مدخل:
ما كان الناس ليهتدوا بهدي القرآن الكريم و يلتزموا حدوده ... لو لم يفهموا معانيه و يدركوا أسراره ولذلك كان القيام بتفسيره من المهام الرئيسية التي كلف الله بها نبيه ص أثناء حياته بمقتضى قوله : »وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون « كما كلف بها علماء الأمة من بعده بمقتضى قوله : » فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين و لينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون « .
ومن مراتب فهم القرآن الكريم مرتبة البحث عن حقيقة مراد الله بأقصى ما تستطيعه الطاقة البشرية من احتياط و دقة في مراعاة ما يلزم مراعاته من أسس منهجية دقيقة لا تتوفر إلا لمن حاز ثقافة عالية و مواهب شخصية متميزة ...
و هذا النوع هو ما يمكن أن نطلق عليه التأويل.
الفصل الأول:
1- التأويل لغة و اصطلاحا :
لغة :
التأويل في اللغة هو : من آل الشيء يؤول إلى كذا ، أي رجع إليه قال أبو عبيدة معمر بن المثنى : ( التأويل : التفسير ، و المرجع و المصير )
اصطلاحا :
كان عمدة ما قاله الأصوليون في تعريف التأويل اصطلاحا هو : ( صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى مرجوح يحتمله ، لدليل دل على ذلك ).
2- شروط التأويل:
يرى العلماء أن التأويل لا يكون صحيحا ولا مقبولا إلا بتوافر مجموعة من الشروط، من أبرزها:
- لا بد لمن يقوم بهاته المهمة أن يكون أهلا للتأويل.
- أن يكون المعنى الذي أول إليه اللفظ من المعاني التي يحتملها اللفظ نفسه، ويدل عليها بطريق من طرق الدلالة، ويكون في نفس الوقت موافقا لوضع اللغة ولو مجازا أو عرفا أو عادة.
- أن يقوم على التأويل دليل صحيح يدل على صرف اللفظ على الظاهر إلى غيره وأن يكون هذا الدليل راجحا على ظهور اللفظ في مدلوله.
3- ما الذي يدخله التأويل ؟
- أولا : أغلب نصوص الأحكام التكليفية ، لأن عوامل الاحتمال موفورة
- ثانيا : أصول الدين : كالعقائد و صفات الله عز و جل و فواتح السور ...على رأي البعض و أطال العلماء في ذلك و اختلفوا على ثلاث مذاهب :
أن لا يدخل التأويل فيها ، أن لها تأويلا ، أنها مؤولة .
4- حجية التأويل :
ما ورد في القرآن الكريم من آيات تدعو إلى التدبر و التعقل و الاستنباط في القرآن الكريم ،منها : قوله تعالى:
- » و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم «
- » أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها «
مارواه البخاري و مسلم من أن النبي (ص) قال في دعائه لابن عباس رضي الله عنهما : » اللهم فقهه في الدين و علمه التأويل « ...
ماثبت من أن الصحابة رضي الله عنهم فسروا القرآن و اختلفوا في تفسيره على وجوه ...
لو كان التفسير بالرأي و التأويل غير جائز لما كان الاجتهاد جائزا.
الفصل الثاني: كلمة التأويل في القرآن و مدلولها:
مدخل :
إذا كان موضوع البحث هو : مفهوم التأويل من خلال القرآن الكريم - فإني أجد أنه من صلب الموضوع و عمدته أن يتم استخراج الآيات القرآنية التي ورد فيها ذكر كلمة "تأويل" ومشتقاتها ببسط مضمونها و معناها ، مع التركيز على اللفظة موضوع بحثنا هذا و ضرورة الإشارة إلى معناها حسب موقعها في الآية ، وذلك لإيفاء الغرض حقه و الوقوف على ما تحتمله هاته الكلمة من معنى .
كل هاته الخطوات ستتم وفق المراحل التالية :
عرض الآيات التي تتضمن كلمة "التأويل" و مشتقاتها :
و ذلك ضمن ترتيبين : - ترتيب لغوي اشتقاقي.
- تقسيم وظيفي أدائي .
شرح الكلمة داخل آياتها :
خلال هاته العملية سنقوم ببسط الآيات المشار إليها مفسرة ،بالتركيز على الكلمة المستهدفة ، وذلك وفق الترتيب الذي تأخده سور القرآن من الحزب الأول إلى الستين .
يحتل مصطلح أو لفظ التأويل في القرآن الكريم ... سبعة عشر موضعا موزعا على سبع سور كالتالي :
السورة نوعها عدد آياتها حجم ورود المصطلح فيها نسبة الورود
الأعراف مكية 260 2 0,97 ./.
الإسراء مكية 110 1 0.9 ./.
يونس مكية 109 1 0,91
يوسف مكية 111 8 7,2 ./.
الكهف مكية 105 2 1,9 ./.
آل عمران مدنية 200 2 1 ./.
النساء مدنية 175 1 0,57 ./.
1)عرض الآيات التي تتضمن كلمة "التأويل" و مشتقاتها :
أ - ترتيب لغوي اشتقاقي:
لفظة : تأويل
الآية رقمها السورة
- وكذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث.
- مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث.
- وما نحن بتأويل الأحلام بعالمين.
- و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل.
- رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث.
- سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا.
- ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا. 6
21
44
100
101
78
82 يوسف
يوسف
يوسف
يوسف
يوسف
الكهف
الكهف
لفظة : تأويلا
الآية رقمها السورة
- ذلك خير و أحسن تأويلا
- وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير و أحسن تأويلا 59
35 النساء
الإسراء
لفظة :تأويله
الآية رقمها السورة
- فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله 7 آل عمران
- و ما يعلم تأويله إلا الله 7 آل عمران
- هل ينظرون إلا تأويله 53 الأعراف
- يوم يأتي تأويله يقول الذين سنوه من قبل 53 الأعراف
- بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله 39 يونس
- نبئنا بتأويله انا نراك من المحسنين 36 يوسف
- قال لايأتيكما طعام ترزقانه إلانبأتكما بتأويله 37 يوسف
- واذكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون 45 يوسف
ب - تقسيم و ظيفي أدائي :
التأويل :
- فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و إلى الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا . النساء /آية 59
- هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين سنوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق . الأعراف / آية 53
- بل كذبوا بما يحيطوا بعلمه و لما ياتهم تأويله ، كذلك كذب الذين من قبلهم.
يونس / آية 39
- و أوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ، ذلك خير و أحسن تأويلا.
الإسراء / آية 35.
- سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا.
الكهف / آية 78
- و ما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا. الكهف / آية 82
تأويل الرؤيا :
- و كذلك يجتبيك و يعلمك من تأويل الأحاديث يوسف / آية 6
- و دخل معه السجن فتيان ، قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا و قال الأخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين قال لا ياتيكما طعاما ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن ياتيكما ذلكما مما علمني ربي . يوسف / آية 37 - 36
- قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين ، و قال الذين نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون يوسف / آية 45-44
- و كذلك مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث
يوسف / آية 21
- ورفع أبويه على العرش و خروا له سجدا ، و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا، و قد أحسن بي إذ اخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزع الشيطان بيني و بين إخوتي ، إن ربي لطيف لما يشاء ، إنه هو العليم الحكيم ،رب قد أتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث
يوسف / 101-100
تأويل المتشابه :
- هو الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب و أخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله ، و ما يعلم تأويله إلا الله و الراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ، و ما يذكر إلا أولوا الألباب .
سورة آل عمران / آية 7
2) ملاحظة و تحليل :
لعل أهم ما يميز مصطلح التأويل ... قلة وروده ... و قلة تشعباته الدلالية ... 1
و أول ما يلاحظ من خلال معطى الإحصاء :
أن حضور المصطلح في القرآن الكريم ضئيل جدا ، على مستوى القرآن الكريم كله ، عامة ، و على مستوى السور التي ورد بها خاصة . و هذا ما أثر على البنية المفهومية للمصطلح كما يتجلى ذلك في قلة صفاته و محدودية علاقاته و ندرة ضمائمه و انحصار قضاياه داخل النص القرآني .
أن قلة ورود المصطلح داخل السور متفاوت ، حيث تمثلت أعلى نسبة لوروده في سورة يوسف التي جاء التأويل فيها بكثافة ...
حضور المفهوم في القرآن المكي أكثر منه في القرآن المدني ، و لهذا كانت أمور العقيدة المتمثلة في الإيمان باليوم الآخر و الكتاب أحد المتعلقات المهمة بموضوع التأويل .
أن ورود المصطلح بهذه النسب المتفاوتة يوحي بالدلالات التالية :
- ارتباط التأويل في أكثر موارده بتعبير الرؤى و الأحلام ، و هو ما تضمنته آيات يوسف التي ورد فيها المصطلح مقترنا بالرؤى و الأحاديث ... و هذا أمر مفارق لما نجده خارج النص القرآني، حيث ارتبط التأويل في مجال الأصول و الكلام و الفلسفة و التصوف و اللغة أيضا بمجال النصوص من جهة صرفها عن دلالالتها الظاهرة إلى دلالات أخرى ، أكثر من ارتباطه بمجال تعبير الرؤى و الأحلام .
- ارتباط التأويل في مستوى ثان من موارده ، بالقرآن ، وذلك في آيات الأعراف و يونس و آل عمران حيث اتصل فيها المصطلح بضمير عائد على الكتاب .
- ارتباط التأويل في مستوى ثالث ، بعاقبة بعض الأفعال المخصوصة التي ورد ذكرها في آيات : الإسراء و الكهف و النساء .
أن المصطلح ورد في كل النصوص بالصيغة المصدرية معرفا بالإضافة تارة - و هو الأكثر - و نكرة تارة أخرى ...
المعاني و الدلالات يمكن رصها في الوحدات الدلالية التالية :
تأويل الكتاب - تأويل الرؤى و الأحلام - تأويل الأفعال 2
الفصل الثالث:شرح كلمة تأويل و مشتقاتها في سياق الآيات الواردة ضمنها :
انطلاقا من تفسير الآيات المشار إليها آنفا ، بالتركيز على الكلمة المستهدفة، ألا و هي التأويل ، و ذلك وفق الترتيب الذي تأخده سور القرآن . لنحصل في الأخير على خلاصة موجزة تتكون من بعض النقط التي تؤدي بنا في نهاية المطاف إلى بناء مفهوم عام و شامل و مقتضب للتأويل من خلال القرآن الكريم :
1) آل عمران:
جماع القول في القضيتين الرئيسيتين لمصطلح التأويل في القرآن الكريم ... و هما التفسير و المحكم
و المتشابه ، يتمثل في نتيجتين :
- الأولى : أن التأويل و التفسير في الاصطلاح القرآني ... منفصلان ، لأن التأويل تحقق فعلي للأشياء في الخارج ،
و التفسير علم بمعاني الألفاظ ...
- الثانية : أن المحكم أوسع دلالة من المتشابه ، لاشتماله على أمور العقيدة و الشريعة ، بينما يقتصر المتشابه على أمور العقيدة والشريعة ، بينما يقتصر المتشابه على أمور الغيب . ومن تم ، فالعلم بتأويل المتشابه من اختصاص الله عز شأنه ، وإنما سبيل الراسخين في العلم من الناس الإيمان به . مما يؤكد أن »التأويل« في الآية السابعة من آل عمران لا علاقة له بتفسير الألفاظ ... وإنما هو من قبيل التجليات الواقعية الفعلية لما جاء خبره بالألفاظ في القرآن الكريم ، سيرا على مجرى ذلك الأصل المطرد لمعنى التأويل في الاصطلاح القرآني .
2) سورتي النساء والإسراء:
قال تعالى في الآية 59 من سورة النساء: ( فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول إن كنتم تؤمنون بالله و اليوم الآخر ذلك خير و أحسن تأويلا ) .
أي الرجوع إلى كتاب الله و سنة رسوله خير لكم و أصلح و أحسن عاقبة و مآلا ...
و جاء في تفسير الجلالين : ( و أحسن تأويلا ) مآلا .
أما مؤلف مفهوم التأويل في القرآن و الحديث فقد ورد فيه :
.... (و أحسن تأويلا) ، أي و أحسن عاقبة و مآلا كما قاله السدي و قال مجاهد : و أحسن جزاء ، و هو قريب .
نفس التفسير و المعنى جاء في عمدة الحفاظ و مفردات الراغب الأصفهاني.
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة الإسراء آية :35 : » وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم ذلك خير وأحسن تأويلا « .
جاء في مختصر بن كثير حول معنى هاته الآية :
(وأوفوا الكيل إذا كلتم ) أي من غير تطفيف ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، (وزنوا بالقسطاس ) وه الميزان ، قال مجاهد هو العدل بالرومية وقوله ( المستقيم ) أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب : ( ذلك خير ) أي لكم في معاشكم ومعادكم ، ولهذا قال (أحسن تأويلا ) أي مآلا ومنقلبا في آخرتكم : قال قتادة : أي خير ثوابا وأحسن عاقبة.
وصفوة القول :
إن التأويل - في هاتين الآيتين من سورتي النساء والإسراء - عاقبة ومآل ،والعاقبة هي ما يعقب كل أمر ويشكل نهايته ومصيره المحتوم لذلك فهو وصف لازم لكل الأفعال المذكورة قبله ، ووصف هذه العاقبة بالحسن جاء تقويما عقليا وشرعيا لتلك الأفعال المتعلقة بمصالح العباد الاجتماعية والمالية والسياسية ، كل هذا جعل من التأويل مفهوما ذا قيمة من جهة ارتباطه بمفهوم اليوم الآخر وما يتفرع عنه من دلالات ، ومن جهة ارتباطه بمصالح دنيوية تستقر بها أحوال الناس ، وبها يمكن لدين الله في الأرض.
( 3سورة الأعراف :
قال الله عز و جل في الآية 53 من سورة الأعراف :
( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الطين سنوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق )
كعادته في التفسير أورد الصابوني المعنى اللغوي لكلمة التأويل في الآية قبل غيره ، فقال :
اللغة : ( تأويله ) عاقبة أمره و ما يؤول إليه من آل يؤول إذا صار إليه ...
و جاء في عمدة الحفاظ : ( هل ينظرون إلا تأويله ) أي مايؤول إليه أمرهم من البحث 1 ، أما في مفردات الراغب فقد ورد : ( هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله ) أي بيانه الذي هو غايته المقصودة منه .
4 ) سورة يونس :
قال الله تعالى : ( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله ) يونس آية 39.
وردت في تفسير الآية أقوال متقاربة كالتالي :
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه و لما يأتهم تأويله ) يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن ، ولم يفهموه ولا عرفوه
( ولما بأتهم تأويله ) أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى و دين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلا و سفها ...
نفس المعنى ذهب إليه الصابوني قائلا :
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه) أي بل كذب هؤلاء المشركون بالقرآن العظيم ، وسارعوا إلى الطعن به قبل أن يفقهوه ويتدبروا ما فيه ، و الناس دائما أعداء لما جهلوا ( ولما يأتهم تأويله ) أي و الحال لم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الوعيد ...
وكذلك قال آخرون :
( بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ) أي القرآن و لم يتدبروه (ولما ) لم ( يأتهم تأويله ) عاقبة ما فيه من الوعيد .
5) سورة يوسف:
خلاصات من آيات يوسف :
تأوبل الرؤى و الأحلام :
يعتبر تأويل الرؤى و الأحلام أحد الوحدات الدلالية الثلاث التي تؤطر للفظ التأويل في القرآن الكريم بالإضافة إلى »تأويل الكتاب « و» تأويل الأفعال« وهكذا فقد ارتبط في ثمانية من موارده القرآنية بالرؤى والأحلام ، وكانت سورة يوسف نصا زاخرا بهذا المعنى الذي تجسد في تركيب اصطلاحي عبر عن نضج المصطلح داخل هذا المجال : مجال» علم التعبير« ،وذلك من خلال ضميمتي تأويل الأحاديث وتأويل الأحلام 1 ، التي دلت بسياقاتها المختلفة على أن التأويل فيها هو تحقق ووقوع لما تؤول إليه الأحلام والرؤى - المعبر عنها بالأحاديث - كما دلت على أن العلم بهذا التأويل صنو للاجتباء و النبوة بما هو تعليم والهام رباني - وهذا ما دلت عليه شبكة من العلاقات ربطت بين تأويل الأحاديث و الاجتباء وإتمام النعمة والملك والتمكين في الأرض - لذلك كان للتأويل أثر واضح في توجيه حياة يوسف عليه السلام وارتبط بشكل مباشر بمراحل حياته كما تحكيها السورة.
تأويل الأحاديث :
ورد لفظ » الأحاديث « جمعا منه في خمسة موارد : اثنان منهما في سورتي المؤمنون (آية 44) وسبأ ( آية 19 ) وهما بمعنى الأمثولة والأعجوبة التي جعلت للناس مثلا في الشر ، وثلاثة مضافة إلى التأويل في سورة يوسف (وهي الآيات: 101 - 21 - 6 ) ، دلت على ما يحدث به الإنسان في منامه من الرؤى والأحلام من قبل الملك الموكل لذلك الأمر.......
تكتسي ضميمة » تأويل الأحاديث « في مواردها الثلاثة معنى : تحقق ما يراه النائم في نومه من الرؤى في الواقع وحدوثه أي ما تؤول إليه الصور المرئية في المنام المعبر عنها بالأحاديث في الواقع ، لكن ورود الضميمة في هذه الآيات مسبوقة بفعل التعليم يصنف إلى حدها قيد ا آخر هو العلم ، فيصير معناها حينئذ : العلم بما تؤول إليه الرؤى في الواقع ...
يلاحظ أن عملية تأويل الأحاديث تمر عبر ثلاث مراحل هي : الرؤيا والتعبير فالتأويل
وبذلك يتضح أن العلم بتأويل الأحاديث يشمل كل هذه المراحل ، ويكون التأويل - مع قيد العلم - متضمنا للتعبير لا مرادفا له كما ذهب إلى ذلك من فسر تأويل الأحاديث بتعبير الرؤى .بل ان التأويل مغاير للتعبير لا على سبيل التضمن فحسب ، بل من جهة اختصاص كل منهما بجانب من جوانب الرؤيا ، فالتعبير يهتم بالتفسير العلمي للرؤيا، والتأويل هو التطبيق العملي لها ، وهذا ينسجم تماما مع مراد الله عز وجل بلفظ التأويل في القرآن الكريم .
6 ) سورة الكهف :
قال الله سبحانه وتعالى في :
- الآية 78 : » سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا «.
- الآية 82 : » وما فعلته عن أمري ذلك تأويل ما لم تستطع عليه صبرا «.
ورد في مختصر بن كثير أن معنى التأويل هنا هو التفسير.
وهناك من قال أن آيتي الكهف تندرجان ضمن وحدة تأويل الأفعال، أي المآلات الحقيقية والعواقب المترتبة على تلك الأفعال المتضمنة للحكم البالغة والمقاصد المغيبة التي تنطوي على المصلحة ،وهي المآلات التي غابت عن علم موسى ولم يطق صبرا حتى بينها له العبد الصالح
الفصل الرابع : خلاصة لمفهوم التأويل من خلال القرآن الكريم :
يقود التدبر العميق لكل موارد لفظ التأويل في القرآن الكريم الى مجموعة من المعاني يمكن رصها في الوحدات الدلالية التالية
تأويل الكتاب :
جاء التأويل في ثلاثة من موارده القرآنية مرتبطا بالقرآن الكريم وذلك على الوجه التالي :
-ففي آية الأعراف : يأتي متصلا بالضمير العائد على الكتاب كله الذي جاء مفصلا من عند الله ... و المراد بتأويل الكتاب هنا : تحققه ووقوع ما فيه ...
ومما يناظر هذا المعنى ويقاربه ما جاء في آية يونس
- آية آل عمران تعلق التأويل فيها بالمتشابه - أي ببعض الكتاب وليس كله - الذي لا سبيل لبشر إلى العلم به .
تأويل الرؤى والأحلام :
وقد كانت سورة يوسف مصدرا ثرا له ، حيث دلت بآياتها وسياقاتها المختلفة على أن التأويل فيها تحقق ووقوع لما تؤول إليه الأحلام و الرؤى .
تأويل الأفعال :
جاء التأويل في أربعة من موارده القرآنية متعلقا بجملة من الأفعال و ذاك ما ثحدثت عنه آيتا الكهف ، والاسراء والنساء
ومن خلاصة الفصول والمباحث المدروسة نستنتج :
ينتمي لفظ التأويل اشتقاقا إلى الجذر ( أول ) ودلالة إلى معنى : الانتهاء والصيرورة والعاقبة والتحقق والمآل
أهم ما ميز مصطلح التأويل في القرآن ، كونه مصطلحا قليل الورود محدود الأبعاد ، فلم تسمع مشتقاته بالحديث المستقصي عن امتداد المصطلح عموديا بالتشعب الكمي ولا أفقيا بالتشعب الكيفي
مثلت ضميمتا » تأويل الحديث « و» تأويل الأحلام« مجالا امتدت فيه دلالة مصطلح التأويل ونمت
تضمنت نصوص المصطلح قضيتين أساسيتين ارتبطتا بالتأويل دوما ، وهما قضية التفسير ، وقضية المحكم والمتشابه، وقد قاد البحث في هاتين القضيتين إلى القول بأنه رغم التقاء التفسير بالتأويل من جهة معنى العاقبة والمصير ... ومن جهة كونهما نحوين من البيان ، فان التفسير علم بالمعنى ، والتأويل تحقق له الخارج ...
وهكذا ، فانه يتحصل من استقراء موارد اللفظ في القرآن ... أن التأويل فيها يستعمل بالمعاني التالية :
وقوع الرؤيا وتحققها في الواقع بعد العلم بتحويلها من صور مرئية متخيلة إلى حوادث واقعية ( وهذا المعنى هو المفهوم من آيات يوسف ) .
تحقق ما جاء في القرآن من الأمور ووقوعها يوم القيامة أو قبل ذلك بأقدار وكيفيات لا يعلمها إلا الله (وهو المفهوم من آيات الأعراف ويونس وآل عمران ) .
عاقبة بعض الأفعال المخصوصة ومآلاتها الحقيقية المتضمنة للمصلحة والخير في الدنيا والآخرة (وهو المفهوم من آيات الكهف والإسراء والنساء ) .
انطلاقا من هذه المعاني الجزئية يمكن استخلاص المعنى الكلي الذي يجمعها ويشكل بذلك تعريفا للتأويل من خلال القرآن الكريم ، وهو أن يقال :
التأويل في الاصطلاح القرآني هو ما يصير إليه القول أو الفعل من عاقبة وتحقق في عالمي الغيب أو الشهادة .
خاتمـــة :
إن فهم معاني الوحي وأوامر الدين ونواهيه لا يتم إلا عبر دراسة ألفاظ القرآن الكريم فهي مفتاح الوصول إلى ما نزل على الرسول صلى الله عليه وسلم ، لكن ما مفتاح هذا المفتاح الذي يحل المركبات و المفردات ؟
انه الدراسة المصطلحية لتلك الألفاظ القرآنية ، وهذا ما حاولت القيام به في هذا البحث بخصوص الوصول إلى مفهوم التأويل من خلال القرآن الكريم ، بسلوك و اتباع أصول و أدوات منهجية تجمع بين التحليل و التركيب و الاستقراء و الاستنباط .
إنجاز: ذ محمد الصوفي (ملخص بحث لنيل الإجازة في الشريعة)
التعليقات (0)