إن الحداثة وما ما بعد الحداثة اليوم، كانت قد خططت وتخطط لبناء مصير الشخص البشري لكي يعيش بعيدا عن الله، وبمعزل عن كل فكر ديني أو غيبي أو ظلامي ، وهنا تنزاح قيم الظلم لتحل قيم العدالة والحق .
كولد ليفي شتراوس
لكي نبلور مفهوم المكانة الذي يتمتع بها الشخص الذات في التراث الاسلامي، يجب أن نحدد اطار الرؤيا كما تتجلى ضمنيا في في نظام العقاد والطقوس والشعائر والأدبيات الموروثه بأجمعها، ومن المهم والضروري أن نذكر بهذا المعطى قبل الشروع في التحليل الذي نسعى اليه، والكشف عن مدى التورطات التي عانى منها الفكر الإسلامي على مدار الزمن الطويل الذي عاشه،إن المجال التاريخ المحروث من قبل الفكر الإسلامي واسع جدا ومتنوع ، وبالتالي فهو معقد بالنسبة للدارس والمحلل، وهو يشمل حتى في أيامنا هذه الكثير من الشعوب والجماعات المرتبطة بالتراث الشفهي ، أي المرتبطة بأنواع السلوك والمؤسسات والتضامنات والعصبيات الخاصة بمرحلة الحس العملي في الوجود، أكثر مما هي مرتبطة بمرحلة الدولة بمفهومها الحديث ـ وبالتالي فنحن مضطرون لأن نستدعي السؤال المشكل ـ أين يمكن القبض على الأنبثاق التاريخي والثقافي لمفهوم الشخص كذات؟ ماهي المكانة التي يتمتع بها هذا الشخص بعد أربعة عشر قرنا أويزيد من الممارسات الفقهية والعقائدية واللاهوتية في التراث الاسلامي ؟.
إن التراث الاسلامي المشترك لدى جميع المسلمين أيا تكن مرجعياتهم اللغوية والثقافية والتاريخية يشتمل على ثلاثة أصول تأسيسية كبرى ، ( أي أصول الدين وأصول الفقه ) وهي إلزامية بالنسبة لكل مسلم، أولها القرآن ، ثم الحديث النبوي، الذي تضاف إليه تعاليم الأئمة الأثني عشر بالنسبة للشيعة ، أو الأئمة السبعة بالنسبة للإسماعيلية. وثالث الأصول الاسلامية هو القانون الديني أو الشريعة. وهذه الشريعة متلقاه أو مقبولة بمثابة التقنين االقضائي أو الفقهي لاوامر الله ونواهيه . وقد تم هذا التقنين الذي أنجزه اللاهوتيون الفقهاء والذي يدعى بالاجتهاد، إن هذه الأصول التأسيسية الثلاث كانت قد بلورت نظريا أثناء فترة التشكل الأولى للفكر الإسلامي وقد بلورت من خلال الترتيب الهرمي ، القرآن أولا فالحديث ثانيا والشريعة ثالثا، بمعنى آخر فإن كل النصوص وكل التعاليم وكل التشكيلات العقائدية المدونة في هذا التراث الكتابي المقدس تنتمي الى فترة من التاريخ العام للفكر، هي تلك التي تدعى عموما بالفترة التأسيسية، لسنا هنا معنين بتلك المشاكل التي تطرحها علينا مسألة التحقيب الإنقطاعي للتاريخ العام للحضارات بالصيغة التي بلورها الفكر الأوروبي فيما بعد، ولكن الملاحظة الجديرة بالتوقف عندها طويلا هي إن التراث المحدد على هذا النحو يعتبر مثاليا وإنموذجا مقدسا يصعب اختراقه، ولذلك فإن الصعوبة التي تواجهني كما تواجه غيري تتأتى من هذه الزاوية المعقدة والمرعبة والمميتة في الآن ذاته، إن هذا التراث يفرض هيمنته وسلطته في كل مكان وزمان، وهو التراث الوحيد والأوحد، وهو يمتد ليخترق الوجود الكوني والبشري وليضبط إيقاعهما وفق تصوراته ورؤاه وآفاقه التي تمتد بلا حدود أو قيود. ولذلك فهو على سبيل المثال قد تجاهل التراثات المحلية السابقة عليه ، بل وحذفها كليا عندما استطاع التوصل الى ذلك لأنها تنتمي الى المرحلة التي وصفها القرآن بالجاهلية،وكلمة الجاهلية تعني حرفيا ما يلي : الوضع الذي كان الناس فيه يجهلون الدين الحق الذي حدده الله لآخر مرة في الوحي الذي نقله النبي محمد ، إن هذا التحديد اللاهوتي للتراث الذي ينبغي أن يلغي كل التراثات الأخرى السابقة عليه يجهل بالطبع مفهومي التراث والتقاليد بالصيغة التي كانا قد بلورا عليها من قبل علم الأعراق البشرية وعلم الأنتربيولوجيا الثقافية منذ القرن التاسع عشر . إن الصراع القديم الذي جرى بين التراث الكتابي المقدس الذي بلوره اللاهوتيون والفقهاء وبين التراثات المحلية التي كانت سائدة قبل انتشار الاسلام قد أصبح اليوم معقدا أكثر فأكثر. أقصد بذلك أن التاريخ النقدي والعلوم الاجتماعية بمجملها قد احدثا مراجعات جذرية على دراسة كل التراثات الدينية، وفي طليعتها التراث اليهودي والمسيحي ، لماذا طبقت المراجعة النقدية على هذا التراث أولا ؟ لأنه تراث أوروبا التي شهدت الحداثة قبل غيرها ووضعته أمام التحدي باستمرار، فالحداثة ما انفكت منذ بداية صعودها تقذف بالتحديات في وجه التراث الديني اليهودي المسيحي ، أما التراث الديني الاسلامي فلم يتعرض لحد الآن لأي نقد يذكر، وفي الواقع فإن هذا التراث لا يزال يستعصي على الحداثة ولا يزال يقاوم تعاليمها وإنجازاتها الأكثر رسوخا وصحة، إنه لا يزال يقاومها باسم الدين الحق الذي يرفض أن تطبق عليه أية مراجعة تاريخية أو دراسة نقدية . هكذا دائما نجد أنفسنا أمام تراث مقدس ونبيل ذي رسالة كونية في نظر المؤمنين ، وامام تراثات محلية سابقة على الاسلام ، تراثات حذفت وابعدت الى أقصى حد من قبل العمل المتضافر للدين وللحداثة المتوحشة الفوضوية في آن معا ، ولكن لا هذا ولا تلك استفادا حتى الآن من المراجعات النقدية للحداثة، ولم تطبق عليهما مناهج العلوم الاجتماعية التي طبقت على التراثين اليهودي والمسيحي في أوروبا وعموم الغرب. لهذا السبب فإن مكانة الشخص البشري المحددة من قبل القرآن والأحاديث النبوية والقوانين الفقهية المتلقاة والمطبقة وكأنها قانون إلهي ، أقول لهذا السبب بالذات فإن مكانة الشخص البشري هذه ابتدأت بالكاد تنفتح على المراجعات والمناقشات النقدية التي شهدتها اوروبا ، وهي مناقشات خاصة بالعقل النهضوي الإنساني المنفتح على الثقافات المختلفة. إنه العقل المهتم أكثر فأكثر باقتناص استقلاليته الفلسفية بالقياس الى السيادة الدوغمائية المطلقة للعقل اللاهوتي، ثم راح هذا التطور يتواصل مع عقل التنوير وفلسفة حقوق الإنسان وتأسيس دولة الحق والقانون والديمقراطية المرتبطة بالمجتمع المدني عن طريق عقد قابل للتجديد . فالسيادة السياسية أو المشروعية العليا للسلطة أصبحت تستمد من الشعب، أي من المجتمع المدني ، وهكذا انبثق الفرد المواطن لإول مرة في المجتمعات المتقدمة ، وهو فرد محمي في علاقاته مع غيره كشخص بصفته ذاتا إنسانية تحدد مسارها في الحياة والوجود.
لنعد الى السياق الاسلامي لنلحظ أن ثمة قبل وبعد لتاريخ الشخص أو لمكانة الشخص في هذا السياق، هناك قبل وبعد مؤسساتي ومعنوي واجتماعي وانتربولوجي ، إن دراسة القبل تموضعنا داخل منظور المدة الطويلة للتاريخ، وهذه المدة الطويلة تبتدئ مع انبثاق الحدث القرآني لإول مرة في التاريخ ثم تتواصل الى الآن، مع متغيرات ملحوظة ولكن مع تواصلية بنيويةعميقة، وأما البعد فيجبرنا على أن ننشغل داخل اطار المدة القصيرة للتاريخ، أي لحظة التاريخ المعاصر الممتد من لحظة الأستقلال الوطني الى الآن وقد حصلت في هذه المدة ثورات عنيفة ، وقطيعات حادة وتفكيكات سريعة لكل الشيفرات الأعرافية والتشريعية والمعنوية والدلالية ، إن هذه الثورات والقطيعات والتفكيكات قد تلاحقت على المجتمعات الإسلامية طيلة الستين أو السبعين سنة الماضية، وذلك دون أن تكون محضرة لها و دون أن يسبقها أي تمهيد، وذلك في فترة زمنية قصيرة جدا حيث تتصادم عدة زمنيات متناشزة او متغايرة ، لهذا السبب لن أتتبع في هذا التحليل تلك الصورة المأـكسدة التي يقدمها المسلمون عن الاسلام، الصورة المثالية أو التجريدية إسلام أقنومي لا يتبدل ولا يتغير ، إسلام يستعصي على التاريخية ، إنها الصورة اللاتاريخية التي ترسخها التراثات المدرسية ، وتدعونا للتأمل فيها بدلا من أن نعيشها، وهي ذاتها الصورة التي تنقلها الأدبيات الاستشراقيه الى لغاتها بحجة احترام عقائد المسلمين .
إنني سوف أسلك سبيلا وعرا ، سوف تكون نقطة الأنطلاق من القرآن ذاته ليس من أجل أن أعثر فيه على التصورات الحديثة للشخص البشري كما يفعل التبجيليون ، وإنما لكي أقيم التمييز بين المكانة المعرفية للخطاب النبوي وبين التشريعات المعيارية التي أدخلت بعدئذ من قبل العقائد اللاهوتية، التشريعية والتطور الفكري والثقافي في بيئة المدن الحضرية، إن الإنبثاق ثم التوسع السريع للدولة ( الخلافة الأموية ثم العباسية) قد شكل ما بات يعرف بالظاهرة الإسلامية تميزا لها عن القرآن كظاهرة ، ونحن نعلم أن هناك سمات اختلاف بين الظاهرتين الى حد كبير جدا . إنني في طرح هذا المفهوم وخلق التوسعات النقدية حوله وتعميقة الى درجة كبيرة ، فإنني أهدف الى أشكلة كل المفاهييم والتصورات وخللت الأنساق المعرفية التي سادت في الماضي ولاتزال تسود وتهيمن بطريقة فضة وخشنة وسيئة الى حد كبير.
لماذا لم يعرف الفكر الإسلامي على مدار تاريخه الطويل النزعة الإنسانية ، أي تلك المكانة المتميزة للشخص ؟ ولماذا لم يتعرف عليها ؟ هذا ماسوف نجيب عنه في المقال اللاحق.
التعليقات (0)