يبدو لي أن من أكثر إشكاليات الدراسات الفكرية والنقدية الحديثة المتعلقة بتناول موضوع غربي- نشأة وتصورا- تكمن في تحديد المصطلح، والتخلص من النظرة الاستباقية القائمة على الإسقاط والتسرع، من خلال إطلاق أحكام تعد مسبقا للمحاكمة دون اعتمادها على التمحيص والمقاربة النقدية الجادة.
ولعل موضوع الحداثة، وما رافقها من تصورات ومناهج فكرية وأدبية معاصرة قد وقعت تحت هذا الإشكال، المبني على الإسقاط المسبق، حينما قرر كثير من متناوليها الإسلاميين- أن يحاكموها قبل أن يتعرفوا على حيثياتها وأبعادها الفكرية والثقافية والأدبية، ومنطلقاتها في كل ذلك؛ على اعتبار أنها منتج غربي، يستند إلى قراءات لا تنطلق من التصور العقدي الإسلامي، مما يوجب رده، والتنفير منه، وبيان مخاطره، ورفض منطلقاته جملة وتفصيلا.
الإيديولوجية
ومن هنا، اخترت كلمة (إيديولوجية)، ولم أختر كلمة عقيدة ليس رغبة- مني- في التغريب الثقافي المبني على استخدام لغة (العدو)ـ والتفاخر بها، بل كي لا أقع في متاهات (التصور الشرعي) الذي لا أعتقد أني قادر على مواجهته بصفتي التخصصية العلمية..
و(الإيديولوجيا) كما يعرفها أصحابها (كارل مانهايم): منظومة الأفكار العامة السائدة في المجتمع([1]). أي أنها رؤية عامة، قد تصدر عن تصور غيبي، أو عن تصور بشري مادي، وقد تكون متوارثة أو مبتدعة.
هذا المنطلق الفكري- بمفهومه العام البسيط- يجعلني أقف على عتبة المصطلح النقدي دون التغول في جدلياته، مما يسمح بتجنب ما وقع فيه كثير من الإسلاميين وهم يحاكمون الحداثة باعتبارها عقيدة دينية. ولا أحب أن يحسب هذا مني تمجيدا للحداثة، أو تنظيرا لها وقبولا لفلسفتها، أو حتى سلخها عن معينها العقدي الذي افترضه كثير ممن قصدتهم في إشارتي؛ بل أعني : أنَّ دراسة موضوعية تصر على مناقشة المصطلح، وتبحث عن إشعاعاته،وتسبح في فضاءاته الدلالية تكون أكثر مصداقية من قراءة سريعة متعجلة هدفها أن تقول كلمة في آخر السطر: الحداثة كفر.
الحداثة
مصطلح الحداثة لا يقل جدلية عن مصطلحات أخرى مرادفة له؛ فإذا ما تجاوزت مادة حدث اللغوية التي تقدم هذا المصطلح من خلال نقيضه اللغوي أي :القديم ؛نكون قد ولجنا باب الفلسفة لا اللغة؛ أما لغة :فقد جاء في معجم العين: الحديث هو: الجديد من الأشياء ([2])، لكن الإشكالية الاصطلاحية -وهي سمة عصرية خصوصا إذا ما ربطناها بالترجمة وما رافقها من عبث دلالي، وعدم دقة في النقل - ستحكم هذا التناول، وتجعل الدال اللغوي مجرد معبر شكلي لا بد من تجاوزه والقفز عليه، لنلج معابر أخرى، دلالة تاريخية وفلسفية على وجه التحديد.
تاريخيا، علينا أن ننتقل إلى عصور التنوير؛ حيث استقت الحداثة بذور تشكلها الأولى من الفلاسفة الرواد: (نيتشة) و(كانت) و(ديكارت)، ثم من الأدباء (بودلير) و(مالارميه) و(أرنولد) وغيرهم..
الحداثة وفق الرؤية الفلسفية:-
قلت: إن التصور اللغوي لن يضيف جديدا إلى المصطلح الفلسفي المتعانق تعانقا ازدواجيا مع المستويين: الأسلوبي والدلالي؛ أي الشعري والفكري، ومن هنا؛ فإن محاولة تحديد دقيق للمصطلح ستبدو عبثية في ظل فوضى الاصطلاح.
أما الالتباس والغموض الذي يحدثه هذا المصطلح، فإنه يقع ضمن دوائر متعددة منها :الزمني، ومنها اللغوي، ومنها اشتراكه مع مصطلحات أخرى متداولة كالتجديد والتحديث والعصرنة.
ولعل في هذه الثلاثة مقارباتٍ دلاليةٍ، تحكم كلها بالدال الزمني. وهي فوق هذا وذاك مصطلحات عامة، تقع مع كل جيل؛ فكل جيل يخلف جيلا، فهو مجدد وعصري ومحدث أو حديث .
ولكننا نستطيع آن نضع تصورا لمفهوم الحداثة بعد آن نسلخه من دلالته التاريخية ـ ليقع ضمن دائرة الرؤية الفلسفية الفكرية، وهنا سنقع على دلالات من نحو:المغايرة، والمغايرة تعني مغايرة كل ما هو تقليدي وماضوي ووحدوي.
غير أن مصطلح المغايرة يحمل دلالة فضفاضة وغائمة، مما يجعلنا ندخل مرة أخرى في جدلية الحداثة وفوضويتها وإيديولوجيتها .ونقول إيديولوجيتها؛ لأننا لا نستطيع أن نفصل أي مصطلح غربي عن بعده الإيديولوجي، بل إن المناهج الفكرية والأدبية الغربية كلها مرتبطة بتصورات عقدية وسياسية، وفي هذا يقول تيري إيغلتون: إن تاريخ النظرية الأدبية الحديثة جزء من التاريخ السياسي والإيديولوجي على نحو لا يقبل الانفصال([3])
ولعل من حق قارئي أن يقول: وما الذي فعلته أيها الدكتور!؟ إنك لم تقدم جديدا في تناولك للمصطلح فما فضضت اشتباكا، ولا فسرت غامضا، ولا جليته. أقول: هذه الفوضوية جزء مهم من مشكلات التصور الحداثي، والضبابية التي بدت في المعالجة ضبابية حقيقية، لا تسمح بفض اشتباكها؛ فالحداثة كمنطلق تتسم بهذه السمات مجتمعة: فوضوية، تشتت، مغايرة، عدم انضباط. ولعل الانتقال من التناول الاصطلاحي إلى تناول التصورات سيزيل هذه الضبابية.
الرؤية الحداثية
انطلقت الرؤية الحداثية من تصورات ثلاث، شكلت تداخلا اشتباكيا في مدارسها، وفرضت نوعا من الضبابية والتناقضية في تلمس دلالاتها، والتصورات هي: الذاتية، والعدمية، والعقلية. وسأعرض لها في الأسطر القادمة.
لكنها تاريخيا ارتبطت بعصور التنوير الغربية، واستقت من ينابيعها الأولى، مع أن كلمة تنوير تحيل إلى ثلاث مدارس مختلفة؛ التنوير البريطاني ذي الرؤية الأخلاقية في التحليل، بينما تنطلق المدرسة الفرنسية من رؤيتها العقلية، أما المدرسة الأمريكية فقد بقيت رهينة التصور المادي الاقتصادي في التحليل.
ولن أتكئ على هذه المحاور في تناول الظاهرة الحداثية؛ لعلة بسيطة؛ هي: أن هذه المدارس لا تشكل إجماعا يعتمد عليه في تحديد ماهية المدرسة الحداثية الكلية؛ بيد أني سأشير إلى ثلاث رؤى تشكل أعمدة أساسية في الفكر الحداثي الأوروبي:
أولا- الرؤية الذاتية للكون
وأولى هذه المنطلقات تتمثل في الروية الذاتية للكون، فالذاتية تمثل أولى المفاهيم التي تشكل قاعدة الحداثة الفلسفية؛ يقول فيتو: الحداثة هي أولوية الذات، انتصار الذات، ورؤية ذاتية للعالم.([4])
فالذاتية من خلال منطلقها الرؤيوي تنظر إلى الكون باعتباره حقلا مملوكا لاستكشافاتها، مما يسقط حجب القداسة عند التلقي المعرفي، فبعد أن كان الإنسان يستجيب للمعرفة، باعتبارها مادة جاهزة ومسخرة، أصبح يسخر قدرته الذاتية في الاستكشاف المعرفي، معطيا هذه الذات إمكانية التأويل والعبث التفسيري، مسقطا وراءه كافة التفسيرات (الميتافيزيقية) التي كانت تخفف من أعباء التفسير للكون باعتباره أثرا من آثار الخالق المتحكم به.
هذا النفي لارتباط الكون بالألوهية أسقط فرضيات كثيرة، وأتاح للعقل البشري المحدود التجريب غير المنضبط في التأويل، ومن هنا، نشا التفسير العدمي لهذا الكون، والذهاب بعيدا إلى عالم قلق.
وإذا أردت أن أكون أكثر دقة قلت: إن هذه الذاتية تعد نتاجا طبيعيا للفلسفة الديكارتية، فالعصور الحديثة بعد ديكارت شهدت تغيرا في الرؤية والمنظور بحيث غدا الإنسان هوالمتكلم الحاضر الذي ينظر إلى الكائنات الأخرى ويتمثلها، فيستمد يقينياته من ذاته، وليس كما كان من قبل، حيث كان يستمدها من تعاليم عقدية أو سلطوية.([5])
ثانيا- النظرة العقلانية
إذا كان ديكارت قد مهد للرؤية الذاتية؛ فإن (لايبنتز) يعد أول من أسس للرؤية العقلية الفلسفية، والفلسفة العقلية تنطلق من مبدأ لكل شيء سبب معقول([6]) وتعتمد النظرة العقلانية على مبدأين:
1. مبدأ التناقض، وهو أن نقول: إن الادعاء كاذب إذا احتوى على تناقض, وإنه صحيح في حال العكس.
2. مبدأ العلة الكافية: وهو أنه لا يمكن لواقعة أن تحدث, ولا أي ادعاء يكون صحيحا إلا إذا وجد سببا كافيا لذلك لا شيئا آخر.
فالحقائق بالنسبة إلى ( ليبنتز) نوعان, حقائق العقل، وحقائق الواقع.
ثالثا- العدمية
كان نيتشه أول من تحدث عن مبدأ العدم بشيء من التفصيل والتقنين النظري، وكان يقصد به: لا قيمة للقيم أي أن كل ما كان مقدسا في الماضي لم يعد كما كان؛ فلا مبادئ راسخة، ولا مثل عليا، والحق أن حركة التنوير قد استبقت (نيتشه) في تقرير مبدأ العدمية، وكان ذلك من خلال كشفها عن أساس المثل الدينة، والقيم الأخلاقية، والمبادئ السياسية، فعرتها وأبانت تهافتها([7])
لكن الجديد الذي قدمه نيتشه تمثل في وصفه لعدمية الزمنية بالعدمية الناقصة، ومن ثم نادى بالعدمية (الكاملة) أو (النشيطة)([8])
[1] انظر : معجم المصطلحات السياسية، إعداد فراس سراكبي، سوريا 2005، مادة إيديولوجيا
[2] الخليل بن أحمد الفراهيدي، معجم العين، تحقيق إبراهيم السامرائي، مادة حدث، وزارة الإعلام، بغداد،1989.
[3] انظر مناهج النقد الأدبي الحديث، وليد قصاب، دار الفكر 2007،ص21
[4] انظر مقاربات في الحداثة وما بعد الحداثة، تعريب وتقريب محمد الشيخ وياسر الطائري، دار الطليعة، بيروت، 1996/ص12
[5] - نفسه ص13
[6] نفسه،ص 13
[7] انظر،: مقاربات في الحداثة، ص 14
[8] نفسه،ص14
|
التعليقات (0)