مواضيع اليوم

مفهوم الحقيقة في الدين

فارس ماجدي

2010-02-08 07:29:02

0

الدين ينظر أو يتمثل الحقيقة وكأنها أزلية ، فريدة من نوعها ، مقدسة ، متعالية ، نهائية ، إلهية . هكذا هي الحقيقة وهكذا طبعوها في أذهاننا ورسخوها بصفتها مطلقة متعالية . ولكن المفكر النقدي أو الفكر النقدي يرى الحقيقة بشكل مختلف . إن الحقيقة هنا بالنسبة له هي مجموع آثار المعنى التي يسمح بها لكل ذات فردية، أو جماعية، نظام الدلالات الإيجابية المستخدمة في لغته . إنها مجمل التصورات المختزنة من قبل التراث الحي للجماعة القبلية ، أو للطائفة الدينية ، أو للأمة . فكل أمة أو طائفة تعتبر تراثها بمثابة الحقيقة المطلقة . إن الحقيقة ليست جوهرا أو شيئا معطى بشكل جاهز ونهائي ، وإنما هي تركيب أو أثر ناتج عن تركيب لفظي أو معنوي قد ينهار لاحقا لكي يحل محله تركيب جديد ، أي حقيقة جديدة . فالحقائق تنهار وتموت بحسب التصور الابستمولوجي الحديث ، وليست أبدية أو خالدة كما كان يتصور اللاهوت القديم أو الميتافيزيقا المثالية . هكذا نجد أننا مدعوون لتغيير تصورنا التقليدي عن مفهوم الحقيقة ، وهذا ليس بالأمر اليسير لأن هذا التصور التقليدي مرسخ في أذهاننا منذ الطفولة .

إن هذين التحديدين ، التقليدي والحديث لمفهوم الحقيقة ، يقيمان حدا عقليا فاصلا بين موقفين للعقل : موقف ميتافيزيقي كلاسيكي ، وموقف ابستمولوجي حديث . أما الأول فطالما وصف من قبل مؤرخي الفلسفة . وهو لا يزال يقاوم صعود الموقف الابستمولوجي الجديد الذي تفرضه الآن العلوم البيولوجية والمعلوماتية والاجتماعية . كل العلم الحديث ينحو الآن باتجاه تشكيل مفهوم جديد للعقل والحقيقة . بعضهم أصبح يدعوه بعقل ما بعد الحداثة ، أي الذي يتجاوز عقل الحداثة لأنه أكبر منه وأكثر اتساعا ورحابة . ولكني أحب تسميته بالعقل الذي هو في طور الانبثاق والتشكل . كان ميشيل فوكو وغيره قد أثبتوا أن الكثير من جوانب عقل التنوير قد أصبحت قديمة وبالية ، ولذلك نقدوها تحت اسم " الموضوعاتية التاريخية – المتعالية " بمعنى أن عقل التنوير على الرغم من التحرير الكبير الذي أنجزه بالقياس إلى العقل اللاهوتي المسيحي إلا أنه ظل بشكل ما أسير النظرة المتعالية التي انتقدها . إنه لم يستطع التحرر منها كليا ، ولهذا السبب دعيت إشكاليته بالتاريخية والمتعالية في آن معا .نحن نعلم أن اليهود والمسيحيين والمسلمين قد عاشوا طيلة العصور الوسطى داخل فضاء عقلي يدعى الآن بالفضاء العقلي القروسطي الذي أخذت الحداثة تتجاوزه أو تقطع معه بدءا من القرن السابع عشر أو حتى السادس عشر ( في أوروبا على الأقل ) . فقد استمدوا من ميتافيزيقيا أرسطو وفيزيقاه ومنطقه وبلاغته عددا كبيرا من الأدوات المفهومية والتحديات القسرية أو الإيجابية من أجل أن يبلوروا اللاهوت اليهودي ، فاللاهوت المسيحي ، فاللاهوت الإسلامي. وعلى الشاكلة نفسها نلاحظ أن بعضهم اليوم يقوم بترقيع معرفي إذا جاز التعبير ، أي لملمة من هنا وهناك . فهم يستمدون موضوعاتهم وإشكالياتهم ومنهجياتهم ومرجعياتهم لا على التعيين . إنهم يستمدونها من أنظمة الفكر الخاضعة للعقل اللاهوتي ، أو لعقل التنوير ، أو للعقل الذي هو في طور التشكل والانبثاق الآن ( عقل ما بعد التنوير أو ما بعد الحداثة ) . هذه الطريقة التلفيقية أو الترقيعية في الكتابة والفكر تثير الدهشة والاستغراب حقا . فمثلا نلاحظ أن بعضهم يحاولون أن يجدوا في النصوص الدينية التاسيسية ( كالتوراة ، والإنجيل ، والقرآن ) ، أو في تفاسيرها الأكثر رسمية وترسيخا للأفكار أو التعاليم التي تستبق على حقوق الإنسان ، والعدالة الاجتماعية ، والديمقراطية ، والكرامة الإنسانية … الخ . وهكذا يقول اليهودي بأن كل هذه الأفكار التي أنتجتها الحداثة كانت موجودة في كتابه منذ زمن طويل ، وبالتالي فلا شيء جديد تحت الشمس . لا يمكن أن يطرأ أي شيء جديد بعد التوراة . كذلك يفعل المسيحي والمسلم . ولكن هذا إلغاء للتاريخية : تاريخية العقل وتاريخية الفكر . فالتاريخ يعلمنا أن النظام الفكري للحداثة غير النظام للعصور الوسطى . ولكن المؤمن التقليدي المنغمس كليا في يقينياته لا يستطيع أن يرى ذلك . إنه يلغي التاريخ : أي يلغي إمكانية حصول أشياء جديدة في التاريخ …

هذا يعني بالطبع أن بذور العدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية لم تكن موجودة في النصوص التأسيسية للأديان التوحيدية الثلاثة ، ولكنها كانت متصورة من خلال العلاقة الأساسية مع حقوق الله . لم يكن الإنسان قد استقل بعد أو حظي باستقلاليته الذاتية . هذا شيء لم يحصل إلا بعد عصر التنوير في أوروبا . عندئذ وثق الإنسان بنفسه إلى درجة أنه أصبح مقتنعا بأن عقله وحده يستطيع تسيير الأمور . وقل الأمر نفسه عن الديمقراطية . ولكن هناك فرقا كبيرا بين الديمقراطية بالمعنى الحديث للكلمة وبين الشورى . فالشورى محصورة بالفئة العليا من كبار المسلمين ، في حين أن الديمقراطية تشمل جميع البشر في المجتمع دون استثناء وبغض النظر عن اديانهم ومذاهبهم وأعراقهم وقبائلهم وعشائرهم .
وقل الأمر ذاته عن حقوق الإنسان . فقد كان يستحيل التفكير فيها ضمن الإطار العقلي للعصور الوسطى ، إلا من خلال علاقتها – أو خضوعها – لحقوق الله . وبالتالي فلا ينبغي إسقاط المفاهيم الحديثة على العصور القديمة كما يفعل التقليديون والأيديولوجيون . ينبغي التمييز بين العصور وبين إمكانيات العصور . فما كان مستحيلا التفكير فيه في العصور الوسطى أصبح ممكنا التفكير فيه في عصور الحداثة ، وما كان مستحيلا التفكير في عصور الحداثة قد يصبح ممكنا التفكير فيه في عصر ما بعد الحداثة على حد تعبير كرامشي …

ولكن ما علاقة كل ذلك بالإسلام ؟ وأين هي همومه من هموم الحداثة وما بعد الحداثة والمناقشات الصاخبة الدائرة عنها في أكثر البيئات الأوروبية والأمريكية طليعة ؟
الإسلام وهمومه وقضاياه واقع تحت تأثير إعصار كاسح. صحيح أنه يتشدد ويتجهم حاليا على الحركات الأصولية وذلك من خلال طقوسه الشعائرية التي تجذب عددا كبيرا جدا من المؤمنين ؛ صحيح أنه قادر على تعبئة جيش كبير من المناضلين والأنصار المستعدين لكل التضحيات ؛ صحيح أنه يلفت انتباه كل الاستراتيجيين السياسيين على المستوى الدولي .. وهؤلاء محاطون بالمستشارين والخبراء من كل الأصناف والأنواع ، فمنهم اللبيب الحاذق ، ومنهم الدجال الذي يريد أن يجد له موقعا في السلطة . ولكن ينبغي القول أيضا بأن الاختبار التاريخي أو المحنة التاريخية التي يخوضها الإسلام كدين منذ عام 1970 قد خلقت حالة لا مرجوع عنها . وهذه الحالة الجديدة تؤثر في كل الأديان غير الإسلام . وفيما وراء الأديان تؤثر في شروط إنتاج المعنى وكيفية انتشاره واستهلاكه من قبل المجتمعات البشرية كافة . ولهذا السبب جاء هذا المدخل مستفيضا لمسألة تحولات المعنى ، وبالتالي لتحولات الحقيقية الجارية تحت هذا الضغط الكبير .

ولكي أوضح الحالة التاريخية الراهنة لما أدعوه بالإسلام المعاصر ، ينبغي أن أولي بعض الأهمية للتسلسل الزمني للمراحل التاريخية التي مر بها . هناك بالطبع كتب عديدة جدا تتكلم عن الحداثة الإسلامية ، أو عن الإسلام الحديث ، أو عن الإسلام في مواجهة الحداثة . وكلها تعود في الزمن إلى الوراء حتى القرن التاسع عشر ( بداية عصر النهضة ) . في الواقع إن العناوين ينبغي ألا تخدعنا ، وذلك لأن مؤلفي هذه الكتب يهتمون أساسا بتقديم لمحة تاريخية عن المثقفين والباحثين العرب أو المسلمين الذين عاشوا في عصر النهضة . فقد حاول مثقفو النهضة أن يطبقوا على تاريخ المجتمعات الإسلامية قطعا متبعثرة ومقطوعة عن سياقها من المنهجيات الأوروبية التي ظهرت أثناء الحداثة الكلاسيكية لأوروبا ( أي في القرنين الثامن عشر والتسع عشر ) . فبعد أن جاءت البعثات من مصر و لبنان وغيرهما إلى أوروبا ، انبهر المثقفون العرب والمسلمون بهذه الحداثة ، فنقلوا منها إلى لغاتهم وبلادهم ما استطاعوا نقله أو فهمه واستيعابه . ولكنهم قطعوا فكر الحداثة الأوروبية عن سياقه الطبيعي إذ زرعوه في سياق آخر : هو السياق العربي – الإسلامي . وقد حظي هذا النقل بالقليل أو الكثير من النجاح طبقا لذكاء المؤلفين .لقد نقلوا أساسا المنهجية التاريخية كما كانت سائدة في القرن التاسع عشر في جامعات السوربون وبرلين واكسفورد … الخ . وهي المنهجية الفيولوجية – التاريخية المفيدة في تحقيق النصوص والمخطوطات القديمة ، ولكن الزمن تجاوزها الآن . وراح المستشرقون يصفقون لنجاحات تلامذتهم الكبار بعد أن عادوا إلى أوطانهم للتدريس في جامعاتهم ونقل العلم الأوروبي إليها . ولكن هذه النجاحات كانت نسبية جدا في الواقع . أقصد بالتلامذة هنا شخصيات من أمثال طه حسين ، وزكي مبارك ، وبشر فارس . فقد قلدوا منهجيات أساتذتهم المستشرقين وحاولوا ترجمتها وتطبيقها على الأدب العربي والتراث الإسلامي . ولكن الإسلام وتراثه لم يتأثرا أو لم يمسا كثيرا بهذه المحاولات الخجولة . أقصد أن تطبيق هذه المنهجيات المنقولة من أوروبا لم يصب التراث في العمق ولم يؤد إلى تأثير حاسم على كيفية فهم التراث الديني الإسلامي . ولو أنه فعل ذلك لما انفجرت الحركات الأصولية الحالية بمثل هذه القوة والعنف . ولو أن التراث التراث العربي - الإسلامي تعرض لمسح تاريخي شامل ولإضاءة نقدية – تاريخية شاملة لما حصل ما حصل لاحقا . هذه بديهة ينبغي أن يتأمل فيها المثقفون العرب المعاصرون ( وكذلك الأمر في ما يخص المثقفين الإيرانيين والأتراك وغيرهم من المسلمين ) .
 


 




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

من صوري

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي صورة!

فيديوهاتي

عذراً... لم يقوم المدون برفع أي فيديو !