مواضيع اليوم

مفاوضات "إكس ليبان" من أصاب ومن أخطأ في عيون التاريخ والشعب: مؤيدوها أم معارضيها؟

إدريس ولد القابلة

2012-10-06 23:12:39

0

 لاستيعاب الحاضر قصد استشراف المستقبل لا مندوحة عن فهم التاريخ وتتبع مآل قرارات الأمس ونتائجها. ومن لحظات هذا الأمس يوم 2نونبر 1955 الذي شكل لحظة مفصلية في تاريخ بلادنا الحديث، والتي مازالت تداعياته حاضرة إلى الآن بشكل أو بآخر. إنها لحظة مفاوضات "إكس ليبان" التي عارضها البعض ودافع عنها البعض الآخر بقوة.

 وبالنسبة للطرفين شكلت هذه مفاوضات لحظة مفصلية في مسار المغرب ترتبت عليها نتائج، فمن أصاب ومن أخطأ من هؤلاء في عيون التاريخ والشعب: مؤيدو مفاوضات "إكس ليبان" أم الذين ظلوا يعارضونها؟

 

الأجواء العالمية

 

مع بروز المد الشيوعي، وما كان يشكله  من خطر على الغرب المستعمر (بكسر الميم الثانية)، واعتبارا لكون التواجد المباشر في المستعمرات أضحى مكلفا، علاوة على هزيمة الجيش الفرنسي في معركة "ديان بيان فو" في الفيتنام  في مايو1955- التي لم يسبق أن عرفتها خلال تاريخها الاستعماري- وإعلان الكفاح المسلح بقيادة جبهة التحرير الوطني في الجزائر ابتداء من 1954، وتزايد الغضب الشعبي بالمغرب الذي بدا جليا في عدة مناسبات أبرزها 20غشت1955، سارعت فرنسا على غرة بفتح مفاوضات بخصوص استقلال المغرب. وقد اعتمدت باريس آنذاك خطة  تقضي بفتح مفاوضات في كل من تونس والمغرب مع حلفاء محليين لبناء نظام سياسي يحفظ مصالحها ونفوذها هناك، قصد تركيز قوتها العسكرية بالجزائر. لكن سرعان ما بدا لها أن إمكانية نجاح حلفاء محليين شبه منعدمة بالنظر للتعاطف الشعبي الكبير لدى جبهة التحرير الوطني ولقوتها العسكرية المتزايدة. ولإجهاض تنامي خلايا المقاومة وإيقاف القوة المتزايدة لجيش التحرير المغربي طبخ الاستعمار الفرنسي مفاوضات "اكس ليبان" التي حضرها من الجانب المغربي ممثلون عن حزب الاستقلال، حزب الشورى والاستقلال وممثلون للسلطان وقواد الاستعمار في غضون شهري غشت وشتنبر1955.

وكاد المتتبعون أن يجمعوا على القول إن المخابرات الفرنسية وقتئذ هي التي هندست لمفاوضات "إكس ليبان" لاستمرار ضمان سيطرة باريس على المغرب بعد الاستقلال.

 

إعلان "سيل سان كلو" أحكم الغرزة منذ البداية

 

آل المطاف إلى الاتفاق  على رجوع السلطان محمد الخامس من مدغشقر وإعلان "نية" فرنسا في منح المغرب استقلاله في 2 نونبر - 1955 – وهذا ما يُعرف بإعلان "سيل سان كلو"-   إلا أن تفاصيله ستحدد فيما بعد من الإعلان المشترك والبروتوكول الملحق به في 2 مارس1956. وهذا ما شجع الاستعمار الاسباني على توقيع اتفاق  2 أبريل1956 مع السلطان  محمد الخامس للانسحاب من شمال المغرب. وجاء في ديباجة الإعلان المشترك أنه حصل الاتفاق  بين حكومة جمهورية فرنسا وسلطان المغرب محمد الخامس.

 

انطلقت النقاشات يوم 23 غشت 1955 ودامت خمسة أيام وكان الوفد الفرنسي المفوض الذي حضر مناقشات إيكس ليبان يتكون من إيدكار فور رئيس الحكومة والسيد بيناي، وزير الشؤون الخارجية والجنرال كوينغ وزير الدفاع وروبيرت شومان وبيير جولي. بينما كان الوفد المغربي يتشكل من 37 شخصية كان من بينهم مبارك البكاي، الحاج الفاطمي بنسليمان والحاج محمد المقري إضافة إلى ممثلي الأحزاب: عبد الرحيم بوعبيد ومحمد اليازيدي وعمر بن عبد الجليل والمهدي بن بركة من جانب حزب الاستقلال، وعبد القادر بن جلون واحمد بن سودة وعبد الهادي بوطالب ومحمد الشرقاوي من طرف حزب الشورى والاستقلال. إلى جانب الشخصيات السياسية وجد بعض العلماء كالسيد جواد الصقلي وحميد العراقي. كما ضم الوفد بعض القياد .

 

وإذا كانت معاهدة 30مارس1912 جاءت بطلب من السلطان بن يوسف بعدما حاصرته القبائل المجاورة لفاس، وأصبحت معظم مناطق البلاد خارج سيطرته، فان بإعلان 2 مارس1956 نص على أن الفترة الفاصلة بين التاريخين، مرحلة أنجز من خلالها المغرب تقدما لم تعد المعاهدة المذكورة بعده صالحة لتنظيم العلاقات الفرنسية المغربية. وكما جاء في نص الإعلان المشترك بأن مفاوضات ستجمع في باريس بين المغرب وفرنسا هدفها توقيع اتفاقيات جديدة لتنظيم العلاقات بين البلدين في مجالات المصلحة المشتركة أساسا: الدفاع، العلاقات الخارجية، الاقتصادية، والثقافية، والتي تضمن حقوق وحريات الفرنسيين المقيمين في المغرب والمغاربة المقيمين في فرنسا. ويضيف الإعلان المشترك ، في انتظار توقيع الاتفاقيات الجديدة بين الطرفين وبناء المؤسسات الجديدة، لن يتم المس بوضعية الجيش الفرنسي، وأن الجيش الذي سيتوفر عليه سلطان المغرب سيتم تشكيله برعاية فرنسية. أما الفقرة الأولى من البروتوكول الملحق فقد تم فرض من خلالها الإطلاع على جميع مشاريع الظهائر والمراسيم من طرف ممثل فرنسا بالمغرب لأجل وضع ملاحظاته على النصوص، سيما فيما يتعلق  بالمس بمصالح فرنسا والفرنسيين أو الأجانب خلال الفترة الانتقالية.

 

بعد توقيع الإعلان المشترك والبرتوكول الملحق، رفعت حكومة مبارك البكاري لهبيل أربعة رسائل تحمل طلبات لنظيرتها الفرنسية، منها رسالة تطلب من الحكومة الاستعمارية الفرنسية الاستمرار في تسيير العلاقات الخارجية للمغرب وتمثيل وحماية المواطنين المغاربة ومصالحهم في الخارج حتى الاتفاق عل إجراءات جديدة.

 

وكان  عبد الرحيم بوعبيد قد أقرّ في مذكراته أن عارض لقاءات ايكس ليبان علانية، كما أقرّ أنه لم يتم استدعاء حزب الاستقلال إليها  من أجل التفاوض مع الحكومة الفرنسية حول مستقبل العلاقات الفرنسية المغربية، بل من أجل عرض وجهة نظره كحزب فقط. وللإشارة لم يتمكن بوعبيد الالتحاق بفرنسا بعد خروجه  من السجن إلا بعد إلحاحه على المقيم العام  بتسليمه جواز سفر للتفاوض مع ممثلي الحكومة الفرنسية حول مستقبل المغرب، هذا ما أكده بنسعيد أيت ايدر.

 علما أن هذه اللقاءات خطّط له الرئيس "إدغار فور"من أجل أن يوضع الوزير الفرنسي في الشؤون الخارجية، على وجه الخصوص على إطلاع على الملف المغربي. وقد اشترط السيد "أنطوان بيناي"، أحد أعمدة أغلبية الرئيس فور استدعاء كل التيارات، بما فيها المخزن  والباشوات و قياد الحماية .

كما أكّد عبد الرحيم بوعبيد بوضوح أنه لم تكن هناك مفاوضات في "اكس ليبان". وقد خُتم اللقاء بين الوفد الفرنسي  وممثلي حزب الاستقلال – الذي جرى على انفراد- بالمطالبة  بضرورة  الاتصال مباشرة مع السلطان محمد الخامس في المنفى بمدغشقر، لأن دون مشاركة  للعاهل الشرعي للبلاد، ليس هناك حل مقبول لمجموع الشعب المغربي.

 

زيارة محمد الخامس في المنفى

 

مادام أن السلطات الفرنسية قد وقعت معاهدة الحماية مع السلطان في شخص مولاي عبد الحفيظ سنة 1912، فقد كان لزاما عليها من الناحية القانوية أن يتم التفاوض على مبدأ الاستقلال مع السلطان محمد بن يوسف. لذا اقترح وفد حزب الاستقلال من السلطات الفرنسية السماح له من لقاء السلطان محمد الخامس في منفاه لإطلاعه على الأمر، إلا أن باريس ارتأت غير ذلك، إذ تم إرسال الجنرال الجنرال "كاترو" و"هنري يريسو"، مدير ديوان وزير الخارجية إلى "انتسيرابي"، كموفدين خاصين للحكومة الفرنسية، يلحصول على تزكية الملك من أجل إنشاء مجلس العرش، برئاسة البكاي، مقابل نقل الأسرة الملكية إلى فرنسا لفترة غير محدودة تتراوح بين ستة اشهر وسنتين. علما أن باريس كانت تبيت لتشكيل حكومة تحت إشراف مجلس العرش متحكم فيه. بعد ذلك زار الملك بالمنفى وفد  يضم كلا من البكاي والفاطمي بنسليمان –هذا الأخير كان من مبايعي السلطان المفبرك بن عرفة سنة 1953 - ثم وفد حزب الشورى والاستقلال المكون من عبد الهادي بوطالب وعبد القادر بن جلون، الذي لم يخف رفضه التام لمجلس العرش الذي تم تنصيبه لمباشرة المفاوضات من أجل تشكيل حكومة الواجهة.

وبعد مشاورات طويلة لعب فيها ولي العهد آنذاك مولاي الحسن (الملك الحسن الثاني) دورا أساسيا في توجيه الموقف الذي اتخذه السلطان محمد بن يوسف من المخطط، وهو الموافقة على المخطط مع التحفظ بإعلان ضرورة بقاء مجلس العرش مؤقتا إلى حين عودة السلطان إلى أرض الوطن.

وأمام هول وشراسة المقاومة، لم يجد الفرنسيون بدا من الرضوخ لفكرة إعادة السلطان الشرعي السلطان محمد بن يوسف إلى بلده والعدول عن فكرة إبعاده عن العرش. وكانت هذه العودة مظفرة إلى أرض الوطن يوم 16 نونبر 1955 إعلان عن أفول الاستعمار.

 

 

أيام بعد "اكس ليبان"

 

حسب الراحل عبد الهادي بوطالب، خلال الفترة الممتدة ما بين 20 و30 غشت 1955، انعقد ما يعرف بمؤتمر إكس ليبان لاستشارة جميع ممثلي سكان المغرب بمن فيهم الفرنسيون المعمرون و التهامي الكلاوي، وفي هذا اللقاء تم الاتفاق على سحب ابن عرفة بسلام الى حيث يشاء و إنشاء مجلس وصاية العرش وتعيين محمد بن يوسف السلطان لحكومة مفاوضة بعد انتقاله من جزيرة مدغشقر الى فرنسا. وقد تميزت فترة معدودة في أيام معدودة بعد لقاء إكس ليبان باختلاف في الرؤى حول من يكون في وصاية العرش بين الوطنيين من جهة والفرنسيين من جهة ثانية. وأخيرا تم التوصل إلى اتفاق أفضى إلى تعيين  الصدر الأعظم المقري، والباشا الصبيحي  والقبطان الطاهر أوعسو والباشا البكاي. هؤلاء الأشخاص عينوا رسميا في 15 أكتوبر 1955 وفي 24 من نفس الشهر والسنة. والتحق التهامي الكلاوي بالجنرال "لاتور" بالاقامة العامة ليبلغه اعتراضه القوي على تعيين مجلس الوصاية على العرش وسأله عما يريد: فأجابه الكلاوي، أريد رجوع محمد الخامس إلى عرشه. وفي 3 نونبر 1955 قدم مجلس الوصاية استقالته إلى الإقامة العامة وفي 16 نونبر 1955 كان هبوط طائرة محمد بن يوسف (محمد الخامس) بمطار الرباط - سلا.

 

وفي  الوقت الذي كانت فيه المفاوضات جارية في لقاء إكس ليبان، فإن جيش التحرير والمقاومة المسلحة لم يكونا راضيين عن تلك المفاوضات التي اعتبراها مشلولة بفعل الحضور القوي للجانب الفرنسي في المفاوضات من خلال عملائه، باعتبارها كانت في صالح فرنسا  وعلى مقاسها.

وفي هذا السياق أقرّ بنسعيد آيت يدر أنه بعد عودة السلطان محمد بن يوسف إلى عرشه وفي خضم الإعداد للاستقلال،وبناء الدولة الوطنية سيعقد حزب الاستقلال مؤتمره الاستثنائي الأول سنة 1955 ، وقد شارك فيه أعضاء من المقاومة وجادلوا عبد الرحيم بوعبيد . وتساءلوا لماذا تم إبعاد الحزب عن رئاسة الحكومة ولماذا لم تسند للحزب الوزارات الأساسية، ولماذا لم تنعكس قوة الحزب التنظيمية على حجم تواجده بالحكومة،وأجاب عبد الرحيم بأنه يتفهم  أسئلة المناضلين، ويشاركهم القناعة بأن حزب الاستقلال تعرض للحيف عند تشكيل حكومة البكاي لهبيل الأولى، وأضاف "قبلنا على مضض".

 

فبعد عودة محمد الخامس من منفاه، كانت المعارك ما تزال مستمرة في شمال المغرب ، وكان هناك إلى جانب اختيار التفاوض مع فرنسا من أجل الانسحاب السلمي من المغرب ، اختيار أخر بلورته لجنة تحرير شمال إفريقيا بزعامة محمد بن عبد الكريم الخطابي ،وهو إجبار فرنسا عسكريا على الرحيل من شمال إفريقيا كله (المغرب العربي) وعدم قبول الحلول الانفرادية، إذ أن زعماء جيش التحرير في المغرب  كانوا مشبعين آنذاك بروح الكفاح المسلح من أجل تحرير المنطقة . غير أن التونسيين كانوا هم السباقين لخرق هذه الخطة ، وتبعهم المغارب.

 

وأكد عبد الله الصنهاجي في مذكراته إن ما يثير الباحث في علاقة حزب الاستقلال بالكفاح المسلح وجيش التحرير هو ذلك التذبذب بين دفاعه عن فكرة التفاوض مع الاستعمار الفرنسي ونسج علاقات صداقة مع ممثلي السلطات الاستعمارية في عز الحرب التي كان يشنها جيش التحرير على هذه القوى،وتبنيه في نفس الوقت العمليات العسكرية للمقاومة المسلحة . و في ذلك تظهر إستراتيجية الحزب في الاستفادة من تبعات هذه الحرب المعلنة ضد الاستعمار وقطف ثمارها دون المشاركة فيها عن طريق ملاحظتها من بعيد ومحاولة التأثير فيها وتوجيهها في صالح تكتيكات الحزب التي كانت تنتظر فتح المفاوضات مع فرنسا.  وفي اجتماع دار بمركز جيش التحرير بتطوان شاركت فيه القيادة الميدانية بحضور بعض نخب و متعاطفي حزب الاستقلال حاول هؤلاء تمرير وثيقة للتفاوض مع فرنسا حول استقلال المغرب . و يصيف الأستاذ الصنهاجي  أن عبد الكبير الفاسي  "أبلغني بأن الجماعة تنتظرني لتطلعني على تقرير مفصل عن خطتها ، وبدأ في تلاوة التقرير المذكور وبعد اختتامه استنتجت منه أنه وقع اتفاق بين المتحزبين مع الفرنسيين على الاستقلال الداخلي للمغرب دون رجوع محمد الخامس ، على غرار ما وقع في تونس ، وأنه لا داعي لعمل جيش التحرير."

 

لكن لماذا مفاوضات "اكس ليبان"؟

 

كثيرون هم الذين ظلوا يعتقدون – اعتقادا راسخا-  أن المقاومة الشرسة للمغاربة كانت وحدها كافية لإجبار الفرنسيين على الجلوس إلى طاولة المفاوضات. والحال أن عوامل أخرى ساعدت على حصول هذه المفاوضات.
بينما يبقى السبب الأهم في قبول فرنسا المفاوضات – حسب كل المؤرخين- هو رغبتها في تقويض مخطط مكتب المغرب العربي بقيادة  عبد الكريم الخطابي الذي فر من قبضة الفرنسيين عندما رست السفينة التي كان محتجزا على متنها في "بور سعيد"، واستقر في القاهرة بالديار المصرية ، وهناك حرر "ميثاق 47" الذي نص بنده الثاني على ضرورة مواصلة الكفاح حتى تحرير المغرب العربي الكبير.
وهذا الميثاق وقعه آنذاك علال الفاسي من المغرب والحبيب بورقيبة من تونس والشاذلي المكي من الجزائر. فكان ضروريا أن تجد فرنسا طريقة لفك ارتباط مكتب المغرب العربي، لذا اقترح رئيس الحكومة الاشتراكي "بيير مونديس فرانس" الاستقلال الذاتي على تونس، فقبلت. واقترح على المغرب مفاوضات "إكس ليبان" فقبل. وهكذا، انفردت فرنسا الاستعمارية بالجزائرالتي ظلت تعتبرها الأولى امتدادا طبيعيا لها.



 

 

موقف بن عبد الكريم  الخطابي من المفاوضات

 

ولم يكن علال الفاسي وحده في القاهرة يعارض مفاوضات مغربية انفرادية مع فرنسا، بل كان هذا كذلك موقف بطل حرب الريف محمد بن عبد الكريم الخطابي. ونفس الموقف تبناه قادة جبهة التحرير الجزائري في عين المكان بالديار المصرية، إذ كانوا يرون  أن كل تفاوض انفرادي، هو من قبيل خيانة للشعب الجزائري ،لأن مستقبل الجزائر ، وقتئذ، كان مرتبطا أشد ما يكون الارتباط بالمغرب وتونس، وهذا ما ظل يزكيه بن عبد الكريم الخطابي.

وقد ظل محمد بن عبد الكريم الخطابي يُعتبر من المجاهدين والمقاومين المدافعين باستماتة على استقلال المغرب الفعلي والشامل، هكذا كان يراه كل المغاربة التواقين للتحرر.

وقد أصدر محمد بن عبد الكريم الخطابي بيانا في شأن مفاوضات "إكس ليبان" نقتبس منه ما يلي:

 

"وقد اقتدت جماعة الرباط بجماعة تونس المستسلمة فأبرزت اتفاقية إكس ليبان إلى حيز العمل والتنفيذ، وأخذت تناور وتدلس وتغري الشعب المراكشي(المغربي) بالكلام المعسول. وهي سائرة في نفس طريق اتفاقية تونس وستطالب المناضلين بإلقاء السلاح،بعدما طلبت منهم الهدوء بحجة أن المفاوضة لا تكون إلا في الهدوء، والهدوء لا يكون إلا بإلقاء السلاح (...) حين يتفرغ الأعداء للقضاء على الجزائر. فحذار من السقوط في الفخ المنصوب، وإننا على يقين من أن الشعب المغربي سوف يستمر في الكفاح والنضال إلى أن يخرج من بلاد المغرب بل من شمال إفريقيا كلها آخر جندي فرنسي يحمل السلاح من جماعة المستعمرين."

 

ومن المعلوم أن أهالي شمال البلاد – الذي كان تحت نير الاستعمار الاسباني- ساهموا بشكل كبير في المقاومة ومحاربة الاستعمار، وكانوا ضمن جيش التحرير ودعموه بقوة، وبادروا إلى حل أحزابهم السياسية المتواجدة آنذاك، ومنها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية وحزب المغرب الحر آملين في الاندماج مع إخوانهم بالجنوب. لكن رغم كل هذا تم إقصاؤهم. ومنذئذ نشأ الإحساس بالتهميش، لذا لم يشعر أهالي الشمال ببركات الاستقلال على علته.

 

خيبة الأمل

 

في اليوم الذي تم فيه "طبخ" مفاوضات "إكس ليبان" صرّح الدكتور المهدي المنجرة قائلا إنها "خيانة"، وشاءت الأقدار أن يُصرّح بذلك في مكان غير بعيد عن جامعة السوربون. وبعد الاستقلال أكد المنجرة نفس الكلام في برنامج إذاعي شارك فيه ثلة من المغاربة، منهم عبد الهادي بوطالب، إلا أن السلطات فضلت عدم بثّ فحواه على الهواء وحجبته عن المستمعين.

لكن لماذا كانت مفاوضات "إكس ليبان" خيانة في نظر الدكتور؟

إن الحركة الاستقلالية المغربية كانت تهدف بالأساس إلى تحقيق استقلال حقيقي وبناء المغرب من جديد، أي أن هدفها كان التغيير وليس الإصلاح، في حين أن مفاوضات "إكس ليبان" اقتصرت على مجرد إصلاحات من نوع معين يسمح  للاستعمار الفرنسي بالبقاء بالمغرب عبر زرع حلفائه ومواليه في مراكز صنع القرار. وبذلك، في نظر الكثيرين، كانت بداية ترسيخ "استعمار جديد"، وأضحى من ولج منظومته – حتى من تقدميي النخبة- يجد نفسه أمام أمرين لا ثالث لهما، إما المطالبة بالتغيير الجذري أو التكيف مع الواقع القائم والبحث عن البقاء. وهذا ما وقع للمعارضة عند وصولها لسدة الحكم. لذا يرى البعض أن النخبة ساهمت في "بيع المغرب بالمزاد"، وبذلك تقوى أكثر الاستعمار الاقتصادي لبلادنا، ولم يعد لأي شيء مستقبل، ما عدا شيء واحد هو الفقر، وفي هذا السياق تأتي مقولة المهدي المنجرة "الفقر هو الشيء الوحيد الذي له مستقبل في المغرب".

بُعيد الاستقلال سرعان ما حلت الخيبة وقضت على آمال فترة النضال والكفاح من أجل الاستقلال. وبعد سنوات قليلة تم الترويج لفكرة أن نظام الأحزاب السياسية كأسلوب للتنظيم السياسي والبناء الاقتصادي باء بالفشل. وقتئذ تم استخدام كل الوسائل للترويج لدعاية فشل الأحزاب في المغرب، إذ جُنّدت وسائل الإعلام لهذا الغرض. هذا ما سهّل تدبير انقلاب على حكومة عبد الله إبراهيم الوطنية في مايو 1960 .

وهذا ما قوى الاعتقاد الذي ترسخ عند البعض، والذي مفاده أن الاستعمار اعتمد على الخونة والإقطاع لتحويل مفاوضات الاستقلال الفعلي إلى خدعة ظلت سائرة المفعول على امتداد عقود، وتناسلت تأثيراتها مع مرور الوقت. آنذاك كان الاستعمار الفرنسي قد اختار استراتيجية الهروب إلى الأمام وانتهاج"الاستقلالات" الشكلية الممنوحة لضمان مصالحه واستمرارها.  هذا هو الأساس التاريخي لتحول الاستعمار التقليدي إلى الاستعمار الجديد. أي الاستغناء على الاستعمار الاستيطاني المباشر والمرئي لتوكيل الاستعمار لأبناء جلدتنا حتى يصبح غير مباشر وغير مرئي.

إن هذه الإشكالية أسالت الكثير من المداد واللعاب ببلادنا، وظلت حاضرة لدى أفراد النخبة الذين أبوا أن يسلكوا سبيل الانتهاز والارتزاق.

هذا هو الفخ الذي تم نصبه في طريق التحرر الفعلي للبلاد في نظر الكثيرين، الذين رأوا أنه كان من المفروض تحديد موقف من قضية الديمقراطية منذ الوهلة الأولى، كما كان من البديهي أن تتم مراجعة كاملة وشاملة وجذرية للجهاز السياسي والإداري في البلاد لأنه كان في جلّه ولبّه يخدم المصلحة الاستعمارية. وهذا المطلب ظل سائدا في مغرب منتصف خمسينات القرن الماضي، عندما اختار المغاربة سبيل الاستقلال وفك الارتباط مع الاستعمار. ففي سنة 1953 تم طرح  مسألة الملكية لكن دون التدقيق في تحديد المسؤوليات في نطاق الإشكالية الدستورية، لكن سرعان ما تم صرف النظر عنها. وبذلك تم تأجيل موعد الديمقراطية لأجل غير معلوم.

 

" جنينا ما زوعناه"

 

يرى المناهضون لاتفاقيات "إكس ليبان" أنها شكلت مصدر كل المصائب التي بالبلاد، ما دامت قد أعدمت طموحات المغاربة على امتداد أجيال.

يذهب هؤلاء إلى القول أن الفكرة التي أعدمت كل إمكانية تحقيق الطموحات التي يتوق إليها المغاربة، هي تلك الفكرة التي ظل ينافح عنها من تملكوا مقاليد السلطة على حين غرة دون أن يتوقعوا ذلك في فجر الاستقلال، وهي الفكرة القائلة أنه لا يمكن تغيير ما هو قائم بين عشية وشحاها. هذه كانت، في نظر هؤلاء، بداية الانحراف الذي قضى على آمال المغرب، وتلا هذا الانحراف انحراف أفظع، إذ أن الذين تراموا على الكراسي دون استحقاق تاريخي، أضحى شغلهم الشاغل، هو الحفاظ على مواقعهم والبقاء متحكمين في زمام الأمور.

ولكون هذا المنحى لم تقبله الجماهير، سعى القيّمون على الأمور إلى السند الخارجي عوض الاعتماد على الشعب والاحتماء به من أجل تفعيل التغيير والدفاع على المصالح الوطنية. هكذا ابتعدوا عن طموحات الشعب وانتظاراته وولوا ظهورهم لهمومه ومشاكله. ويفيدنا التاريخ بأكثر من دليل في هذا المضمار، إذ فيما بين فجر الاستقلال وسنة 1959، كان الملك محمد الخامس رفقة عبد الله إبراهيم قد بدأ سلسلة من المفاوضات مع فرنسا وأمريكا، آنذاك كان وراءهما المغاربة قاطبة وكان السند على الشعب دون سواه، وكانت النتيجة توقيع اتفاقية إجلاء القواعد العسكرية الأجنبية. لكن سرعان ما تم إجهاض هذا المسار لما سعى القيّمون على الأمور إلى الاعتماد على الخارج عوض الاعتماد على الشعب. هكذا انطلقت مآسينا حسب أصحاب هذا الرأي،الذين يرون أن خلاصة "إكس ليبان" كمنت بالأساس في إفلات الفرصة من أيدي من كافحوا وناضلوا وضحوا من أجل  طرد المستعمر والحصول على الاستقلال، منحها لخونة الأمس عكسا للمجرى العادي والطبيعي للتاريخ. منذئد انزلق البلاد رويدا رويدا نحو ما لا يُحمد عقباه إلى أن وصلنا إلى نقطة عدم القدرة على بناء المستقبل الذي نريد التحكم فيه.      

 


على سبيل الختم

 

نعود من حيث بدأنا،  و أمامنا أكثر من أربعة عقود بما لها وما عليها، للإجابة على السؤال: من أصاب ومن أخطأ في عيون التاريخ والشعب، مؤيدو مفاوضات "إكس ليبان" أم معارضوها؟

إنه سؤال جوهري في هذه الفترة التي تختلط فيها الأوراق السياسية بحيث يتعذر الحكم على الأشياء وتقييمها، وتتعذر معرفة خريطة الطريق نحو المستقبل. 

 






التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات