مفارقة الفكر والواقع في مدونة السير الجديدة
كثر الحديث منذ سنوات عن مدونة السير الجديدة، التي عملت الحكومة على إخراج سيناريوهها كحلقة في مسلسل مدونات أخرى : مدونة الأسرة،مدونة الشغل... وبعد أن عاش هذا المشروع مخاضا عسيرا بسبب التجاذب السلبي بين القوى السياسية و العقل الجمعي العامي...تمكن الجهاز السياسي والإديولوجي من فرض المدونة الجديدة كحقيقة واقعية محملة بترسانة من القوانين التي تروم تدبير الشأن العام في مجال التنقل الطرقي وتنظيم العلاقات بين الأفراد في فضاء الطرقات، صونا للأمن الحياتي للجميع. وبعد أيام فقط ستدخل مدونة السير حيز التطبيق...الأمر الذي بات يثير جدلا واسعا في الأوساط العمومية...فبين مادح للمدونة وهاج لها تتناسل الأسئلة والتمثلات عن الأثر الاجتماعي لمحايثة المدونة للواقع المغربي...
أكيد أن الحياة الاجتماعية لا يمكن لها أن تستقيم وتتخلق إلا بوجود قوانين فاعلة نابعة من جهة السلطة المجتمعية التي تسعى إلى ضبط سلوك الأفراد...وتأسيس هذه القوانين لا يتم بشكل اعتباطي بل لا بد له من استحضار المتن الاجتماعي والسياق الواقعي المنظم والمنظم داخل حدود هذا القانون...مما يعني أن واقعية القانون تستشرط ملازمة الفكرة القانونية للواقع الاجتماعي..وأي طلاق بين القانون كفكرة والواقع كحقل لتطبيق هذه الفكرة ، ينتج عنه فصام يصيب النص القانوني ليوقع به في غياهب الجنون والاغتراب.
من هنا كان لزاما على الفواعل السياسية والفكرية مقاربة ظاهرة مدونة السير برؤية شمولية تلاءم بين الفكر والواقع من خلال تبني نظرية تفاعلية ، تؤمن بحوار عقلاني تجريبي بين ما أشرعه كقانون سير وما هو قائم في مضجع البنية التحتية والمنظومة المجتمعية.
إن أول استشكال تثيره مدونة السير هو كالتالي : هل المشرع السياسي لفصول المدونة انطلق من استقراء الواقع لصياغة القانون أم نظر للمدونة من داخل قاعة مكيفة بعيدا عن ضجيج السيارات وحفر الطرق وإعاقات القناطر؟ هل مدونة السير كمولود قانوني يتسم بالشرف الأخلاقي وأصالة النسب لرحم المجتمع المغربي أم انه لقيط أوتي به من مجتمعات أخرى ونسب بالتبني لعقل السياسي المغربي ؟
إن أهم مرامي مدونة السير الحد بل التخفيف من تضخم حوادث السير التي تخلف آلاف القتلى والجرحى والمصابين بعاهات وإعاقات مزمنة ، الأمر الذي يسبب في تيتيم أطفال وترميل أزواج وتفكيك أسر بشكل ينخر في نهاية المطاف اللحمة الكلية للمجتمع. هكذا فجوهر المدونة هو تعديل سلوك الإنسان في مجال السير واستعمال وسائل النقل... إذن فالقضية قضية سلوك وتعديل السلوك وترييضه وفق قيم وأخلاق ايجابية تخدم الصالح الإنساني العام. ومن أجل تنبيل السلوك الإنساني الطرقي لا بد من الأخذ بعين الاعتبار التقاطع التفاعلي بين مجموعة من القوى التي تحتوي السلوك الطرقي واقصد الأطراف التالية : الإنسان و حالة الطرق والنص القانوني والطبيعة. ففي الطرف الأول تحضر متغيرات الوعي والأمية والأخلاق والتسامح والعقل والمجتمع . وفي المستوى الثاني تحضر محددات ومقومات الطرق المغربية من حيث مستوى متانة الجسم الطرقي ورقي التشوير وحكامة التجهيز. أما في المستوى الثالث فالمحدد هو طبيعة العقوبات وأحكام الغرامة والسجن,في حين تحضر الطبيعة كمعيار أساس لسن سياسة الطريق وفق ما تتميز به من خصائص المناخ والتضاريس التي تؤثر بشكل عميق في السلوك الإنساني الطرقي. فهل اعتمدت السلطة التشريعية حقا هذه الأطروحة الشمولية في صناعة مدونة السير؟؟؟؟.
إذا كان الجواب بالإيجاب، فالمنطق يفرض توجيه قوانين المدونة لكل الأطراف الأربعة، أي أنها مدونة عدل وإنصاف,,مدونة تحاسب التزام الإنسان ووعود الطريق ووفاء الطبيعة وعدل القانون. ولأن صناعة الطريق وصناعة القانون وتطويع الطبيعة من مهام المشرع السياسي ، فالمدونة يجب أن تكون في جوهرها مدونة محاسبة المواطن للفاعل السياسي قبل أن تكون محاسبة للمواطن من طرف هذا الفاعل السياسي. كل ذلك من أجل التأسيس لميثاق إلزام والتزام بين مشرع المدونة ومستعمل الطريق وفق القاعدة التالية : " علمني كيف استعمل الطريق برشد في طريق عاقل وأقبل عقابك لي إن لم أسر برشد في طريق عاقل".
أما إذا كان الجواب بالسلب، فمرة أخرى سينزل شتاء المدونة فصلا وعرا على الفقراء من المواطنين ذوي الدخل المحدود والشأن الاجتماعي المتواضع والبسيط، بشكل سيجرد هذه الفئة من دراهمها المعدودة لترمي بهم في أنياب الفقر القاتل أو لتعج بهم في سجون امتلأت وتقول هل من مزيد.
إن التنظير الحكومي لسياسة تدبير الشأن الطرقي يجب أن يعمل في البداية على اجتثاث جملة من الظواهر المنافية للقانون والأخلاق وهو ما يفرض التمكن من :
- القضاء الشافي على فيروس الرشوة وإعدام ثقافة الارتشاء بكل تجليتاتها وتلويناتها والتواءاتها وصيغها وأحجامها والعمل على ترسيخ ثقافة الالتزام الأخلاقي قبل الإلزام القانوني .
- وضع قطيعة أخلاقية وقيمية نهائية مع منطق الزبونية و "الركايز و لمعارف" وإحلال قاعدة "" لماعندو ضميرو كاين لقانون "" محل قاعدة "" لماعندو لالاه عندو سيدو"".
- ملاحقة كل السيارات والشاحنات الغير القانونية التي تنشط في حظيرة طرقنا وتتكاثر بشكل واعد, سيارات يطلق عليها اسم " المقاتلات" نظرا لافتقادها لكل الوثائق القانونية. وهي تتجول بكل حرية وفصاحة في كل الدروب والطرق الإقليمية والجهوية والوطنية.
- العمل على توقيف اشتغال الطرق المهترثة واستبدالها بطرق جديدة ,وهنا نتساءل : هل من طرق جديدة للمدونة الجديدة أم أن المولود القانوني الجديد سيلبس حذاء قديما ممزقا ونطلب منه أن يمشي بثبات وحكمة؟
هكذا ،و بهذا وفقط ، يمكن التنبؤ بفاعلية مشرفة لمدونة السير، وبغير هذا ، تكون مدونة السير مجرد مرهم تجميلي لا يترجم جمال الوجه الطرقي والقانوني، بقدر ما يخفي ويتستر على بشاعته وتجاعيد شيخوخة زمن الفساد الأخلاقي والإداري والعبث بميزانيات الإصلاح والتجهيز. فجميعا إذن من أجل ترسيخ ثقافة طريق سليمة يستند تشويرها لعلامات الوعي والأخلاق والمسؤولية في تعامد مع علامات التنبيه والتحذير من انحراف العقل قبل انحراف الطريق وانعراجها، فأمجد تشوير هو التشوير الأخلاقي العملي.
بقلم جمال الدين البعزاوي / jamal_philo@hotmail.com
-
التعليقات (0)