مسكين أنت يا وطني ، لقد أصبح وضعك مدعاة للشفقة عند البعض وللتشفي والسخرية عند البعض الآخر. يشفق عليك أحباؤك وهم قليلون ، ويتشفى فيك أعداؤك وهم كثيرون دون أن يكون لشعبك أي ذنب في تدني مستواك بين الأوطان .
بمقهى المشكاة رمى عمر الجريدة بعنف تحت الطاولة بعد ما قرأ عناوينها العريضة وتأفف بمرارة قبل أن يشعل سيجارته ثم قال لصاحبه بتشنج :
- إنها جرائد اليأس يستحسن أن لا يقرأها الإنسان في الصباح أو لا يقرأها بالمرة ، فأخبارها تسد النفس عن الرغبة في الحياة ..
فأجابه علي وقد تعددت ألوان ملامح وجهه :
- ياك لا باس ..؟
قاطعه بانفعال شديد وهو يشير بسيجارته للجريدة :
- جرائدنا وإعلامنا كله ،( عموميا ) كان أم حزبيا أو( مستقلا ) ، يتعمد دغدغة مشاعرنا في كل وقت وحين وكأنه عون مساعد لأعداء وطننا في الخارج حيث يقوم مقام إعلامهم بين ظهرانينا بعدما نصب نفسه منذ بدايته عدوا للشعب ووكالة إشهارية لأعدائه في الداخل : لقد تجاوز سني نصف قرن ولم يسبق لي أن رأيت المغرب ضعيفا مثل ما هو حاله اليوم . حتى التاريخ الذي درسناه في المدارس لم يذكر وضعا مزريا عاشه المغرب منذ أن قام كما هو وضعه الآن .. حتى في أيام " السيبة " ـ الحرب القبائلية أو الأهلية ـ كان حاله أفضل مما هو عليه اليوم حسب روايات الأجداد ، واستعماره قديما وحديثا لم يكن بالسهل حسب النصوص التاريخية والروائية .. بالله عليك ، يا أخي ، ما هذا الوضع المذل الذي أصبحنا نعيشه في منطقة لم يكن فيها من الأبطال غيرنا ؟ .. في الستينيات والسبعينيات كم مرة رأيت الأسبانيين يتسولون في طنجة وتطوان والحسيمة والناضور .. وحتى في قرى مقدمة الريف . كانوا يعيشون في الشمال بين المغاربة على كرمهم وحسن معاملتهم لهم ولم نسمع ولا مرة أنهم تعرضوا للاستفزاز أو لسوء المعاملة أو للطرد .. كانوا يفضلون الهجرة لبلدنا على أن يهاجوا إلى أشقائهم الأوروبيين ، رغم عدائهم التاريخي والفطري لشعبنا ، كما أسر لي أحدهم ذات مرة في مدينة بني نصار على أعتاب مليلية السليبة . واليوم ، وبعدما " شبعوا خبزا " وستروا عورتهم ، لم يقتصر خبثهم علينا فوق أرضهم بل أصبحوا يهاجموننا في ديارنا وعلى أرضنا التي عاشوا فوقها من خيراتها بالأمس القريب معززين مكرمين ويجتهدون اليوم في استنزافها :
لقد أصبحت مياهنا مصايد خير لهم وحماما لأوساخهم ونقمة علينا ، ومدننا وكرا لفسادهم وشعبنا عبدا ذليلا لهم بعدما كان سيدهم .. أتذكر ، يا صاحبي ، ما سمي بقضية جزيرة ليلى ؟ أتذكر كيف تعملق علينا أثنار وأذنابه ، وبتآمر مريب مع ( أشقائنا ) الجزائريين ، واستضعفونا وأذلونا ؟ أتذكر كيف كان موقف بلدنا ضعيفا وكيف كان رد فعل حكومتنا ؟ أتذكر جيدا كم كان تصريح وزير خارجيتنا حول الموضوع مدعاة للسخرية والدموع كادت أن تنزلق من عينيه ، وكيف قبلنا بالأمر الواقع وسلمناهم السلة والعنب معا بأحر القبلات وهربنا بجلدنا وعدنا بعد أيام لمعانقتهم والتمسح بتلابيبهم كعادتنا .. أتذكر قبلها وبعدها ما فعلوه بمواطنينا وخضرواتنا فوق أراضيهم ، وكيف كان موقف حكومتنا ونحن نتجرع مرارة مشاهد رفس طماطمنا وهدم مساكن مواطنينا وبهدلتهم بأبشع أساليب العنصرية والكراهية .. جريدتنا هاته ( الواسعة الانتشار ) من بين أخبارها المشؤومة ، كما هو حال كل جرائدنا ، خبر يقول : صحيفة إلمندو الاسبانية قالت " إن سبتة ومليلية مدينتان إسبانيتان قبل أن توجد المملكة المغربية .." . وطبعا جريدتنا ( الواسعة الانتشار ) اكتفت بإبلاغنا الخبر ولم يكن لها رأي .. فإعلامنا الرسمي يبتلع عذابنا وكل ما يغدق علينا به أعداؤنا من ألوان الإذلال والكراهية ويبحث في أعماق مستنقعاته النتنة عن أخبار التوسل والتسول ، وجرائدنا تكتفي بأخبار تمزق أحشاءنا وكأنها ليست مغربية .. أما إعلامهم بمختلف منابره وتوجهاته مثله مثل شقيقه الجزائري لا هم له غير ملاحقة عدوه اللدود الشعب المغربي ولا يترك أية مناسبة تمر دون أن يعمل على تمريغ كرامته في الوحل .. قاطعه صاحبه بصوت منخفض ونبرة يائسة وكأن الأمر جد عاد ولا داعي للإنفعال :
- لا تحرق أعصابك ، كل الشعب تعود على الانحدار والاندحار وهذه هي ثقافة حكامنا وقد زرعوها في نفوسنا منذ أن طردنا الاستعمار .. فالسلطويون والسياسيون يستأسدون على الشعب ويتفننون في تعذيبه بإداراتهم وأجهزتهم الأمنية وإعلامهم المنافق ويتقزمون أمام خبث الأقزام ويذرفون الدموع على أعتابهم حفاظا على أرائكهم وخزائنهم . على شعبنا أن يتأهب لما هو أسوء فالعداء الذي يكنه الإسبان لنا منذ قرون كذاك الذي يكنه الشيطان للإنسان وما إعلامهم وأجهزتهم الأمنية إلا مرآة لنفوسهم الخبيثة وقلوبهم الطافحة بالحقد والمكر والضغينة كما هو حال أشقائهم الجزائريين منذ انعتا قهم . فالمغرب أصبح بالنسبة للإسبان والجزائريين ، ومنذ عقود ، ثورا سمينا أعمى لا قرون له يتناوب على مصارعته ساستهم وعساكرهم – بالصدقات تارة وبالصفعات تارة أخرى – لتحقيق رهاناتهم الداخلية ، السياسية والاقتصادية ، وطبعا العيب في نفوسنا التي تجهل ثقافة ديننا وأجدادنا . وبهذا يثبت علينا قول الشاعر : إذا أنت أكرمت الكريم ملكته // وإن أنت أكرمت اللئيم تمرد .. فلو طبق حكامنا ، ولو مرة واحدة ، مثل أجدادنا ( الأميين ) : كبرها تصغا ر ، وكما يفعلون مع شعبهم ، لما استمر تكالب الأعداء علينا من كل جانب وفي كل الأوقات . فحكوماتنا عوض أن تعتذر وتتساهل وتسيايس وتنصف شعبها وتستعمل شيئا من جرأة وصرامة أجدادنا مع الأعداء نراها تمارس العكس ، إذ لو كانت شهرت سيف علي في وجه الجزائريين بداية السبعينيات حينما طردوا آلاف المغاربة شر طرد بعدما جردوهم من ممتلكاتهم وما تلا ذلك من دسائس وممارسات عدوانية عوض مجاملتهم وإرضائهم حتى على الميادين الرياضية والتوسل إليهم بكل أساليب المهانة وفي كل المناسبات لما وصل بهم الخبث إلى اقتناص مواطنينا على الحدود ، ولما تآمروا مع الإسبان على وحدتنا الوطنية في الشمال قبل الجنوب ، ولما أكالوا لنا كل أصناف الإهانات والشتائم والتهديدات وسيبقوا كذلك ما دمنا كذلك . ولو كانت حكوماتنا صارمة مع الأعداء منذ الاستقلال وحاصرتهم داخل أسوار سبتة ومليلية وضيقت عليهم الخناق البري والبحري ، والسياسي والإقتصادي والثقافي – حتى وإن متنا جوعا – لما هدموا مساكن مواطنينا وعاملوهم معاملة خسيسة ، ولما استأسدوا علينا واستضعفونا وأذلونا وطردونا من جزيرة ليلى ، ولما حاكوا المؤامرات جهرا وسرا ضد وحدتنا الترابية . لو كانت لحكامنا الجرأة الوطنية وفي قلوبهم حبة خردل من حب الوطن وروح المواطنة الصادقة وتابعوا الأعداء الإسبان والجزائريين ومن يدور في فلكهم ومن يناصرهم ومن يساعدهم بشتى الوسائل والأساليب ، ولو لم يتستروا على جريمة أعداء الشمال تحت أي ذريعة في ملف حرب الريف والأسلحة الفتاكة التي استعملوها والذي أثار غيرة أشقائهم قبلنا وقبل أشقائنا وأحدث ضجة إعلامية دولية لما تجرأ قاضيهم باسم الديموقراطية على اتهام بعض من ألئك الذين تستروا على جرائمهم بارتكابهم جرائم في جنوب البلاد ولما أذلونا بزيارة خوان كارلوس ، رمز حقدهم علينا ، لسبتة ومليلية في الوقت الذي استقبلناهم في مراكش بالأحضان والتمر والتملق ، كعادتنا معهم ومع كل من يرضى بزيارتنا وابتلاع خيراتنا واستعبادنا ، ولهم علم اليقين أن حكومتنا لا حول لها ولا قوة غير التأسف ، ولما وصل بهم حقدهم لتجنيد شعبهم باسم الديموقراطية ـ كما عاهدناهم دائما - لإذلالنا أمام أعداء الشرق والجنوب .. لو كان في قلوب وعقول حكامنا شيء من الروح الوطنية والشجاعة الفكرية لما أذلوا شعبهم بتوسلاتهم للجزائريين لأجل فتح حدودهم لنا بل لأقاموا عوض ذلك جدارا فولاذيا ينطح السحاب يشطب وإلى الأبد على انتمائهم لنا حتى وإن بشرنا بجنتنا فوق أراضيهم ، لو كانت لحكامنا القوة السياسية لحرقوا تاريخ إسبانيا وحلفائها بملفاتها السوداء ذات الصلة بأراضينا وشعبنا و لفتتوا جغرافيتها بحركاتها الانفصالية وبأسلوبها ، و لأطاحوا بعنترية عساكر الجزائريين بملفاتهم المتهالكة ذات الصلة بحدودنا الشرقية المحتلة وبمنطقتهم القبائلية الشديدة الانفجار وبجرائمهم في حربهم الأهلية . فبالله عليك ، يا أخي ، هل سمعت يوما من خلال الذاكرة التاريخية أو الشعبية أو الإعلامية المعاصرة بشعب حرر وطهر أرضه وكرامته بالتأسف والشجب والإدانة والاعتصامات والوقفات ... ؟؟
لقد سلب منا الإسبان وأشقاءهم أراضينا ومياهنا ونمنحهم أبناءنا وكرامتنا على أمواج البحر ونهرب إلى بنوكهم أموالنا فكيف بهم يرحموننا ؟
إن اسبانيا أثنار ومن سبقه وتلاه مثلها جزائر بومدين وبوتفليقة ، يا صاحبي ، هي اسبانيا الماضي البعيد والحاضر والمستقبل ولا فرق بين ألوانها . فالاسبان الذين تسولوا في طنجة وتطوان .. والجزائريون الذين تسولوا وتعلموا الشجاعة في فاس و وجدة .. سلكوا نفس النهج العدائي لشعبنا الذي آواهم من الحر والبرد وأطعمهم من جوع ..
رد عليه صاحبه وقد هدأ غضبه :
- أين هي ، إذا ، دبلوماسيتنا وأين هو جيشنا وأين هي أجهزتنا الأمنية وأين هي أموالنا .. ؟؟؟ أين الملايير المكتسبة من الضرائب ومن نفائس الأرض والبحر ومن عرق المهاجرين وبيع أملاك الشعب ، والقروض والمساعدات والمنح والتسول ..؟ بالمناسبة كنا قد سمعنا منذ مدة طويلة أن لجنة دولية تكونت للبحث في مصير أموال إغاثة الحسيمة والتي يقال أنها بالملايير جاءتنا كمساعدات من أشقاء وأصدقاء ومنظمات دولية بعدما تبين لهم أن أموالهم لم تظهر على الأرض ..
ابتسم صاحبه وأجابه باستهزاء :
- وأين هي الملايير المسروقة من صناديق الشعب وأين .. وأين وبلا نهاية . المغرب ضعيف بين قزمين ، يا صاحبي ، ليس بضعف موارده المالية أو جيشه أو شعبه بل هو ضعيف بضعف سياسييه وعسكرييه وجشع كل من تسلط على حقوق الشعب ، واسبانيا والجزائر يدركان أن سرطان الفساد ينخر جسدنا السياسي والإداري والاقتصادي والعسكري والأمني وسيظل ضغيفا حتى وإن فاضت أرضه وبحاره بالذهب والفضة إذا لم نطهر نفوسنا قبل أجسادنا .
أفرغت في جوفي ما تبقى من القهوة في عمق الفنجان دفعة واحدة والتحقت بعملي ، لأفاجأ بمذلة أخرى من مذلات حكامنا حينما تراجعوا كعادتهم عن موقفهم المتصدع في ملف أمنتو حيدر واستسلموا لمؤامرات أعدائنا في الشرق والغرب ، وبقي عمر وعلي يناقشان ويحللان أحوال وأوضاع بلدنا على طاولة المقهى في ركنها الخلفي ...
- محمد المودني . فاس .
التعليقات (0)