مفاهيم حول الغزو
(1) الاستقطاب والهيمنة:
تشكل مفهوم الاستقطاب بعد الحرب العالمية الثانية، حين انقسم العالم إلى معسكرين، الأول يدور حول القطب الأمريكي، والثاني حول القطب السوفييتي، وصارت الحروب تتحول إلى بؤر توتر صغيرة، أما الحرب الكبرى فهي الحرب الباردة، التي خف أوارها، وأخذت أشكالاً أخرى، بعد المتغيرات العنيفة أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات، لعل أهمها الزلزال السوفييتي الذي أنهى أحد هذين القطبين، وانهارت معه منظومة الدول الاشتراكية، والأهم من ذلك حالة صراع مرهونة بعلاقات دولية، صار فيها الاستقطاب متجهاً إلى قطب واحد مهيمن هو الولايات المتحدة، بما يعني ذلك من ترافق الاستقطاب مع التقنية، المعلوماتية، الاتصالات، العلم. ولا شك في أن سلطان الواحدة منها يفوق السلاح التقليدي أضعافاً مضاعفة، إنها الثروة والمعرفة، وهما تتبادلان الأدوار، وتتكاملان فيما بينهما.
(2) التبعية:
ظهر مفهوم التبعية في إطار الاقتصاد في الستينات، تفسيراً للتخلف الذي اتسم به اقتصاد بلدان العالم الثالث؛ مما طرح في المقابل، ضرورات النمو المتسارع للوتائر الاقتصادية (مشمولة فيما بعد بالوتائر الاجتماعية والسياسية)، وهي التي اصطلح على تسميتها بالتنمية، غير أن اندماج هذا النمو، وتلك التنمية في الاقتصاد العالمي - وهو اقتصاد المركز المتقدم، الأمريكي والأوروبي، أو الدولة الصناعية، أو دول الشمال - جعل اقتصادها يخدم الاقتصاد العالمي، أو ما عرف باسم التنمية الموجهة للخارج، وقوامها تغذية المركز بالمواد والخامات والنفط، وتصريف منتجات المركز.
وهذا هو مفهوم التبعية، بدأ اقتصادياً، ثم ما لبث أن امتد إلى المجالات الكونية الأخرى، مع تحول العالم نفسه إلى قرية صغيرة كونية، بفضل استفحال تأثير سلطات العصر التي أشرنا إليها، ولا سيما الاتصالات والمال والاقتصاد والمعلوماتية.
إذن صار هناك مركز متبوع، وأطراف أو هوامش تابعة، وقد تنبه الكثيرون لخطر هذه التنمية الموجهة إلى الخارج، إنها تفاقم خطر التبعية، بعزل التنمية عن أبعادها الشاملة والمتكاملة والمستقلة، إذا أغفلت أبعاد التنمية الاجتماعية والسياسية والثقافية التي تضمن الهوية الثقافية، والاستقلال السياسي، ومواءمة الخيارات لخصوصياتها التاريخية والبيئية والاجتماعية والحضارية.
وكلما فشلت تجربة تنموية، وما أكثر التجارب الفاشلة، انزلقت بسرعة إلى مهاوي التبعية؛ لأن من شروط التنمية الناجحة شمولها وتساوقها مع التنمية الثقافية والاجتماعية من جهة، واستقلاليتها من جهة أخرى.
وغني عن القول بعد ذلك، أن التبعية الثقافية والإعلامية أخطر من التبعية الاقتصادية، لأن الأولى تتجه إلى رهن الإرادة القومية والوطنية، بما في ذلك استتباع القرار القومي والوطني - الذي ينبغي أن يكون مستقلاً - لهيمنة المركز، وعلى رأسه الولايات المتحدة.
(3) التغريب:
يفيد معنى التغريب أمرين، الأول سيادة النزعة الغربية، أو الاحتذاء بالغرب (أوروبا والولايات المتحدة)، والثاني هو الاستلاب أو الاغتراب؛ أي خلق هوة بين المرء وواقعه، حين تغلف الذات بمشاعر الغربة والوحشة والانخلاع والانسلاخ، واللا إنتماء بعد ذلك.
ويفيد المعنى الاصطلاحي شعور المرء بأنه مبعد عن البيئة التي ينتمي إليها، فيصبح منقطعاً عن نفسه، ويصير عبداً لما حوله، يتلقى تأثيره المتمثل في إنجازات الإنسان ومواصفاته ونظم حياته، دون فعالية تذكر.
والأمران يتوافقان أو يتكاملان فيما بينهما، في حالة الثقافة العربية التي تعاني التغريب، بما هو فك العرى الوثيقة بينها وبين تاريخها وتراثها، وبينها وبين وظائفها التاريخية والعضوية والنفسية.
لقد شكلت ثقافة الغرب بالنسبة للعرب والثقافة العربية، الاستعلاء والتكبر؛ تعبيراً عن موقع الغربي، وكانت العلاقة الاستشراقية محكومة بموقعه كمستعمر، وكلما اتسعت حلقات وعي الذات القومية والوطنية إزاء الآخر الغربي، توضحت بجلاء أكبر، حدة المعاناة التي تواجهها الثقافة العربية في مواجهة التغريب، احتذاء بالغرب، أو سلباً واغتراباً عن الهوية والخصوصيات الثقافية بتأثير الغرب نفسه، منتج وسائل التغريب الضخمة.
(4) التنميط:
يعبر الغزو الثقافي عن آليته، أساساً، بالتنميط الثقافي الذي يعني إنتاج نمط ثقافي واحد وفق إرادة المنتج المهيمن، ويكون ذلك عبر وسائل السيطرة المختلفة كالتقنية والمعلوماتية والاتصالات، ولا سيما استعمال الأقمار الصناعية.. ولا شك أن أخطر مظاهر التنميط وسيلة، هو شيوع ثقافة الصورة بديلاً عن ثقافة الكلمة، وانتشار الكتاب الإلكتروني (أقراص CD-ROM ) بديلاً عن الكتاب المطبوع؛ مما يضع جمهور الأطفال والناشئة أمام الاستبداد التقني الذي يقلل الخيال والإبداع بعد ذلك، ناهيك عن سرقة الوقت، وهدر الطاقة الجسمية، والمشاعر والأفكار، ووضع هذا الجمهور في حالة عطالة ذهنية وثقافية أمام منتجات التنميط الثقافي وقوتها الهائلة.
غير أن خطورة التنميط تبلغ مداها الأقصى عند تقبلها من الداخل حين تفلح أدوات الهيمنة ووسائل السيطرة في (صناعة العقول)، (وهو عنوان كتاب آخر). وفي الحالات جميعها، فإن خطر التنميط الثقافي يتزايد، كلما كان تقبله متاحاً وميسراً، ولهذا ظروفه وشروطه.
(5) التغطية:
وهو أسلوب إعلامي على سبيل التضليل، بقصد قلب الحقائق أو تزييف الوعي، وتشكيل العقل وفق إملاء شروط الهيمنة. وكان قد وضّح مثل هذا المفهوم خير توضيح إدوار سعيد في كتابه (تغطية الإسلام) (1982 بالإنكليزية) وهو عن التضليل الإعلامي والأيديولوجي الذي مارسته وسائل الإعلام الأمريكية للتغطية على الإسلام، والحكم عليه بالإرهاب.
وليس بمقدورنا أن نعدد أمثلة التغطية التي حدثت، وما تزال، في قضايا كثيرة، وهدفها الأوحد هو التضليل وتزييف الوعي. إن الامتدادات الجبارة للمعلوماتية والاتصالات هي الأداة الأولى للتغطية، وينبغي الوعي بمدى القوة الاستعمارية لهذا الأسلوب في عمليات احتلال العقل، أو الغزو الثقافي.
(6) العولمة:
تعددت تعريفات (العولمة) حتى إن بعضهم (إسماعيل صبري عبد الله) اقترح تعريفاً آخر لها هو (الكوكبة)، غير أن أقربها دلالة هو جعل نمط العيش والثقافة عالمياً، لئلا نأخذ بجانبها السلبي فقط الذي يرى فيها توحيداً للاستهلاك، وخلقاً لعادات استهلاكية على نطاق عالمي.
وأضاف بعضهم لمجالاتها المال والتسويق والمبادلات والاتصال... ويتفق هذا التعريف مع الذين يقولون أن العولمة هي نقل الشيء من النطاق الوطني أو القومي إلى النطاق العالمي، غير أن هذا التعريف هو الأشمل بتقديري.
ولما كانت الولايات المتحدة هي القادرة على جعل هذا النمط أو ذاك عالمياً، وجعله على طرائقها وتنظيمها المجتمعي والكوني، فتغدو العولمة بتعريفها الحالي أمركة العالم، وهو طموح قديم للولايات المتحدة، حيث قال الرئيس الأمريكي (غروفر كليفلاند) (1893): (إن دور أمريكا الخلاق هو تحضير العالم، ليصبح أمة واحدة تتكلم لغة واحدة)، وعبّر عن هذا الطموح فيما بعد بعبارة (النظام العالمي الجديد) بزعامة الولايات المتحدة، وهو شعار الدولار الأمريكي الذي أخذ شكله منذ نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ يوجد على الدولار صورة لهرم تعلوه عين إنسان، ووضعت في أسفل الهرم عبارة (النظام العالمي الجديد).
وتؤثر (العولمة) سلبياً في الطرف الضعيف الواهن، ففي الاقتصاد والمال، تفتقر دول العالم الثالث إلى الفعالية في (العولمة)، لأنها مستهلك أولاً، ومستهلك للمنتجات الأقل قيمة ثانياً؛ ويتفاقم التأثير السلبي في مجالات العلم والتقنية والمعلوماتية والاتصالات، لأنها لا تنتج، أو لا تشكل مشاركتها في الإنتاج العالمي نسبة تذكر، وهذا يعني أن الخاسر في العولمة هو الأضعف في حلقة الإنتاج، ليكون في النهاية مستهلكاً، متلقياً، مستلب الإرادة والفاعلية.
وفي العولمة الثقافية نميز دائماً بين مفهومها (أمركة العالم)، وبين مفهومها الآخر (كنظام عالمي ثقافي جديد، يقوم على احترام مبادئ عقد التنمية الثقافية) الذي أقرته الأمم المتحدة عام 1989م. وهي مراعاة البعد الثقافي للتنمية، وتأكيد الهوية الثقافية وإثرائها، وتوسيع نطاق المشاركة في الحياة الثقافية، وتعزيز التعاون الثقافي الدولي، ولعل الفرق بين المفهومين واضح، لا لبس فيه، إذ يتبدى في إشكالية السيطرة العالمية الكامنة في العولمة عبر إنتاجها الاحتكاري
لأدوات الهيمنة.
التعليقات (0)