كل "استقلال" والعرب بخير بقلم - باسل طلوزي
الضريح.. والضريح الآخر!
باسل طلوزي
يتحدثون في تونس عن الشهيد الشاب الذي أسقطه رصاص "زين الهاربين" بن علي، في مدينة "سيدي بو زيد"، فواروا جثمانه الثرى، إلى جانب ضريح أبيه، الذي كان قد سبقه إلى الشهادة، وهو يصارع الاستعمار الفرنسي!
ضريحان لشهيدين، أحدهما سقط برصاص الاستعمار، وآخر سقط برصاص "الاستقلال"، والمفارقة أوضح من أن يفسرها أحد!
ترى على ماذا كان يراهن آباؤنا وهم يقاومون الاستعمار؟.. وأيهما كان أقبح: الاستعمار أم الاستقلال؟
والسؤال الأهم هنا: لو كان آباؤنا يقرأون المستقبل، فهل كانوا سيحملون السلاح في وجه الاستعمار، أم كانوا سيفضلونه على "الاستقلال"، خصوصا إذا كان ثمن الاستقلال عن هذا "الاستقلال"، هو فلذة أكبادهم؟
والدولة التي كافح من أجل استقلالها والد شهيد "سيدي بو زيد"، من أجل أن يعيش فيها ابنه بحريته وكرامته، هي الدولة، نفسها، التي سطت على حرية ابنه وكرامته، وأخيرا على حياته بأكملها بعد "الاستقلال"!
وعلى غرار هذين الشهيدين، ما تزال ثمة أضرحة أخرى تفغر فاها لاستقبال شهداء جدد، يوارون إلى جانب آبائهم، في عديد من أقطار "الاستقلال" العربية، التي تدخل مخاض الكرامة من "أوجع" الأبواب!
أتساءل، حقا، لماذا خُطفت ثورات الاستقلال العربية، وحدها، على هذا النحو الجماعي، من دون سائر الثورات الأخرى في بلدان العالم؟.. فالثورات الأوروبية، والأميركية، مثلا، أنتجت بلدانا حضارية مزدهرة، قائمة على احترام الإنسان وحقوقه وكرامته، أما ثوراتنا، فما كانت إلا امتدادا مشوها ومضاعفا للاستعمار نفسه، لم يتباين فيهما غير لون البشرة، فقط، أما التنكيل والتعذيب، وأما هدر الكرامات والدماء، وأما الزنازين والأقبية، فظلت هي ذاتها، في المراحل الأولى، ثم ما لبثت أن تفاقمت واتسعت، وأضيفت إليها "عبقريات" قمع أخرى، في مراحل "الازدهار"، تكشفت بعض فصولها، في ثورتي مصر وتونس الأخيرتين، حين رأينا سيارات "الاستقلال" وهي تعتلي أجساد المتظاهرين، كما نشهد فصولا جديدة لها في مناطق "استقلال" أخرى، أبطالها مروحيات ومدفعيات، ومرتزقة أفارقة، يبدو وكأنهم جُلبوا أطفالا، وربوا على شراسة القتل والفتك، من أجل يوم كهذا اليوم فقط!
ولعلي أراهن الآن، بأن ثمة فصولا أخرى ستظهر لاحقا، في عبقريات "الاستقلال" الجديدة، مما لا عين مثقوبة رأت ولا أذن مقطوعة سمعت، وكأني بدول "الاستقلال" العربي، منذ "تحررها"، لم تعكف طوال سني حكم ساستها إلا على بناء أجهزة القمع، وأدوات الفتك والتنكيل، فهذه "المنجزات" هي وحدها التي ازدهرت، وذاع "صيتها" في ربوع العالم، بأسره، وأما منجزات البناء والتطور والتنمية والتحديث، فتلك "ترف" لم تعره أنظمة "الاستقلال" بالا، لأنه كان سيشغلها عن مهماتها "المقدسة" في الحفاظ على "خلودها"، إلى ما بعد يوم القيامة!
ويبقى أن ثمة في كل الأرجاء العربية ضريحين للأب والابن، للجد والحفيد، للسلف والخلف، للشهيد وابن الشهيد، لأن شوط الحرية العربي، وحده، مقدر له أن يظل أطول الأشواط قاطبة، فمن مخاض إلى مخاض، ومن إرهاص إلى إرهاص، ومن ضريح إلى ضريح، ومن دم إلى دم، ومن فجر كاذب إلى فجر أكذب، ومن نظام فاسد إلى نظام أفسد، ذلك أن هناك، دوما، لصوص ثورات، سرعان ما يتحولون إلى لصوص "ثروات" عقب "الاستقلال"، لأنهم يتقنون تحويل ركب الثورة عن مساره، باتجاه قصورهم وحاشيتهم، ويعتلون أكتاف الشهداء، ليهتف لهم الأحياء، ويحيلون الاستقلال إلى "استغلال"، وما إن يتنبه "الأحياء" للفخ الذي وقعوا به، حتى تكون الأضرحة قد فتحت حفرها، واستحكمت حلقاتها!
هناك بين ضريحي "سيدي بو زيد"، القديم والجديد، تلاشت المسافة بين شهيدي "الاستعمار" و"الاستقلال"، وهناك بين الأب والابن يكتمل الحوار الذي احتاج إلى قرن دموي كامل لتتضح فصوله، فقد استشهد الأب مطمئنا وهو يردد: "لا حرية من دون استقلال"، ثم تمدد الابن إلى جانبه وهو يردد: "لا استقلال من دون حرية"!
وكل "استقلال" والعرب بخير!
التعليقات (0)