كي لا نموت كالآخرين !
سامي القريني
التفكير ذبذبة لامرئية تُولد في المخّ البشريّ، تكبر وتتشكّل بمشيئة من نفث فيها الحياة والحركة وقادها إلى برّ طمأنينتها، تأخذ مساحتها وتبدأ بالتمدّد والنموّ كما شاء لها إدراكها، تستوطن جزيئاتنا وتثير خلايانا، تَلتحِبُ طريقاً بعيداً عنّا يقعُ خارج حدود خارطتنا، تمنحنا أسرارها وتدخلنا في عوالم لامحدودة، تَتّخذنا وسيلة لتحقيق الغاية المعنويّة من التفكير، تتناسل التجارب في فضاء الذهن، تتّسع المخيّلة، ينتابنا القلق، تتفجّر الطاقة الكامنة في أغوارنا، والرأس يُثقله غَوْلُ الحنين إلى المعرفة، ننفصلُ ببطء شديد عن كينونتنا الماديّة لنلامس آخَرَنا في هيئة "القَرِين"، عندها تطأُ أقدامُ ظلالنا برزخَ التّجلّي. وكأنّ ذواتنا تقمّصت صورتها غير المكتملة في عالم الذرّ أو عالم النشأة الأولى عندما كانت اللوحة البشريّة بغير إطار. التفكير هنا هو أوّل عتبة في سلّم التأمّل الكونيّ أو التّفلسف المنطقي، ولقد وُصفت الفلسفة في العديد من الكتب بأنها التفكير في التفكير. إنّ تصديقنا وإيماننا الكامل بنظرية الإمام علي بن أبي طالب "وفيكَ انطوى العالمُ الأكبرُ" يفسّر لنا ماهية التفكير. إذ ليس هناك قانون محدّد لهذه العملية المعقّدة التي تظلّ معتّقة في جِرار العقل طيلة الفترة الافتراضية لعمر الكائن البشريّ، ولكنّنا نستطيع استنتاج قانون يتقارب نسبياً مع القانون "صفر" في الديناميكا الحرارية وهو : إذا كان وعي الغاية يساوي وعي الوسيلة، ووعي الوسيلة يساوي وعي التجارب، فإن وعي الغاية يساوي وعي التجارب. ذلك يعني أنّ التجربة هي أساس وصولنا إلى كلّ ما نطمح إليه. الطفولة تجربة، والمراهقة تجربة، الفشل والنجاح، الحبّ والعلم والشهرة والعمل والعلاقات الاجتماعية جميعها تجارب مختلفة، الموت والحياة تجربتان متلاصقتان. ولا ننسى أيضاً أنّ الشكّ يعتبر من أهم التجارب وأكثرها تأثيراً في حياة الإنسان. لقد استطاع الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت إثبات وجود نفسه عن طريق الشكّ، وبما أنه يشكّ إذن فصورة اليقين تكاد تكون واضحة أمامه تقريباً، فهو القائل : "أنا أفكّر، إذن فأنا موجود". إنّ التفكير نوع من أنواع العبادة الروحيّة لأنه طقس مشترك بين الإنس والجنّ. أكاد أختلف كثيراً مع المفكّر والروائي آرثر كوستلر في كتابيه "جانوس" و"الشبح في الآلة" عندما صوّر الإنسان على أنه مسْخ ومجنون وكيان فوضوي يقتات من همجيته وأنانيته وأنه رديء الصنعة. ربما تكون الاضطرابات السياسية في الفترة التي كتب فيها روايته الرائعة "ظلمة في الظهيرة" والتي عبّرت عن رفضه للشيوعية هي السبب في محاربة الكثيرين له علماً بأنه كان شيوعياً في ثلاثينات القرن العشرين، كما أنه كان معادياً شرساً للنازية وهذا ما أدّى إلى سجنه أثناء الحرب الأهلية الأسبانية بعد خروجه من ألمانيا كلاجئ سياسي. قد يكون الواقع السياسي والاجتماعي قاسياً بعض الأحيان وهو ما يجعلنا نعيش صراعاً مع الآخرين وضياعاً لا إرادياً في أمواج الوجود المتلاطمة، وهذا ما حدث مع كوستلر تحديداً عندما أنهى حياته بنفسه. إنّ الانتحار هو فشل الإنسان في مواجهة نفسه قبل مواجهة الحياة، وهو محاولة عمياء لاعتناق وَهْم العدم، إذ ليس هناك عدم في الطبيعة. لم أجد مقولة في تاريخ الفلسفة تجعلني أقف صامتاً أمامها كمقولة سقراط بعد كل تجاربه التأمليّة عندما قال :"إنني أعلم أنني لا أعلم شيئاً". يا لروعة هذه العبارة. ما فائدة التفكير إذن ؟ إنّ فائدته الحقيقية هي استمرار جهلنا بكنهه والذي يجعلنا نفكّر فيه أكثر. إنّ جلجامش ما زال يعيش في أعماق النفس البشريّة، لأننا مازلنا إلى هذا اليوم نبحث عن خلود ما يخلّصنا من نهاية ستأتي حتى وإن تأخّرت. ليس خوفاً وليس هروباً من الموت ولكنْ ثمة "عيش وملح" بيننا وبين الحياة، كيف نتخلّى عنها ؟ أو بالأصح كيف تتخلّى هي - عنّا ؟ فرغم تسليمنا بفكرة الموت الأزليّة، إلا أننا نريد نهاية تشبه "قفلة" كونشرتو على أقلّ تقدير ! كم نحتاج أن نكون في هذه الحالة غيماً يخترق السماء لعلّنا نَسقطُ كرمش عين على خدّ الأبدية ونبقى داخل برواز الحياة. هذا لأننا نسعى إلى موت خفيف لا نشعر به أبداً، كما قال عبد الرزاق عبد الواحد : "هبني فديتك موتاً لا أموت به .. فالتمرُ إنْ جفَّ في أعذاقه حَشَفُ". إننا نفتِّش عن حياة شبيهة بالمرأة الظَّؤُوْر، وعن عالم يشعُّ حضارة ونقاءً وبريقاً كقطعة البرلنتي الثمينة كي لا نموت كالآخرين ! كلامي مازال جنيناً في رَحِم الصمت، سأؤثّث ذاكرة نُطقي .. بالتفكير. لأكتبه إليكم.
التعليقات (0)