عبد الرحمن البعيجان .. نهر الكويت الموسيقي
سامي القريني
كل إنسان يحمل في حقيبة ذاكرته أوراقاً ودفاتر لا يمكن للزمن أن يمزّقها ولا يحلم ضباب النسيان بمحو سطورها المضيئة من مخيّلتنا. قد ينضُّ الدمع من مآقينا حين نقلّب تلك الصفحات ونعيد قراءتها كأنّنا لمْ نعشْ تفاصيلها، ويتساقطُ هُلْبُ الجفون كلّما أوغلنا في تأمّل ماضينا. الأيام تتبدّلُ كرموش العين. ومن هذا المنطلق، أعتقد أنّ مرحلة المراهقة في حياة البشر هي التي تحدّد توجّهاتهم المستقبليّة وتنتخلُ مصائرهم وتشكّل طموحاتهم المتعدّدة فيما بعد، مهما أَغْضَفَ الليل وانْتَجَمَتْ شمس الأحلام. أذكر في تلك الفترة عندما كنت طالباً في الدراسة الثانوية أنني اشتريت عوداً وانضممت إلى قسم الموسيقى مع مجموعة من الزملاء، «ثلّة المجانين» كما كنّا نطلق على أنفسنا. كانت لنا طقوسنا المزاجيّة المشتركة، حيث كنّا نجلس صباحاً قبل سماعنا صوت الجرس «المزعج» في ساحة الممشى المطلّ على الشارع الرئيسي، نراقب زحمة السيارات، نقرأ شعراً، نغنّي، نتناقش في السياسة والدين والفلسفة ومغامراتنا العاطفية، نتعارك حيناً، ونتصالح في الحين الآخر، وكنّا أيضاً نتعمّد إطالة الجدل في أمورنا المختلفة ليمرّ الوقت وتنتهي الحصّتان الدراسيّتان الأولى والثانية، واللّتان كانتا مخصّصتَين لمادّتَي العلوم والرياضيّات. لم يكن طابور الصباح يشكّل أهمية كبرى بالنسبة إلينا. لأنّنا لم نقف فيه خلال السنوات الدراسية الأربع مع زملائنا الطلبة غير مرّات معدودات في السنة الأولى بالتحديد بصفتنا مستجدّين. لا أظنّ ذلك كان استهتاراً منّا، بل على العكس تماماً، كانت لنا وجهة نظر مستقلّة عن بقيّة التلاميذ. عدم التزامنا بالدراسة كان يجعلنا مطمئنِّين. واطمئناننا هنا أَسهَمَ كثيراً في تطوير ثقافتنا. يقول الروائي اسماعيل فهد اسماعيل : «الاطمئنان .. هو أن تجد ذاتك»، بلى .. لقد وجدنا ذواتنا خارج أسوار المدرسة ! كما أنّنا حاولنا إرسال رسالة شخصية إلى ناظر المدرسة ليقوم بإرسالها إلى وزير التربية آنذاك لتغيير الوضع، وتخصيص لجنة «ثقافية/واعية» لمن هم مثلنا، ولكنّ الرسالة لم تصل ! في ذلك الجوّ نمت مواهبنا، وصقلنا التمرّد. المرّة الأولى التي سمعت فيها اسم الموسيقار الكبير عبد الرحمن البعيجان كانت في العام 2000 عندما قرّر قسم الموسيقى تقديم لحن أغنية "ما نسيناه" من كلمات الشاعر يوسف ناصر وغناء عبد الكريم عبد القادر في الحفل السنويّ المقام على مسرح المعاهد الخاصة بمناسبة مرور شهرين على رحيل البعيجان كحفل تأبين له. وقد قام صديق لي بإعادة توزيع الأغنية حيث استبدل الجيتار الكهربائي بآلة العود - لعدم وجود عازف جيتار في مدرستنا -، وأُوكلت إليّ مهمة عزف مقاطع العود في المقدمة الموسيقية والكوبليه الأخير. كان البعيجان مسيطراً على ذائقتنا الموسيقية ولا يزال حتى هذه الساعة. لا أريد أن أكتب سيرته الذاتية لأنها متوفرة في مراجع كثيرة، ولكنني أودّ أن أشير إلى الأسباب التي جعلت هذا الملحّن نجماً في سماء الموسيقى العربية ونهراً موسيقياً متدفّقاً في أغوار الكويت، خاصة وأنه رحل في مثل هذا اليوم 2000/6/2 ولم يذكره أو يكرّمه أحد طيلة هذه السنوات. أتساءل أحياناً، لماذا لا يطلق اسم هذا المبدع على شارع في إحدى ضواحي الكويت مثلاً ؟ أين الوسائل الإعلامية التي أهملت عطاءه ولم تعدْ تعرض أعماله كما كانت تفعل في السابق ؟ متى سينقشع غبار الفنّ الهابط ليتسنّى لنا الاستماع إلى إبداعات عبد الرحمن البعيجان وغيره من فنّاني جيله العمالقة ؟ لقد تلقّى البعيجان تعليمه الأكاديمي في المعهد العالي للموسيقى في جمهورية مصر العربية، وقد كان لدراسته في مصر الدور الكبير الذي جعله يجمع بين الثقافة الموسيقية المصرية والثقافة الموسيقية الكويتية في آنٍ واحد. ومن يستمع إلى أغنية «تكون ظالم» يجد أنّ روح الموسيقار رياض السنباطي كانت مسيطرة على بعض جملها اللحنيّة - تحديداً - في الكوبليه الثاني، وهذا لا ينقص من قيمة البعيجان الإبداعية على الإطلاق، إنما يوضّح لنا وعيه الموسيقيّ عندما كان في السادسة والعشرين من عمره حين لحّنها. هذا الاسم الذي لمع عام 1960 - ومازال لامعاً - لم يكن اسماً عادياً على الإطلاق إنه : «تكون ظالم، الله يا دنيا، تعيش وتسلم، شيل يا قلبي، يا بو الموقه، عزيز وغالي، شوصف فيك، هب الهوا، ليل السهارى» وغيرها. كما كانت له محاولات في كتابة الأغنية مثل «خليني على بالك، ليش تنسى الأيام».والآن .. أليس من أولويات إدارة الثقافة في المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب الالتفات إلى هذا الملحّن وتقديم حفلة موسيقية خاصة لأعماله ؟ أليس من واجبه أيضاً أن يقوم بإحياء ذكراه السنوية على أقلّ تقدير كما تفعل الدول الأخرى مع مبدعيها ؟ ولكنْ، صدق الشاعر الراحل فايق عبد الجليل عندما قال : «الله يسامح التاريخ .. صفحاته قشر بطيخ»! رحمك الله يا أبا حمد .. حتى لو أهمل ذكرك الجميع، ونَسَتْك الجهات المعنيّة بتكريمك، سوف تبقى حيّاً في ضمير الأرض التي حَمَلْتَها في أعمالك وغنّيتها «نعم نحبج»، لم يكن حبّك من طرف واحد يا سيّدي، هي أيضاً تبادلك الحبّ، ونحن رُسُل هذه المحبة. سوف تظلّ ألسنة قلوبنا تردّد قائلة بكل اشتياق وصدق : «ما نسيناه .. ما نسيناه» !
التعليقات (0)