حاولت أن أدق في جلودكم مسمار
كمال غبريال
قال نزار قباني في قصيدة "قراءة على أضرحة المجاذيب":
حاولت أن أقلعكم
من دبق التاريخ . .
من رزنامة الأقدار . .
ومن ( قفا نبك ) . .
ومن عبادة الأحجار . .
حاولت أن أفك عن طروادة حصارها،
حاصرني الحصار.
حاولت أن أنقذكم
من ساعة الرمل التي تبلعكم
في الليل والنهار
من الحجابات على صدوركم
من القراءات التي تتلى على قبوركم
من حلقات الذكر،
من قراءة الكف،
ورقص الزار . .
حاولت أن أدق في جلودكم مسمار
يئست من جلودكم
يئست من أظافري
يئست من سماكة الجدار . . .
هل اليأس قدر محتم على كل من يحاول أن يطرق الأبواب الموصدة، أو يفتح نافذة لهواء جديد ومتجدد، يزعج الغارقين في سبات القرون، أم أن اليأس فقط من نصيب المتعجلين لنتائج وثمار لم يحن بعد أوان قطافها؟!
لا أظنني إذ أستعرض اليوم معاناتي الشخصية، أنتقل من الهم العام إلى الخاص، كما لا أحسب أن الأمر مشكلتي وحدي، إنما بذات القدر مشكلة أهلي وأبناء وطني.
الأمر ببساطة أني أرى الأمم في الشرق القصي، وفي الغرب والشمال، تسعى نحو العلا والتقدم والرخاء، فيما نحن فيما يسمى الشرق الكبير، على أحسن الفروض لا نبرح مكاننا، أو نتراوح حوله، وفي كثير من المواقع نتراجع، بل نتدهور، نتحول إلى أداة تدمير يسعى الجميع لإبطال مفعولها.
أليس من الطبيعي أن أتفكر بحثاً عن علة ما نحن فيه من بلاء؟!
أليس من المحتمل أن أعثر في بحثي على أسباب أراها ترجع إلينا، ولا يمكن إسنادها ببساطة أو استنطاع لمؤامرات العدو المفترض؟!
أليس من واجبي أن أعرض على أهلي وناسي ما توصلت إليه من أفكار، بغض النظر عن مدى توفيقي فيما خلصت إليه؟!
أليس من الطبيعي أن أنتظر ممن أخاطبهم أن يتفحصوا كلماتي، ليدلوني أين أخطأت ليقوموني، وأين أصبت فيتبعوني إلى مسالك جديدة، قد تفتح لنا أبواب التقدم والحداثة، الموصدة في وجوهنا دون العالمين؟!
لقد طرقت أبواباً عديدة، لكنني كلما طرقت باباً خرجت علي الأسود والضباع، تتهمني بأرذل التهم وأقذع السباب، دون أدنى فحص أو تدبر لإشاراتي، أو على الأقل مقارعة الحجة بالحجة كما يقولون.
حين أشير إلى فكر القومية العربية، بطبعته الناصرية والبعثية، والذي أثمر لنا مأساة حرب اليمن، ونكسة عام 1967، وما نتج عنها من ابتلاع إسرائيل لكل فلسطين، وفوقها سيناء والجولان، ثم جنون الحرب العراقية الإيرانية، المسماة قادسية صدام، وجريمة اجتياح الكويت، التي أتت بجيوش العالم إلى أرضنا، المحتلة أصلاً بالجهل والفقر والمرض، ثم أخيراً وليس الآخر تخريب لبنان، الجزيرة الديموقراطية، في محيط التخلف والاستبداد العربي، حين أشير إلى كل هذا أتوقع الحوار، لكن ما يحدث (مع اسثناءات محدودة) هو وابل من اتهامات الخيانة والعمالة للعدو الصهيوني والإمبريالية الأمريكية، تجاهل تام لمقولاتي، واستهداف لشخصي، كأن رجمي أو حتى قتلي، يمكن أن يغير حقائق الواقع المرير الذي نعانيه، ويحول هزائمنا انتصارات، وفقرنا غنى، ومرضنا عافية!!
وحين أتحدث عن الليبرالية، والحرية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لتفجير ملكات الإنسان وتحقيق إنسانيته، لا تفند مقولاتي، وإنما توجه إلي السهام بأنني طابور خامس للغزو الثقافي، ومعول هدم لهويتنا القومية والدينية، وقيادة مجتمعاتنا إلى الفساد والانحلال السائد في الغرب، ومروج لقيم تتنافى مع قيمنا الشرقية الأصيلة.
وعندما أطرق باب مفهوم الدولة الوطنية الحديث، القائم على المواطنة، وفصل الدين عن الدولة، وهو الباب الذي فتح الطريق لأوروبا، لتعبر ظلمات القرون الوسطى، إلى عصور الحداثة وما بعد الحداثة، أجد أغلبنا يرفض مجرد مناقشة الأمر، ويكتفي بأن يجعل من مثلي هدفاً سهلاً لاتهامات ليس أقلها أنني أنطلق من نوازع صليبية معادية لدين الأمة، هكذا يطلق على كلماتي الرصاص، دون أدني تدبر لاستبيان حقيقتها، والفهم الهادئ لمعانيها، ويكون شخصي بعد ذلك بمثابة مرمى للسهام الشريفة.
وحين أضع يدي على ما أتصوره إشارات تحسن من قدرة كنيستي القبطية الأرثوذكسية، على تخريج أجيال صالحة للتعامل مع الألفية الثالثة، وأرصد ما في الوضع الحالي لخطاب الكنيسة من سلبيات، متوخياً اللياقة والحذر، من عدم التعرض للأشخاص، رغم جواز ذلك بحكم أدوارهم العامة بالكنيسة والدولة، وعدم التعرض لحقائق الإيمان المسيحي والقبطي الأرثوذكسي، لأن هذا شأن خاص بالإنسان الفرد في علاقته بربه، فناقشت في مقال "الصخرة الأرثوذكسية ورياح التغيير" السمات التي أراها سلبية في الإنسان القبطي، التي نتجت عن التأثر بخطاب الكنيسة ونظمها، كنت أتوقع أن تكون ردود الفعل من أبناء طائفتي منصفة لذاتي على الأقل، وأن يتركز الهجوم أو المعارضة على مقولاتي، والتي يمكن أن يقال عنها مثلاً أنها مليئة بأخطاء الاستنتاج، أو المبالغة في حجم الأمور، أو أنني جهلت أو تجاهلت عناصر أخرى هي كذا وكذا.
لكن المذهل هو أن ردود الأفعال (عدا استثناءات قليلة) كانت بذات النهج الشرقي، ترك للموضوع، والإمساك بتلابيب الكاتب، اتهامات بالمؤامرة على الكنيسة، والإساءة للدين المسيحي والعقيدة الأرثوذكسية، وتحريض سافر ضد شخصي، لا يختلف عما درجنا على تسميته بالتحريض على الإرهاب.
القاسم المشترك لكل الأمثلة السابقة، هو الرفض الجماهيري القاطع للمراجعة والتغيير، وهو ما نستدل عليه من إهمال تفنيد المقولات، والالتفات إلى قائلها لتوبيخه وتحقيره أو تمزيقه إرباً، إذا استطعنا إلى ذلك سبيلاً.
إصرار عجيب على البقاء فيما نحن فيه، رغم أننا جميعاً لا نعيش الحياة وإنما نعانيها، نرفض الثمار التي أنجبتها أرضنا وأشجارنا، مع إصرار على التمسك بالشجرة ومواصفات التربة، والأعجب أننا نتلهف حتى الموت، على الهجرة إلى البلاد التي تتجسد فيها كل ما نرفض من مقولات، نطمع في الحقيقة في التمتع بخيراتها وثمار حضارتها، مع الحفاظ على تقوقعنا وتحجرنا، ونظرتنا الاستعلائية للآخر المتقدم، والتي تخفي تحتها شعوراً عميقاً بالدونية.
إلى أن نقلع عن هذا الأسلوب، الذي يرفض التغيير، ويرفض مجرد مناقشة الأفكار المطروحة، ويستسهل رجم القائل بها بكل أنواع الأحجار.
إلى أن نتعلم أن نترفق بمن يشير إلي طرق جديدة، وأن نعطي أنفسنا فرصة لمراجعة المقولات ذاتها، وليس شخص ونوايا قائلها.
إلى أن نبحث عن مواطن الخلل في حياتنا وأفكارنا، كمن يبحث عن كنز مفقود، ونعامل كل رأي مخالف كأنه إشارة إلى مكان الكنز، قد تكون صادقة، وقد تكون العكس، وأن تقييمها لا يكون بعواطفنا، أو بقياسها على ما درجنا عليه، وإنما بقدرتها على تحقيق الهدف المنشود، وهو الوصول إلى الأسباب التي جعلتنا في مؤخرة الأمم، بل وخارج التاريخ.
إلى أن نتوقف عن استخدام اتهامات العمالة والتخوين والتكفير.
إلى أن يحدث كل هذا.
سيظل نزار قباني على حق حين قال:
أرفضكم جميعكم
وأختم الحوار
لم يبق عندي لغة
أضرمت في معاجمي
وفي ثيابي النار . .
التعليقات (0)