنى عنه ليس فقط لإثراء الثقافة في عمان ، وإنما أيضا لإثراء المجمع نفسه. فالإنتاج المعرفي الذي تعتزم لجنة البرنامج الوطني لدعم الكتاب البدء فيه سيكون احد مصادر تعزيز دور هذا المجمع وتأكيد تميزه.
من هذا المنطلق أرجو ان يسمح لي القراء الأعزاء ان أتوقف اليوم أمام بعض ما جاء في المؤتمر الصحفي الذي عقدته لجنة دعم الكتاب وأعلنت خلاله رصد مائة ألف ريال كموازنة مبدئية لطباعة ونشر مائة كتاب في مختلف حقول المعرفة في الثقافة والفكر والسياسة والاقتصاد والعلوم. وبداية فإننا نثمن هذه المبادرة البناءة التي ستضع السلطنة على خارطة النشر العربية من جديد وتضخ دماء جديدة في صناعة نشر الكتب ، خاصة وأنها تعيد الدولة ومؤسسات المجتمع المدني إلى واجهة هذه الصناعة بعد ان تخلى عدد كبير من الدول العربية في السنوات الأخيرة عن مسؤولياته في مجال النشر الثقافي والأدبي تاركين المجال أمام القطاع الخاص الذي عجز - كما هو واضح من تدني عدد الإصدارات - عن تعويض الغياب الرسمي في هذا المجال. والواقع ان تدخل الدول في صناعة النشر ودعم الكتاب سيكون في المستقبل هو الضامن لاستمرار بقاء الكتاب الورقي ليس في دول العالم النامي فقط ولكن في الدول المتقدمة أيضا ، بعد ان حاصرت وسائل الإعلام الجديدة الكتاب من كل جانب وأدخلته في منافسة غير عادلة معها على الإطلاق.
ومع ذلك فإنني أرى ان المبلغ المرصود لدعم الكتاب في السلطنة لإزال محدودا جدا ولا يلبي الطموحات خاصة ونحن نعلم ان تكاليف النشر قد تضاعفت مع زيادة أسعار الورق والأحبار والطباعة في العالم كله. كما ان العدد المأمول نشره من الكتب عبر هذه اللجنة وهو مائة كتاب يبدو قليلا خاصة وان اللجنة لم تحدد المدى الزمني الذي ستصدر فيه الكتب المائة.. ورغم ذلك فان رقم المائة يعد بداية جيدة من شأنها ان تمثل فارقا وتحولا كبيرا خاصة إذا علمنا أن أخر أرقام متوافرة لدي منظمة اليونسكو تشير إلى ان عدد الكتب التي صدرت في السلطنة في عام 1996 كان سبعة كتب فقط.
وبعيدا عن الأرقام والميزانيات والطموحات التي يجب ان تتضاعف ، فان الجهات واللجان القائمة على دعم صناعة الكتاب في السلطنة على وجه خاص وفي العالم العربي بوجه عام يجب ان تضع في الاعتبار مسايرة المستحدثات التكنولوجية الجديدة في هذه الصناعة الاستراتيجية. إذ من الضروري ان يغطي المشروع الجديد بعض الأشكال الجديدة من الكتب ، وعلى رأسها الكتاب الالكتروني الذي أصبح بديلا سهلا ورخيصا للكتاب الورقي خاصة مع انتشار استخدام شبكة الانترنت من جانب وتوافر أجهزة الحاسب الآلي وقارئات الكتب الالكترونية من جانب آخر. وعلى هذا فان اللجنة يجب ان تستغل الإمكانيات التي يتيحها النشر الالكتروني للكتاب وان تضع مهمة إصدار نسخ الكترونية من الكتب التي تنوي إصدارها ضمن أجندتها المستقبلية. كذلك من الضروري في هذه المرحلة ان نستوعب ما مرت به صناعة الكتاب في الدول المتقدمة من مراحل تطور مهمة لم نصل إليها بعد. ومن هذه المراحل مرحلة الإتاحة الواسعة للكتاب لأكبر عدد ممكن من القراء من خلال إصدار الكتب الرخيصة الثمن خاصة ذات الأغلفة الورقية ، والتوقف مؤقتا عن إصدار الكتب ذات الأغلفة السميكة والملونة توفيرا للنفقات. وكذلك الاتجاه إلى إصدار كتب الجيب التي تناسب فئة الشباب ولا تكلف كثيرا. ولا بد للجنة ان تفكر ايضا فى إصدار الكتب المسموعة ليس فقط للوصول إلى المعوقين بصريا ولكن أيضا للوصول إلى مختلف الفئات من الجماهير التي يمكن ان تستمع إلى هذه الكتب أثناء قيادة السيارات.
لقد أحيت لجنة دعم الكتب الأمل لدي المثقفين في عمان وفي الوطن العربي كله، وبقي أن تتعاون الجهود العربية في هذا المجال لإحداث نهضة عربية شاملة في صناعة الكتاب.. حتى لا يأتي اليوم الذي تلومنا فيه الأجيال القادمة لأننا لم نترك لهم سوى غابات من الأبنية الأسمنتية في عالم يتجه سريعا إلى اقتصاد المعرفة والى عصر قد يفوق فيه سعر المعلومة الواحدة سعر برميل النفط بآلاف المرات.
التعليقات (0)