مفاوضات الـسـد والطريق المسدود
مصعب المشرّف
2 مارس 2020م
كان لابد أن تتعثر مباحثات سد النهضة الأثيوبي التي تجري في واشنطون بالولايات المتحدة . والسبب أن الدول الثلاث المعنية مباشرة بمياه السد دخلت قاعة هذه المفاوضات في ذلك البلد البعيد على أطراف نقيض متباينة ... وأما الطرفان الرابع والخامس المتمثل في البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية فكلاهما دخلا بأطراف أصابع أقدامهما بإلحاح من مصر . ولكن ليس لديهما ما يقدمانه . تماماً كما ليس لديهما إدراك بطبيعة (الملعب) الذي تهطل فيه أمطار هذا النهر وتنبع منه عيونه . وتجري به أوديته ويسيل مجراه من السماء وباطن الأرض.
نحن إذن بمواجهة خمس أطراف .... إثنان منهما ليس لديهما ناقة في الأمر ولا جمل ، وليس لديهما ما يقدمانه من تعهدات مقنعة . وثالثهما تايه وحيد يظن على غفلة منه أن الأمر لا يعنيه في شيء... ويتبقي طرفان هما أثيوبيا ومصر.
أثيوبيا تدرك اليوم أنها تملك في يدها جميع الأوراق والمبررات . ذلك أنها من حقها كدولة منبع أن يكون لها القـدَح المعـلّى . والمستفيدة الأولى من هذه المياه ؛ مثلما هو عليه الحال في العديد من دول منابع الأنهار في العالم ؛ ومنها على سبيل المثال حال تركيا القوية في تصريفها بحسب مصلحتها لكل من مياه دجلة والفرات.
وهذه الحقوق في مياه النيل الأزرق التي تتمتع بها أثيوبيا هي حقوق طبيعية إكتسبتها من واقع أن منابع وأمطار هذه المياه تقع ضمن أراضيها ... وأنها الأولى بالإستفادة منها تنمية وإرتواء لمواطنها ..... وأنها إن لم تكن في الماضي بحاجة ماسة إلى إستغلال هذه المياه لأسباب تتعلق بمعطيات ذلك الزمان. ولعدم القدرة بسبب التخلف التكنولوجي والعوز المالي الذي حال دون بناء سدود ومولدات طاقة كهرومائية جبارة . فإن الظروف الآن تغيرت وعلى النحو الذي تمكنت فيه أثيوبيا من تخطي العقبات التمويلية والفساد السياسي والإداري والبلاهة والسبهللية و الغباء العام ؛ لتصل إلى ما وصلت إليه من قناعات وقدرات وتنمية بشرية ؛ بعد أن تخلصت من أحمال أرتيريا وأوزارها ورمت بها عن كاهلها.
تقول أثيوبيا أنها لم تفرغ بعد من إجراء المشاورات الداخلية والفنية المرتبطة بمقترحات إعادة جدولة ملء بحيرة سد النهضة ..... وحيث يبدو أن البنك الدولي والخزانة الأمريكية (خزانة ترامب) لم تتمكنا من إعطاء ضمانات مالية قاطعة مرضية بشأن تعويض أثيوبيا عن الخسائر التي ستنجم عن تأخير تشغيل السد. أو بمعنى آخر فإن "إبطـأء" معدلات ملء بحيرة السد سيؤدي بالضرورة إلى تأجيل توليد الطاقة الكهربائية بالمعدلات المخططة ، سواء لرفد مشاريع التنمية والبنى التحتية داخل أثيوبيا أو بدء بيع جزء من هذه الطاقة إلى دول الجوار ... وهو ما يعني أن تكلفة بناء هذا السد سترتفع نتيجة تسديد أثيوبيا أقساط تمويله للبنوك والمؤسسات المالية المقرضة دون عائد من جهة .. وتعطيل التنمية الإقتصادية وما تتطلبه من خدمات وبنى تحتية مساندة لازمة لديها من جهة أخرى.
وبالطبع فإن أثيوبيا إن تأخرت في سداد أقساط ديون تكلفة بناء السد ، فسيقع على عاتقها تحمل المزيد من الفوائد الربوية والمصاريف والغرامات المالية . وفقدان ثقة المؤسسات المالية المقرضة مسنقبلاً.
لا أحد يعتب على أثيوبيا أنها بحاجة ومن حقها أن تتريث بعض الوقت حتى تتشاور فيما بينها لمصلحتها .. فهذا أمر فائق التعقيد ، وليس محض سلق بيض.
والذي رشح أمس من مناقير "العصافير" ؛ هو رفض أثيوبيا توقيع الإتفاق الذي تنشده مصر .. وأنها شرعت في الملء الأول لبحيرة السد.
مصر من جانبها نجحت بداية في جــر التفاوض إلى أرض حليفتها الولايات المتحدة ومن ورائها إسرائيل. التي يهمها الحفاظ على رضا وموقف مصر الحالي من قضية فلسطين والقدس . والإستفادة من ثقلها الدبلوماسي على الصعيد العربي المعني أساساً بقضية فلسطين وصفقة القرن... صفقة القرن التي وإن كانت مرفوضة فوق الطاولة. فإن هذا لا يعني رفض تمريرها تحت الطاولة.
ولكن الذي غاب عن ذهن مصر أن إسرائيل وحليفتها الإستراتيجية واشنطون ليستا بهذه السذاجة ... وأنهما عادة ما يدسان السم في العسل ويأتيان بالشيء وضده في آن واحد .... وكمثل الشيطان إذ قال للإنسان أكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.
كذلك لم تضع مصر في حسبانها أن أثيوبيا النجاشي ليست بالدولة التي يمكن كسرها والضفط عليها بالعصا أو الضحك عليها بربع جزرة وببعض هدايا عمرو بن العاص ونواعم الكلم ومعسول الكلام .. كما أنهم ودونا عن بقية الأفارقة متشبعون عاطفيا . ومن المحال إصطيادهم بمقاطع الفيديو والصور الفاضحة . وإبتزازهم مثلما حدث مع "جماعتنا" المحرومين في إتفاقية تقسيم الحصص عام 1959م.
وجاء أيضا أن المقترح المصري المقدم إلى الطرف الأثيوبي على طاولة المفاوضات المتعلق بسنوات وفرة المياه من جهة و شحها من جهة أخرى لم يكن مقنعا للجانب الفني الإستشاري للوفد الأثيوبي . بوصفه قدراً سماوياً لا يمكن مجابهته...
وبإختصار فإن أثيوبيا ترغب أن تكون في يدها حصة محددة من كمية الماء ، بحيث تملأ بحيرة السد على النحو المطلوب في مدة محددة.
كذلك جاء هذا الموقف الأثيوبي كرد فعل واقعي تجاه عجز البنك الدولي وخزانة ترامب الأمريكية منح أثيوبيا "شيكات على بياض" يضمن لها التعويض "الآلي الفوري" لخسائرها التي قد تترتب على إبطاء ملء السد وتشغيله حسب الجدول المخطط .
قصارى ما وجدته أثيوبيا من وزارة الخزانة الأمريكية والبنك الدولي هو مجرد وعود بالنظر بعين الإعتبار في شأن المساعدات والدعم المالي لأثيوبيا في حالة تأخير بدء تشغيل سد النهضة وبداية حصاد منتجاته من الكهرباء خاصة. وبالطبع فهي وعود لا يمكن التعويل عليها لأنها مجرد كلام في الهواء . ويتوقف تلبيتها على العديد من الخطوات والإجراءات والشروط التي تستغرق سنوات طويلة.. وشبيهة بتلك الشروط والمماطلات التي تتبعها الولايات المتحدة في مسألة رفع إسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
ويبقى موقف الوفد السوداني من ما يجري في مفاوضات سد النهضة الأثيوبي في الولايات المتحدة غريباً ومدعاة للقلق من تكرار التجارب السابقة لجهة الرضا بالمقسوم والقسمة الضيزى لما سيتبقى من مياه النيل الأزرق بعد أن تحجز أثيوبيا مقداراً وافراً من مياهه لديها .
ولقد زعم وزير الري السوداني أن تأثر السودان سيكون فقط في تقليل مساحة الجروف القابلة للزراعة الموسمية بالخضروات والعلف وفاكهة الصيف البطيخ والشمام ... ولكن الذي لم يلتفت إليه الوزير أن تقليل تدفق الماء في مجرى النيل الأزرق حتى توتي ثم ونهر النيل بعد المقرن سيؤثر أيضاً على تكلفة ري بساتين أشجار الفاكهة ومزارع الخضروات الممتدة على ضفتى النهر. والتي تعتمد على الري بالرافعات (الطلمبات) لأن الماء في هذه الحالة سيكون بعيداً جدا عن متناول هذه الرافعات.
وغفلة وزير الري عن هذه الحقائق تجلعنا نقلق بالفعل على مدى معرفة العقلية المائية التي تفاوض بإسم السودان في واشنطون . ولا ندري هل تشارك وزارة الزراعة السودانية في هذا الوفد بوزير الزراعة أم ببعض صغار موظفيها أم لاتشارك أصلاً ؟ . فالعبرة أن تشارك وزارة بوفد على رأسه وزير الزراعة بحيث يستطيع أن يقف نداً لوزير الري ويقول له لا.
وقد تسربت من داخل محل إقامة الوفد السوداني المشارك في مباحثات واشنطونً ؛ أن الوفد السوداني قد إنقسم على نفسه ، وسبب الإنقسام والخلاف فيما بينهم أن البعض قد طلب موافقة الوفد السوداني على حل مشكلة إعادة جدولة ملء بحيرة سد النهضة بتنازل السودان عن 20% من حصته الحالية في مياه النيل لمصلحة مصر هدية إضافية لتلك السلفة السنوية البالغة 6 مليارات متر مكعب التي ظل السودان يمنحها لمصر منذ العام 1958م حتى اليوم .... وهي بالطبع سلفة من المحال إسترجاعها في الظروف الماثلة لأسباب لا تزال قائمة. ولكن هناك تخوف مصري من يقظة سودانية مفادها أن السودان سيوقف الإستمرار في منح مصر هذه السلفة . ويمنحها إلى أثيوبيا بحيث تبقى تتراكم لمصلحة السودان سنويا داخل بحيرة سد النهضة. أو تعيدها له أثيوبيا على هيئة طاقة كهربائية.
والغريب في الأمر ولجهة التفكير في مبررات مقترح البعض تنازل السودان عن 20% من نصيبه في حصته الحالية من مياه النيل إلى مصر .. وسواء كان هذا المقترح صادر بالفعل من جانب بعض بلهاء السودان أو "عملاء" مصر في السودان المتجذرين منذ عام 1821م . أو صادر كبالونة إختبار من القاهرة .... فإن من ضمن مبررات هذا المقترح أن السودان لديه مخزون ضخم من المياه الجوفية.
وهذا مبرر مضحك إلى أبعد ما يمكن . ويصل إلى حد الإستغفال والإستحمار للعقلية السودانية الوطنية . ويستحق إن وافقنا عليه ليس وضع السودان تحت البند السادس بل ربما تحت بند الوصاية التامة .. وأن يبعث لنا الأمين العام للأمم المتحدة بحاكم بريطاني عام وسكرتيران لإدارة السودان.
بداهة فإن المياه الجوفية تحتاج إلى تكاليف وأموال فلكية لإستخراجها .. وليت هذا يكفي . وحيث يضاف إلى ذلك تكاليف ضخ المياه من أجهزة وآلات وقوى عاملة ومباني وأنابيب ؛ بما يجعل من تكلفتها فوق ما يمكن تصوره مقارنة بتكلفة مياه النيل ... هذا بالإضافة إلى زيادة نسبة ملوحة المياه الجوفية . وأنها لا تحتوي على الطمي المغذي والمجدد للتربة الزراعية والرعوية ..
كذلك فإن تنازل السودان عن 20% من حصته إلى مصر يعني بالضرورة إنخفاض مناسيب الماء في بحيرات السدود لدينا . وبما يعني تهديد ري مشاريع الجزيرة والرهد والدنيد وسنار والمناقل وغيرها . وتخفيض معدلات توليد الطاقة الكهربائية بأقل مما هي عليه الآن من شح لا يكفي البلاد.
واليوم وفإن الصورة هي على النحو الآتي:
وحيث لايزال المصري يتمسك بالحياة والتكدس جوار مجرى نهر النيل ويرى في ذلك حفاظ على التواصل الإجتماعي .. إلخ. مما لم يعد يتماشى مع ظروف العصر الشحيح في الموارد المتزايد السكان.
وكذلك تبرز ظاهرة الإهمال في صيانة البنية التحتية لشبكات إمدادات المياه والري . والبطء في إصلاح التالف الذي يؤدي إلى تسرب المياه منها فوق وباطن الأرض . وحتى ثقافة المواطن المصري في إسرافه بإستهلاك المياه داخل المنازل وأمامها وأمام المحلات التجارية والمقاهي والمطاعم .. إلخ واضحة ومشاهدة سواء أمام أعين المواطن أو المقيم بها ولكل زائر لمصر.
وربما لو إتجهت السلطات المصرية إلى مضاعفة أسعار الماء للمستهلكين لديها أو حتى إلى الثلاثة أضعاف . وإلى الرقابة في تحصيل فواتير إستهلاك الماء والكهرباء من المستهلكين بدلاً من تركها للمحصلين وذممهم وضمائرهم . فلربما يزداد حرص المصري على التقليل لأقصى ما يمكن من إسرافه في وتنافسه في هدر هذا المورد الإستراتيجي الحساس. .... مع الوضع في الإعتبار أن حاجة مصر للمياه تظل متصاعدة بالنظر إلى تنامي عدد السكان لديها دون ضابط . وحيث يصطدم تحديد النسل لديهم بالعديد من الموانع النفسية والعادات والتقاليد المتجذرة وحبهم لما يسمونه بـ الخِلفة.
ثم أنه بعد زيارة الرئيس الألماني للبلاد وقراره رفع إسم السودان من قائمة الحظر الأوروبي . وصدور قرار رسمي بهذا الشأن من مؤسسة الإتحاد الأوروبي بآلياته الفاعلة المعترف بها دوليا على نطاق واسع ولدى الأمم المتحدة . فقد أصبحت مسألة رفع إسم السودان من القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب محض تحصيل حاصل .. ولن يؤدي رفعها إلى نصر سياسي للحكومة الإنتقالية أو المجلس السيادي مجتمعين أو منفردين ... وحيث تظل الدول الأوروبية والأفريقية ودول أوروبا الشرقية وآسيا هي المجال الحيوي الإستراتيجي للتجارة السودانية ....... وطالما كان الأمر كذلك فعلينا بعدم التسرع وتقديم تنازلات لا داعي لها ولن تقدم أو تؤخر.
التعليقات (0)