مقال: صراع الذئاب
- محمد المودني .
أول ما نسمع أو نقرأ كلمة الصراع نميل إلى ربطها بالإنسان بين الخير والشر ، أي أن الصراع قائم في عمق المجتمع الإنساني بين خيره وشره إن على المستوى الفردي أو على المستوى الجماعي ، إلا أن مفهومه عريض وعميق تتعدد وتختلف ممارساته بتعدد وباختلاف صوره . فإذا ما حاولنا البحث في صور الصراع وأدواته قد نتجاوز ما هو شائع دون أن نتناسى حجمنا ونتخطى ذوي الاختصاص من العلماء الذين حباهم الله القدرة على البحث والدراسة في مختلف علوم الكون العظيم ، ويكفينا أن نبدأ من حيث بدأت الحياة :
- الصراع الغير العاقل ، وهو صراع قائم بين مكونات الطبيعة ( كالصراع الأزلي القائم بين النور والظلام ، وبين الشمس والمطر ، وبين النار والماء ، وبين الطوب والحجر ، وبين حيوان وآخر ... إلخ ) ، وهذا صراع طبيعي غايته تثبيت التوازن ووسيلته الإثبات والإلغاء .
- الصراع العاقل ، وهو صراع يتفاعل في عمق الإنسان كذاك الذي يحتدم بين شخص ونفسه أو بينه وبين آخر أو بين فئة وأخرى أو بين مجتمع وآخر أو بين تكتل وآخر ، وهذا صراع بشري يقوم بالخير أو بالشر على تحقيق غايات انفعالية وتكون نفسية ( كالحب والبغضاء أو الكبر والتواضع أو الإنكار والاعتراف أو التأنيب والرضا أو الخوف والإقدام أو اليأس والتفاؤل ...) ، أو أهداف فعلية وتكون مادية بالحق أو بالباطل ( كالأرض وما يتصل بها أو الثروة ومصادرها ... أوالزعامة والسلطة وسبلهما ...) ، أو معنوية ( كالعقيدة أو المذهب وفلسفتهما أو الحرية وفكرها ... ) .
- الصراع العاقل والغير العاقل ، وهو صراع قائم بين الإنسان وبين مختلف العناصر الطبيعية في شتى الصور فردية أو جماعية ( كالذي يشتد بينه وبين البيئة بالمحافظة عليها ورعايتها أو بتخريبها وتدميرها ، أو بينه وبين غضب الطبيعة من زلازل وأعاصير وفيضانات وبراكين وجفاف ... ، أو بينه وبين الحيوان ... إلخ ) ، وهذا صراع طبيعي بشري غايته البقاء أو الفناء.
على ضوء هذا التصنيف يكون الصراع ظاهرة طبيعية شاملة بلا حدود لا يمكن حصرها في صورة واحدة أو في فصيلة دون أخرى .
ورغم تعدد واختلاف صور الصراع وممارساته فغايته واحدة ووحيدة وهي : الإنتصار خيرا أو شرا أو الانهزام خيرا أو شرا ، بمعنى الوفوز بالزعامة والقيادة مع الاستمرارية أو الانهيار مع الخضوع أو الفناء .
والصراع لا يمكن تفسيره بمعنى الخلاف أو الإختلاف بين طرفين حول السبل أو الأهداف بل هو نتيجة حتمية لتفاعلهما ، أي أن الخلاف أو الإختلاف بين جانبين حول غاية ما أو وسيلة تحقيقها يؤدي إلى نشوب صراع بينهما قد يكون مدمرا أو منعشا :
فاختلاف غاية الليل والنهار أدى إلى قيام صراع أزلي بين النور والظلام ، والإتجاه المعاكس للرياح الغربية والشرقية واختلاف هدفهما يولد بينهما صراعا قويا يسفر عن انتصار واستمرار إحداهما بخيرها أو بشرها وتقهقر وتراجع الأخرى بخيرها أو بشرها ، واختلاف هدف الغنى وأدواته ( وهو الإشباع الروحي أو المادي بالحق أو بالباطل ) عن هدف الفقر ( وهو الخصاص الروحي أو المادي ظلما أو عدلا ) أدى إلى قيام صراع دائم بينهما ، مما أفرز معه صراعا روحيا ونفسيا وفكريا وماديا بين الإنسان ونفسه أو بينه وبين أخيه أو بينه وبين الطبيعة غايته الإغتناء المشروع أو الا مشروع وامتلاك مسبباته من قوة وسلطة .
وطبعا هذا الصراع ينجم عنه تشتت وحدة الإنسانية واندثار قوة وقيام أخرى على أنقاضها بالخير أو بالشر .
لكن العجيب والغريب ما في الصراع هو ذاك الذي يشتد بين الخير ونظيره أو بين الشر ونفسه .
فالأول تكون نتائجه إجابية عميمة وشاملة ، بمعنى أن الصراع يكون تنافسيا على مزيد من الإنتاج والعطاء الإيجابيين الأكثرين نفعا وشمولية ، وهذا يمكن وصفه بالصراع الشريف والنبيل .
والثاني يزيد من اتساع دائرة مخاطره ، أي يكون التنافس فيه سلبيا ووحشيا نتائجه وخيمة وقاسية وهو ما يمكن وصفه بصراع الذئاب .
فالذئاب حين تجتمع بشرها لا تترك مجالا للخير ولو في أبسط نسبه ، فهي بطبيعتها أكثر فتكا وشرا من كل الحيوانات رغم ضعفها ولا خير في نظراتها وعويلها ونواياها حسب الرأي السائد في أوساط الحياة البرية وهو ما يظهر جليا من خلال ممارساتها الفعلية في واقعها . وحسب رؤية الراعي أو الأعرابي عامة فالذئب الواحد إذا ما دخل قطيع الشياه في غفلة من صاحبه لا يكتفي بخنق ما يكفيه من الرؤوس بل يعمل جاهدا على إسقاط أكبر عدد ممكن من الشياه وربما كل القطيع إن استطاع . فهو الحيوان المفترس الوحيد الذي لا يتعب من أجل إشباع بطنه الصغير وإنما يجتهد بمكره وخداعه على إشباع غريزته الدموية وإحداث أكبر الخسائر الممكنة ظنا منه أنه سيقضي على حياة غيره ويوفر ما يكفيه وذريته الدهر كله ، وهو ما يكشف عن مدى خبثه والحقد الدفين في قلبه والشر الذي يسيطر على كيانه وهذا راجع لضعفه النفسي والعضوي ، ترى ماذا يحصل للقطيع وموقعه حين تجتمع مئات الذئاب بغطرستها وتتصارع فيما بينها حول من يسفك دماء أكبر عدد من الشياه ؟ فإذا حلت مجموعة من الذئاب ببلد ما تكون بذلك قد حلت به الكارثة العظمى ، لأن كلما ارتفع عدد الذئاب في أي بلد عظمت قوة خرابه ودماره وارتفعت نسبة احتمال فنائه . فالذئاب حين تتلاحم يحتدم بينها الصراع بأقصى درجة على إزهاق أكبر عدد من الأرواح بوحشية لا مثيل لها في الحياة البرية والبحرية ، وهذا هو ما يتجلى لنا في صورة بلدنا الضعيف الذي يزداد عدد الذئاب فيه ارتفاعا وينخفض عدد حملانه سنة بعد أخرى منذ استقلاله لتتعاظم معهما قوة خرابه ودماره وترتفع نسبة احتمال انقراضه . ذئاب وذئاب بكل الألوان انتشرت كالظلام الدامس في مغرب العروبة والإسلام .
ذئاب في كل المواقع تتصارع فيما بينها على خنق كل الشعب وافتراسه ودفن الوطن في بطون أعداء تاريخه : صراعات من الوزن الثقيل بين خدام البلاط الملكي حول اكتساب المزيد من النفوذ والثروة على حساب الشعب باسم القصر ، صراعات قاتلة داخل كل دواليب الدولة مدنية وعسكرية وأمنية ، صراعات تخريبية لا لون ولا طعم لها داخل وبين الأحزاب المنافقة والنقابات الإنتهازية ، صراعات بكل الألوان معششة في كل الإدارات والمؤسسات العمومية والشبه العمومية والمقاولات تنخر الجسم الشعبي وتقتل الحياة ، صراعات ارتزاقية مذلة تعفن الإعلام بكل أدواته قائمة بين إعلاميين لا يفرقون بين الحلال والحرام ... صراعات قذرة تفترس الشعب بلا رحمة وبوحشية تعددت صورها وسبلها أدت إلى حرب اجتماعية تبشر بعودة أيام السيبة التي قد لا ترحم الوطن هذه المرة . في كل الدول المتحضرة أو التي لها رغبة في التحضر تقوم الصراعات بين الأشخاص والفئات والطبقات - من حكام ومحكومين وسياسيين ومفكرين ومنتجين - على إسعاد الشعب بصيانة كرامته وإعلاء راية وطنه وهو صراع نبيل وشريف ، أما في بلدنا تحتدم الصراعات المتنجسة بين أقطاب السلطة وبين أقزام السياسة والفكر وعمالقة اللصوصية على إذلال الشعب ووأد أحلامه الشرعية وتهويد وطنه ... وهذا هو صراع الذئاب .
- محمد المودني – فاس .
التعليقات (0)