في شهر أبريل من سنة ألف وتسعة مائة وواحد وستين أعطى الملك الراحل الحسن الثاني ، وهو في ريعان شبابه ، انطلاقة بث إذاعة فاس الجهوية لإرسالها من مقرها الجديد ( حينها ) وحيثما زالت شامخة إلى اليوم تعلو بصوتها القوي فوق كل الأبراج السكنية والتجارية التي أحاطت حديثا ببنايتها المتواضعة ، وتسمو برسالتها الوطنية والإنسانية فوق كل الأصوات .. سنوات طويلة إذا مرت على إقلاع إذاعة فاس الجهوية عبر دبدبات أمواجها المحلية وعلى دبدبات الأمواج الوطنية من مقرها الحالي ليكون عمرها اليوم عقودا من عمر الإعلام الوطني .
فمع بداية الربع الثاني من سنة 2012 تكون المحطة البسيطة بشكلها ، العملاقة بعملها ومنتوجها قد قطعت مسافة خمسة عقود من مسيرتها الإعلامية في ظل الاستقلال الوطني مرصعة بأنبل وأعظم العطاءات والإنجازات والإبداعات تجاوزت كل قدراتها وطاقاتها .. فرغم قلة إمكانياتها البشرية وبساطة وضعف تلك اللوجستيكية والمادية وقصر فترة إرسالها وضيق مساحة حريتها ، باعتبارها جزء من الإعلام العمومي منظبطة بما يظبطه فقد حققت نجاحات إعلامية ( إخبارية وثقافية وفنية ورياضية .. وأكاديمية ) مبهرة بأطر شبه هاوية من صحافيين ومنشطين وتقنيين وإداريين وفنانين بلا شواهد وبلا تكوينات ، ولا تحفيزات ولا تعويضات وبرواتب جد زهيدة .. أطر بلا تأطير أبلت البلاء الحسن في إنتاجاتها ، سعدت وأسعدت بحبها لعملها وعاشت بفقرها وسعادتها رغم قساوة زمنها ، وغادرت لا تلوي إلا على حب جمهورها .. فمن حق إذاعة فاس الجهوية اليوم وعلى المدى القادم من الأجيال أن تفتخر بأطرها العملاقة بهوايتها من قبيل أحمد الريفي والعابد السودي القرشي وأحمد الأزمي ومحمد الإدريسي وعلي الوزاني ومصطفى الذهبي وامحمد العزاوي وادريس الهواري وأحمد الشجعي وامحمد بزوبع ومحمد بزوبع وعبد الكريم كنون وعبد الحي الصقلي .. وكل من سبقهم ومن عاصرهم ومن حمل مشعلهم من بعدهم من خريجي الجامعات والمعاهد الذين تأطروا في رحابها وأصبحوا خير خلف لهم ، جلهم شباب طموح وشغوف بعمله يثابر في صمت بجد ونكران للذاة فلمع نجمهم على أمواجها بنهجهم نهج أسلافهم ليكونوا أفضل قدوة لمن سيأتي في ركابهم ومن بعدهم .
بنجومها المتوارية والقائمة والصاعدة واكبت وما زالت إذاعة فاس الجهوية كل الأحداث الوطنية قبل الجهوية بل حتى القارية والإقليمية السياسية والاقتصادية منها والثقافية والفنية والرياضية والاجتماعية حيث أغنت خزانة الاذاعة الوطنية قبل خزانتها بالعديد من الأعمال التاريخية في كل هذه المجالات : فبصماتها كانت ومازالت قوية لا يمكن إلغاؤها أو حتى تجاهلها في مسيرة الوحدة الترابية ، وفي المؤتمرات والتجمعات العربية والإفريقية التي احتضنتها مدينة فاس وجهتها التي كانت تبدأ من مدينة مكناس ومحيطها إلى تازة والحسيمة نزولا إلى الراشيدية وخنيفرة عبر يفران وبولمان .. وكانت صوتا وفيا وناجعا لجامعتي فاس حيث لعبت دورا رئيسا في نشر أنشطتهما الجهوية والوطنية والدولية وعلومهما بمختلف شعبها وعرفت بكل فطاحلة علمائها وأساتذتها .. وكانت منبرا قويا للعديد من المفكرين والأكادميين والفنانين المغاربة على الصعيدين الجهوي والوطني . ففظلها لا حدود له على الكثير من الشخصيات السياسية والفكرية والفنية والرياضية لا يتسع المجال لذكر أسمائها ويكفي أن نذكر بعزيزة جلال ومحمد الكغاط وبهلول .. ولحسن الداودي ومحمد الأعرج وأحمد فطري .. كما استضافت العديد من عمالقة الفن العربي كأم كلثوم وعبد الحليم حافظ وفائزة أحمد ، وجل الفنانين المغاربة .
وهكذا ، ودون أن نطيل في قراءة تاريخ إذاعة فاس الجهوية الذي هو من اختصاص المتخصصين ، وعلى ضوء ما ذكرناه علينا أن نقر جميعا أن هذه المحطة العتيدة التاريخية التي كان صوتها لعقود طويلة يتعدى حدودها الجهوية ليروي كل التراب الوطني بل كانت دبدباتها تتجاوز إفريقيا وأروبا الغربية والعالم العربي حيث كانت برامجها تصلها رسائل من مستمعيها في الهند والباكستان كما كان يروي بعض روادها القدماء ممن ذكرناهم . محطة كانت وما زالت وستبقى منبرا وطنيا وهاجا غير مكلف كان يستحق التكريم منذ عقده الأول وعلى مدار كل عقوده ، والاعتناء به على مدار السنة والعقود . لكن ومع الأسف الشديد وبعد التحول الذي عرفته مؤسسة الإذاعة والتلفزة الوطنية قبل سنوات وعوض أن تكافأ المحطة على نضالها الإعلامي ولو بالحد الأدنى من الاهتمام فرض عليها النكران والإهمال واللامبالاة من قبل كل الفاعلين الذين خدمتهم مجانا خدمة للوطن بكل تفان واقتدار . ورغم ذلك الجحود القاسي حافظ طاقمها من إدارة وموظفين بشجاعة واستماتة على توازنها واستمرارية عطائها بتوجيهات ناعمة سلسة وإن تخللتها في بعض الأحيان ارتدادات خشنة ناتجة عن سوء الفهم وتردي الأوضاع ولكنها على قساوتها كانت مبررة بغاياتها وصحية بيسر تدبيرها سرعان ما تربع بعدها الحب على كل القلوب وعلت الابتسامة الوردية كل الوجوه وأصبح الاجتهاد المفيد والتنافس الشريف بروح وطنية هما معولا كل العاملين وانخرط الجميع ، كل من موقعه ، في الخلق والإبداع على كل الواجهات لغاية واحدة ووحيدة لا مجال للتأويلات قبلها وبعدها ولا لبس حولها وهي تحقيق منتوج إعلامي جهوي يلامس هموم وطموحات كل شرائح المجتمع الجهوي برؤية وطنية متكاملة قاعدتها الانفتاح ومسايرة إيجابيات الركب الحضاري دون التفريط في الهوية والتاريخ مع التشبث بالأخلاق المغربية والإنسانية .. فهاهي اليوم تثور ، في ذكراها الذهبية ، على الإهمال والنكران والاستهجان وتنفض عنها غبار النسيان ببساطة إمكانياتها وشجاعة وعبقرية شبابها وتنجز ما لم ينجز عنها لترد لنفسها الاعتبار بتشريح تاريخها على الطاولة الوطنية رافضة بذلك انتظار التفاتة متواضعة قد تكون بالترحم عليها .. فهي أقوى وأرقى من أية شهادة ومن أي تكريم من أي كان لأن الوطن قام من هنا .. من حيث هي منذ ما يزيد عن اثنا عشر قرنا وساهمت في ترسيخ وحدته واستمراريته بالشيء الكثير ..
وهكذا وعلى هدي أسلافها اهتدت إدارة المحطة التي هي خريجة رحابها و جزء من تاريخها في سابقة من نوعها ودون تعليمات ( حسب علمنا ) إلى فكرة أقل ما يقال عنها أنها كانت وستبقى جبارة بتحدياتها رامت تخليد الذكرى الخمسينية لانطلاق بثها من موقعها الحالي . وما أن اقترحت الفكرة على كل العاملين من صحفيين وتقنيين وإداريين وفنانين في اجتماع حصري حتى استحسنها الجميع وأبدى كل في موقعه ، رغم الإكراهات والصعوبات ، حماسا كبيرا وتلقائيا لتشخيصها وتنفيذها بل لسنها حيث تحولت من مجرد فكرة إلى مشروع طموح وعملاق شارك الجميع في وضع خريطته بتفاصيلها ومفاصلها قائمة على الماضي والحاضر والمستقبل .
تخليد إذاعة فاس الجهوية لذكراها الذهبية والاحتفال بمناسبتها لم يكن ظرفيا ولا شكليا ولا دعائيا بتعليق المصابيح الكهربائية الملونة والصور واللافتات وتوزيع الحلويات والمشروبات وكل النعم وإشعال وإطفاء الشموع وتبادل الهمسات والابتسامات واللمسات بل كان ومازال وسيستمر احتفالا جوهريا وعمليا غنيا بإنتاجات حية وحيوية في قالب وطني معاصر أعادت قراءة تاريخ هذه المحطة العتيدة عبر ميكرفوناتها وعلى أمواجها وبكفاءاتها الشابة الواعدة وباستحضار روادها ونجومها وإنتاجاتهم وإبداعاتهم الخالدة ..
لهذه الغاية كان لزاما عليها أن تثور على وافعها الإجباري المرير حيث تجند كل العاملون بالإرادة والعزيمة والطموح كشخص واحد في نسق محكم لا يكلون ولا يملون ، يعملون بلا حدود زمنية ولا جغرافية ولا رقابية في إطار رحب مدخله وسقفه ضمير مهني وطني وأخلاق فاسية إسلامية أصيلة .. فكانت بداية ثورة إبداعية عظيمة لمحطة بسيطة انطلقت من ذكراها الذهبية على واقع غير منصف .
لقد كان الاحتفال ومازال وسيستمر – بعون الله وبطاقات وعزيمة طاقمها - مشروعا إعلاميا عملاقا بعفويته وتلقائيته وغايته وتواضع إمكانيات المحطة نتمنى صادقين أن يكون بداية حسنة لانطلاقة جديدة وجيدة لإعلام جهوي فعال ومن خلاله لإعلام وطني أجود يشفي بجودته غليل كل المواطنين ويعيدهم لوطنهم لتكون بذلك إذاعة فاس الجهوية ، وكما عهدها المغاربة منذ انطلاقتها ، مهدا لإعلام وطني حر وصادق كما كانت فاس مهدا للعلم وللعلماء وأنارت بأنوارها الروحية والفكرية كل الوطن وكل العالم الإسلامي .. إنها كانت ومازالت وستستمر خطوة جبارة ببساطة أدواتها تستحق التقدير والتنويه ويستحق مبدعوها ومنتجوها الشكر والثناء .. على أقل اعتراف .
ـ محمد المودني -فاس .
- أبريل 2012 .
التعليقات (0)