ـ محمد المودني ـ فاس – ( فبراير 2008 )
رغم أن للسياسة معنى واحدا متفق عليه لم يختلف حوله اثنان إلا أن مفاهيمها وصفاتها تعددت واختلفت باختلاف التوجهات الفكرية وتقاطع المصالح الذاتية بين الأفراد والجماعات . كل المفكرين والدارسين والمهنيين والهواة من كل الثقافات أجمعوا على أن السياسة في اللغة هي الرعاية ، وفي الاصطلاح هي رعاية شؤون الأمة داخليا وخارجيا أمرا ونهيا بما تقتضيه مصلحتها . لكن اختلافهم حول أصلها وصفتها كان عميقا تولدت عنه صراعات فكرية ومادية فردية وجماعية مدمرة منذ زمن بعيد وستظل قائمة ما دامت مسببات الاختلاف قائمة :
فهناك من نعتها بفن إنساني قديم ، وآخرون قالوا عنها إنها تقليد ثقافي توارثته الأجيال من خلال الممارسة اليومية ، وطائفة أخرى قالت إنها حكمة من حكم الأديان السماوية ، وفريق قال إنها علم وضعي حديث ، وآخر سماها بالعمل الخسيس والدنيء لا علاقة له بالتقاليد والثقافات البشرية ولا يمس الأديان السماوية بصلة ولا بالعلوم المعاصرة .
بعد الإجماع على المعنى الوحيد الشامل للسياسة والاختلاف حول أصلها ومفاهيمها وصفاتها نحاول أن نلامس الحقيقة الضائعة بينهما لنستشف سر هذا التناقض بما يتطلبه الرأي من نفس روائي تسلسلي قد يصيب وقد يخطيء ، وحتى نقطع الشك باليقين نعود إلى مهد الكلمة ونحاول ربطها بمحيطها الطبيعي في ماضيها البعيد وحاضرها المطل على المستقبل : إذا ما اعتمدنا قاعدة الارتباط فالسياسة هي مهنة أو هواية السياسي يمارسها في شتى الصور ، والسياسي كلمة مشتقه من كلمة السائس ، والسائس هو من يقوم برعاية الخيل وترويضها ، بمعنى أن السياسي هو الراعي والمروض ، لذا فالمعنى اللغوي الأصلي للسياسة هو الرعاية والترويض .
وحسب السنن الطبيعية فالرعاية والترويض لا يقتصران على الخيل فحسب بل يشملان كل الكائنات الحية ، فالإنسان الذي هو من يسهر على رعاية وترويض الخيول وكل الحيوانات وحتى النبات هو نفسه بحاجة للرعاية والترويض في كل مراحل حياته . والرعاية هي الإشراف على شؤونه والحفاظ عليه وعلى سلامته وراحته وتسييره تسييرا محكما حتى ينمو ويترعرع وتستقيم حياته ، وأما الترويض فهو تعليمه وتلقينه ما لا يعلمه وما لا يقدر عليه حتى يفيده ليفيد غيره . وهكذا يكون الإنسان بحاجة لسياسي أو راع يسوس أو يرعى مصالحه القريبة والبعيدة ، لذا فالرعاية والترويض أو السياسة هي الإشراف على مصالح وشؤون الناس وقيادتهم أفرادا أو جماعات فيكونون ، في تجمعاتهم ، هم الرعية أو الأمة ويكون الراعي أو السياسي هو الزعيم أو القائد . واستنادا لما تقدم يكون المعنى الأصلي للسياسة – من ساس يسوس سياسة - في الاصطلاح هو : رعاية شؤون الأمة أو الشعب الداخلية والخارجية بالأمر والنهي والتوجيه حسب ما تقتضيه مصلحته الشاملة تمارسها الدولة من خلال الرعاة أو السياسيين أفرادا أو جماعات ويحاسبها بها الشعب .
إذا آمنا بنظرية أصل الأشياء جذورها فالسياسة من أصل السائس جذورها من جذور الإنسان والخيل وكل الكائنات ذات الصلة كانت منذ أن قامت الحياة على الأرض ، فهي إذا عنصر أساسي من عناصر الحياة البشرية لا حدود لها في الزمن والمكان والكم والنوع .
من هذا التحليل الرمزي للسياسة وتاريخها نستنتج أنها فن ذهني إنساني نبيل لكونها ترويض ، ومسؤولية وقيادة لكونها رعاية ، ترتكز على الموهبة والذكاء في قراءة الماضي والحاضر والمستقبل والدهاء والصدق في الممارسة والأداء ، ليست فئوية في شموليتها ولا تقصي أحدا ممارستها والاستفادة من خدماتها حق طبيعي من حقوق الإنسان قبل أن تصبح في زمننا علما تعددت شعبه ومذاهبه .
من ألف السياسة إلى يائها يمتد سؤال مسن خفيف على اللسان ثقيل على كاهل الأجيال :
هل كان للديانات السماوية اهتمام بها كما اهتمت بكل الدنيويات الإنسانية ؟
الإجابة على هذا السؤال الموقوة يحتاج إلى التجرد الروحي والمادي وإلى العقل الرياضي ، وللعلماء الأجلاء الصادقين من كل الديانات إلى الرأي السديد الشافي فيه .
لكن – ولكن هنا لابد منها – هذا لا يحد من عمومية وشمولية الرأي وإلا سنعود إلى من حيث انطلقنا ونسلم بما كان وما زال :
غالبية البشرية – وحتى لا نقول كلها – تؤمن بعظمة وقوة خالق ومسير الكون وهو الله جل جلاله ، ومن مفردات هذا الكون العظيم الأرض وما حملت ، بطلها الإنسان أوجده الله عليها ليوحده ويعبده أولا وينعم بخيراتها ثانيا ويبدع بعقله ثالثا ، وأحبه ونور بصره وبصيرته حين رزقه عقلا ميزه عن كل المخلوقات ويسر حياته بقوانين فطرية وأخرى منزلة .
فالأولى أبدعها عقل الإنسان القديم بعدما اكتسب مبادئها بالفطرة فسنها لنفسه لتكون نهجا لحياته وتوارثتها الأجيال من خلال الاحتكاك والمعاملات من بينها ممارسة السياسة .
والثانية شرعها الله عز وجل لعباده ، من خلال أديانه السمحاء ، في كتبه المنزلة على أنبيائه ورسله الذين نشروها بينهم بالنص والممارسة لتكون الإطار العام لحياتهم كما يحبها ويرضاها لهم . فأقرت ودعمت أو قننت أو صححت البعض من الأولى أو حرمت وألغت بعضها الآخر .
قد نختلف حول مدى أهمية هذه الديانة أو تلك ومصداقية أو زيف كتبها بحسب قصر علمنا وتفاوة نسبة إلمامنا وفهمنا ، وتردد علماء الأديان الأجلاء في الإجماع أو الاختلاف بين المذاهب الروحية والمادية ، لكننا لا ولن نختلف قيد أنملة حول حب الله للإنسان وتفضيله له على كل الكائنات وحول أهداف رسالاته التي جاء بها أنبياؤه ورسله وهي توحيد كل الناس بتوحيده وتعظيمه وبنشر الحب بينهم ليعيشوا جميعا بعقل واحد وقلب مشترك يحاربون الشيطان مصدر الشرور في كل صوره ليعم الخير كوكب الأرض .
وبما أننا مسلمون فتقاليدنا وثقافتنا وقوانيننا البدائية تطورت مع مجيء الإسلام واستمدت شرعيتها من تعاليمه السمحة على اعتبار أنه دين شامل لكل أمور الحياة . وككل الديانات السماوية فالإسلام منهج إلهي حدد أركانه وثوابته القرآن الكريم والسنة الشريفة ، منهما إستنبطنا قانون حياتنا وطريقة تسيير شؤوننا الفردية والجماعية بموازنة عادلة من بينها رعاية شؤون الأمة أو الشعب بمعناها البدائي والحديث. ولكون السياسة من أصل السائس هي رعاية شؤون الأمة في معناها التقليدي الشامل وفن نبيل بصفتها البدائية فإن الدين الإسلامي لم يختلف عن ذلك في تفسيرها ووصفها بل أقرها ودعمها وشجعها بعدما حدد أخلاقياتها خلافا لما كانت عليه في الجاهلية .
فمن الناحية التنصيصية على شرعيتها وردت بخصوصها العديد من الأحاديث النبوية بذات المعنى . فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( كانت بنو إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وأنه لا نبي بعدي ، وستكون خلفاء فتكثر ، قالوا : فما تأمرنا ؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم فإن الله سائلهم عما استرعاهم )) رواه مسلم ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته)) . من هذين الحديثين الشريفين نستخلص أن السياسة قديمة قدم الإنسان وهي رعاية شؤون الرعية أو الأمة أو الشعب ، فيكون تعريفها المتقدم في - المعنى والصفة - تعريفا شرعيا . وقال صلى الله عليه وسلم : ((من أصبح وهمه غير الله فليس من الله ، ومن أصبح لا يهتم بالمسلمين
فليس منهم )) رواه الحاكم ، وقال عليه الصلاة والسلام : (( ما من عبد يسترعيه الله رعية لم يحطها بنصيحة إلا لم يجد رائحة الجنة )) ، وقال عليه السلام : (( ما من وال يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاش لهم إلا حرم الله عليه الجنه )) . ومن الناحية التطبيقية فقد كان للممارسة السياسية النبوية الأثر العظيم في نشر الدعوة الإسلامية . فانتشار الدين الإسلامي بشكل ملفت للنظر وقيام الدولة الإسلامية واتساع قاعدتها في وقت قياسي لم يعتمد على القوة العسكرية أو الاقتصادية ، ولا بالتحايل والنفاق وإنما كان بالصدق والوفاء ونبل الأخلاق والإقناع والذكاء والدهاء ، وحسن الرعاية والترويض . وهذه حقائق لا يستطيع أحد نكرانها فهي واضحة وبينة لكل دارس للتاريخ الإسلامي ولا تحتاج لأي مجهود فكري أو مادي . فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم مرشدا دينيا وأستاذا علميا ومروضا اجتماعيا وخبيرا اقتصاديا ، وزعيما سياسيا محنكا وقائدا عسكريا : وحده حمل راية الإسلام غريبا ولم يلق ربه إلا بعدما رفعتها ملايين السواعد وقلوبها تخفق باسمه ، إنها السياسة الطبيعية بمعناها الإنساني والفني النبيل التي قامت مع قيام الحياة وتوارثتها الأجيال بالفطرة بشتى المفاهيم . هذه السنن النبوية الشريفة التي تحث المسلمين بالنص والممارسة على الاهتمام بمصالحهم والنصح فيما بينهم وتلزم الحكام وأفراد الرعية أو الشعب بأداء مهامهم السياسية في الحكم والمحاسبة على أحسن وجه كما يحبه الله ويرضاه جعلت من السياسة الإيجابية الأصيلة عنصرا من عناصر الشريعة الإسلامية . والدين الإسلامي عقيدة وشريعة لا يمكن فصلهما ، فإذا كنا مسلمين اعتقادا يجب أن نكون مؤمنين شريعة ، بمعنى أن تصبح الشريعة واقعا في حياتنا بما فيها السياسة الإيجابية التي تسوي بين كل الناس في الحقوق والواجبات خلال كل مراحل حياتهم وعبر كل العصور . وهكذا يتبين لنا أن الإسلام اعترف بالسياسة الإيجابية الأصيلة واهتم بها وأقرها لكونها رعاية وترويضا وحد من وحشيتها، وجعلها من السنن المؤكدة في تشريعاته ، وحث المسلمين على ممارستها من خلال الاهتمام بشؤونهم الفردية والجماعية وإسداء النصح لبعضهم البعض ، وأمر الرعاة أو القادة السياسيين برعاية أفراد الأمة أو الشعب وإدارة أمورهم حسب الأحكام الشرعية .
نستنتج من كل ما سبق أن الدين الإسلامي لا يتعارض مع السياسة ولا مع الديمقراطية بمعنييهما الصحيحين القديم والحديث بل كان السباق إلى إقرارهما وتشريعهما . فقد جعل من السياسة السليمة حقا شرعيا - كما هي حق طبيعي – من حقوق كل الناس ، وهذه هي روح الديمقراطية المطلقة ، وحدد أخلاقياتها مثلها مثل كل المعاملات البشرية تقوم على الإخلاص والصدق واحترام حق الغير حتى وإن كان هذا الغير من غير المسلمين ، وحرم عليها المكر والخديعة والنفاق في المعاملات مع الأهل والجيران والأصدقاء وحتى مع الأعداء . وكما تقدم فكل الديانات السماوية مناهج إلهية جاء بها الأنبياء والرسل للإنسانية جمعاء لا يمكن أن تختلف في شموليتها لكل أمور الحياة بما فيها السياسة الإجابية ، وهكذا يتضح لكل من له قلب بشري وعقل سليم أن السياسة الأصيلة التي أبدعها عقل الإنسان القديم وزكتها كل الديانات الإلهية هي ركن أساسي من أركان الحياة النظيفة القائمة على العدالة الإلهية واستمرارها لا أداة دمارها .
إذا آمنا بهذه القاعدة الطبيعية والدينية لحقيقة السياسة لغة واصطلاحا وصفة وتاريخا – كما تقدم - فما هي حقيقة تعدد الاختلافات حول مفاهيمها وصفاتها ، ومسببات الصراعات المدمرة التي قامت وما زالت باسمها بين الأفراد والفئات والمجتمعات ، وأشعلت حربا ظالمة دائمة بينها وبين الأديان الإلهية تحرق غصون الحياة وتقتلع جذورها حتى أصبحت أول وآخر شر ابتليت به الإنسانية ؟ الجواب على هذا السؤال المزمن يستلزم الصدق والإقدام :
لكون الرعاية والترويض أو السياسة مسؤولية وقيادة ، في معناها الطبيعي الأصيل ، كانت عملا إنسانيا يستمد شرعيته من غايته النبيلة وهي إسعاد البشرية وفي معناها الديني عملا شرعيا يستمد غايته من أهداف الرسالات السماوية وحاجيات الأمة وهي توحيد وعبادة الله ونشر عدالته بين الناس في كل أمور حياتهم وتحقيق مطالبهم المشروعة : في كلتا الحالتين هي سلطة معنوية وروحية ومادية يمارسها الراعي أو السياسي – بتفويض من الرعايا - على الرعية أو الأمة بميزان الحكم العادل ، لهذا لم تكن وقتها النزاعات والصراعات قائمة بين الأفراد والجماعات .
لكن مع تكاثر الإنسان وتطور أسلوب حياته وتضخم حاجياته المادية والمعنوية واتساع قاعدة شهواته ضعفت نفسه أمام صور الشيطان فنما في قلبه الحب المادي وسلبت الأنانية عقله وانتشرت في دماغه أورام الجشع ، وتولدت في عمقه رغبة السيطرة والامتلاك ، فكانت يد الشيطان إليه هي السلطة التي يسرت له تحقيق أطماعه الشاذة باعتبارها زعامة وقيادة فتحولت بذلك من عمل إنساني وديني لكونها سياسة في معناها الأصيل إلى أداة شيطانية تشعل نار الفتنة والصراعات بين كل الناس وتدمر الحياة غايتها الحكم والاغتناء لكونها سيف الراعي أو الحاكم أو السياسي مسلط على رقاب الرعايا أو المحكومين . وهكذا تحولت السياسة من فن ذهني نبيل وخدمة إنسانية ونهج ديني إلى وسيلة لامتلاك السلطة والثروة وسلب حقوق الناس ، فأمست نهجا شيطانيا يحارب الخير الذي قامت من أجله ، فكان من الطبيعي جدا أن تصبح السلطة أو السياسة مصدر صراع دائم بين الأفراد والفئات والمجتمعات يفوز بها أقوياء المتصارعين . بهذا فقدت السياسة شموليتها في الممارسة والاستفادة وأصبحت فئوية تقتصر على الأقوياء والوجهاء فتولد لدى عامة الناس شعور بكرهها ونبذها مما أدى إلى تشتت وحدة الإنسانية وانقسام المجتمعات أفرز معه فئات وطبقات اجتماعية متناقضة المصالح والمباديء وهو ما نتج عنه تعدد واختلاف المذاهب المادية ومن خلالها الفكرية ومن بعدها الدينية . هذه هي حقيقة تعدد الاختلافات حول أصول ومفاهيم وصفات السياسة رغم وحدة معناها اللغوي والاصطلاحي ، الحقيقة القاتلة للحياة التي يرفض المختلفون الاعتراف بها وأدت الحب في قلوب الناس وأنجبت مكانه عداء مستداما قامت على أطرافه حروب طاحنة بين الفئات والطبقات والمجتمعات ، فتولدت في نفوس البسطاء منهم رغبة الانسلاخ من الهوية ونزعة الانفصال عن الأصل .
بهذا تكون السلطة والثروة من أعظم مفسدات الدين والسياسة ، وأخطر دمارا للحياة البشرية بعقل وقلب المنافقين المتدينين والسياسيين المزيفين على حد سواء .
- محمد المودني – فاس . ( فبراير 2008 )
التعليقات (0)