يميز العقل الجمعي العربي بين أصلين للمفاهيم: فهناك المفاهيم المشتقة من الدين التي ينظر اليها عادة باحترام كبير، وهناك المفاهيم غير المشتقة من أصول دينية وينظر اليها بارتياب.
وهو حين يقبلها يفعل ذلك بدافع الضرورة، لذا يبقى تمثله لها محكوما بحدود الضرورة، فهي عنده في العمق ليست سوى طارئة، مؤقتة، غريبة، لذا يسهل عليه تركها، او الانخلاع منها.
أما ما تحتاج اليه النخب المثقفة العربية فهو محاولة ايجاد جذور للأفكار الحديثة كفكرة المواطنة داخل التراث العربي - الاسلامي لتمكين العقل الجمعي العربي من تمثلها ودمجها في منظوماته الخاصة، ويمثل ذلك تحديا كبيرا لتلك النخب يمتحن جديتها ومقدرتها في ذات الوقت.
يحيلنا استقراء مفهوم المواطنة في العقل العربي الجمعي المعاصر الى حالة ملتبسة، فمفهوم المواطن في دول الخليج هو نفي لمفهوم الوافد الأجنبي (والعربي هنا أجنبي أيضا للأسف). والقيمة الايجابية لهذا المفهوم تكمن الى حد كبير بكون المواطن موضوعا لتلقي مزايا الدولة الرعائية، فمواطنيته هبة من السماء يمتاز بها عن هؤلاء الوافدين الأجانب المساكين الذين يضطرون للكدح ليلا نهارا عنده لنيل القليل بينما ينال هو الكثير دون جهد فقط لكونه مواطنا
. وهي أيضا هبة من الحاكم الذي يغدق عليه العطايا في كل مناسبة، وبمقدار ما يرتكز مفهوم المواطنة عنده على كونه ميزة بمقدار ما يفرغ من مفهومه الحقوقي التعاقدي الذي سنأتي عليه لاحقا.
والملاحظة الجديرة بالتمعن هنا هي أن هذا القصور والتشوه في مفهوم المواطنة يفسح المجال أمام بقاء الانتماءات القبلية والعشائرية بل وتكريسها داخل المجتمع، فالمواطنة في دول الخليج ليست بديلا للقبلية ولا نفيا لها الا ضمن اضيق الحدود، هكذا نرى تفريغا لمفهوم المواطنة من جانبه التقدمي - الحداثي، واحالته للتعايش مع بقية الروابط المنتمية الى ما قبل الحداثةعوضا عن يكون بديلا عنها.
اما مفهوم المواطنة في دول الديمقراطيات - الطائفية (العراق، لبنان) فليس سوى ما يتبقى من رابط بين أبناء الدولة بعد استنفاد الروابط الأخرى وفي مقدمتها الرابط الطائفي، فالمواطنة هنا لا تأتي أولا في الحقيقة بغض النظر عن الادعاءات، ولكنها تأتي أخيرا، وحين تستيقظ الفكرة الطائفية وتمتلك مؤسساتها، فهي لا تفعل ذلك بالتفاهم مع فكرة المواطنة بل على حسابها
. والمفارقة أنها حين تأكل فكرة المواطنة تفسح المجال أيضا للقبلية والعشائرية والعنصرية وشتى الروابط المتخلفة لتنتعش وتعيد تشكيل كياناتها الاجتماعية والسياسية، ويزيد بذلك تفريغ فكرة المواطنة من مضمونها بحيث لا تبقى سوى كقشرة واهية يسهل الخروج عليها في اي وقت.
يحيلنا مفهوم المواطنة في الجمهوريات الاستبدادية الى حالة رمزية مرادفة للعلم والنشيد. فالمواطنة هنا فكرة واهية، غير ملموسة، وبينما تسعى الانظمة الحاكمة الى جذبها نحو فكرة الوطنية القطرية واعتبارها مرادفا لها، تسعى النخب الثقافية لجذبها نحو مكانها الطبيعي باعتبارها الأساس الحقوقي لفكرة الدولة. ويعكس ذلك التجاذب الحساسية الخاصة لنمو مفهوم المواطنة في تلك الدول، فنمو مفهوم المواطنة وتجذره يعني الحد من شمولية السلطة واستعادة مفهوم الدولة الوطنية التعاقدية الذي انبثق بعد الاستقلال وتم تغييبه حين ابتلعت السلطة الدولة.
تقول الدولة القطرية الاستبدادية: المواطن هو الوطني، بينما تقول النخب الثقافية العربية كما قال المنصف المرزوقي على قناة الجزيرة: الدولة الوطنية هي الدولة المواطنية، بمعنى أنه لاوجود للوطنية الحقيقية بدون تأسيس الدولة على اسس تعاقدية بصفتها دولة المواطنين الأحرار لا دولة الرعايا. يبدو مما سبق أن مفهوم المواطنة ما زال مفهوما ملتبسا من جهة، وفي طور المخاض من جهة أخرى.
وهو يتطور في صراع حقيقي مع مفاهيم أخرى، والمسألة تتعلق في جانب منها بمدى قدرة النخب الثقافية العربية على استعادة ذلك المفهوم ونفض الغبار عنه، وتقديمه للجمهور، ليس بصفته مفهوما غربيا لا يمت بصلة للموروث الثقافي العربي - الاسلامي ولكن بوصفه مفهوما غربيا من حيث صياغته الحديثة لكنه ليس غريبا عن القيم العربية - الاسلامية بل هو الأكثر قربا منها في الحقيقة.
من الناحية الحقوقية تستند فكرة المواطنة الحديثة الى فكرة المساواة التي جاءت بها الثورة الفرنسية عام 1789، فالدولة هي مؤسسة تعاقدية بين المواطنين المتساوين الأحرار دون تمييز، وفكرة المساواة التي جاءت بها الثورة الفرنسية ليست جديدة على تراثنا الفكري الثقافي بل هي في قلبه (متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم امهاتهم أحراراً - عمر بن الخطاب).
وتتضمن فكرة المواطنة بمفهومها الحديث الأوسع مبدأ تداول السلطة فالمواطن الحقيقي يحكم ويُحكم، بمعنى انه مؤهل للحكم لمجرد كونه مواطنا من الناحية الحقوقية.
بهذا المعنى لا يمكن وصف الدولة التي يتم فيها احتكار السلطة بالقوة بدولة المواطنة. ويمكن للمرء ان يعرف الى أي حد تم طمس مفهوم المواطنة في العقل الجمعي العربي المعاصر من النقاش العلني الدائر حاليا في مصر حول الافتقار لوجود مؤهلين للترشيح لانتخابات الرئاسة القادمة بين الثمانين مليون مصري؟؟
التعليقات (0)