مواضيع اليوم

مـنـديــل الحــلــو

مصعب المشرّف

2010-03-20 10:23:01

0


منديل الحِلْــو

 مَنْ مِنَ العرب لم يسمع بأغنية المطرب المصري الكلاسيكي عبد العزيز محمود الشهيرة (منديل الحلو) التي (والله أعلم) غناها عام 1949م ويقول مطلعها:

منديل الحِلْو بـغَـنّي لُـه
على دقـّـة قلبي بغنّي لُـه

والبارحة كنت أستمع من الراديو لصوت عبد الحليم الدافيء وهو يشدو بأغنية (موعود) ذات الإيقاعات الجديدة في زمانها. وهي بالمناسبة من كلمات محمد حمزة وألحان بليغ حمدي وقد كان كلاهما من الشباب في ذلك الوقت الجميل ..... ومضت كلمات الأغنية إلى أن جاء عند قوله:

ميّل وحَدَفْ منديله كاتب على طرفه أجيلو
وأمانة يا دنيا أمانة تاخدينا للفرحة أمانة
وتخلي الحزن بعيد عنا وتقولي للحب إستنى

فتذكرت من فوري وعكفت أردد بيني وبين نفسي لسيد خليفة أيضا أغنية إسمها "المنديل" يقول مطلعها:

رسّـلْ لي هدية لطيفة
خلّتْ قلبي يَـحِنْ ويمِيل
حرير أبيض مشغول بقطيفة
صورة قلب وسهم نحيل
إنت جميل
والجَابَك لَيّ ملاك وجميل
......... يا منديــل

وللمطرب السوداني الراحل عبد العزيز محمد داود أيضا أغنية بعنوان "أتذكرين صغيرتي" يقول مطلعها:

أو تذكرين صغيرتي أو ربما لا تذكرين
الخمسة الأعوام قد مرّت وما زال الحنين
الشوق والأحلام ما زالت تؤرّق والسنين
هل كان حبا يا ترى أم كان وهم الواهمين
......
إلى أن يأتي عند قوله:

المنديل المنقوش جانبه أتذكرين وتذكرين
ما كان قصدي أن أبوح فربما لا تصفحين

...............................

وحيث يتضح من خلال ما تم إيراده كأمثلة من كلمات ومعاني ومقاصد لأغنيات صاغها الشعراء يوماً مـّا بصدق يعكس واقعهم المعاش ؛ وغناها مطربون معاصرون لبعضهم البعض تقريبا .. يتضح أننا أمام كنز ومعين لا ينضب من الإرث الإجتماعي والعاطفي الذي كان سائدا خلال الفترة ما بين سنوات منتصف الأربعينات وحتى منتصف السبعينات من القرن العشرين.
لكن الطريف أن منديل عبد العزيز محمود ثم عبد الحليم حافظ هنا ومن خلال السياق يفهم أنهما من ممتلكات المحبوبة وقيد إستخدامها الخاص .... في حين أن مناديل سيد خليفة و عبد العزيز داود هي مناديل مهداة من المحبوبة إلى الحبيب ..... وهو ما يوحي بوجود إختلاف نوعا ما في نوعية وأسلوب الحوار العاطفي بين العاشقين في كل من السودان و مصر على الرغم من "وحدة الهدف المشترك" في كون أن المناديل هي رسائل غرامية وبغض النظر عن حقوق الملكية.
لكن الأساليب التي أتبعت يوما ما وهذه العادات والتقاليد في جانب العلاقات العاطفية الغرامية نراها تطورت وتغيرت وفق ما هو متاح وممارس حاليا في جانب العلاقة بين العشاق ، حيث تطورت وسائل الاتصال كما لم تعد هناك قيود مشددة تحرم الطرفين من اللقاء وجها لوجه ... كما لم يعد الرجل يستخدم مناديل الحرير والقطن أو الكتان في تجفيف جبينه وعنقه أو يديه في المطاعم بعد أن أصبح يستخدم المناديل الورقية أو البخار الساخن الجاف لأداء هذا الغرض ...
وبالتالي لم يعد هناك حاجة إلى مناديل ترسلها الأنثى لحبيبها كتعبير عن الإعجاب المتبادل من وراء ستار . وحلت بدلا منها الرسائل الهاتفية والصور الجاهـزة لقلوب تنبض وعيون تبكي وأخرى فرحة وغيرها يكسوها الحزن والأسى .. هذا بالطبع مع سهولة اللقاء والتعارف والحديث من خلال الموبايل أو وجها لوجه دون عوائق كثيرة تذكر ، بعد أن أصبح لدى المرأة والفتاة 1000 سبيل وطريقة ومبرر وسبب للخروج من البيت والجلوس إلى جوار الرجل والفتى سواء في المواصلات ومعاهد الدراسة أو مجال العمل . أو المناسبات الإجتماعية الأخرى من حفلات زواج وأعياد ميلاد وحفلات تكريم ووداع وإستقبال أهلية ورسمية وغيرها على مدار العام.
......................


لكن الملفت للنظر والجدير بالتحليل عند إمعان القراءة وحسن الإنصات لكلمات تلك الأغاني المشار إليها ؛ أنها تؤرخ لزمن مضى وحيث نستطيع من خلالها التعرف على الكيفية التي كان يتواصل بها العشاق .....
فالمطرب عبد العزيز محمود الذي كان زمانه أقدم من زمان عبد الحليم وسيد خليفة نراه في أغنيته (منديل الحلو) يكتفي بالتواصل مع محبوبته عبر هذا المنديل دون أن يطمع في أكثر من ذلك ..وهو هنا يغني له وهو ممسك له بيديه ويضمه إلى صدره وبتنفس رائحته عوضا عن المحبوب ... كذلك نلاحظ عدم وجود رسالة محددة على هذا المنديل .. منديل الحلو .... وربما كان لإنتشار الأمية بين الإناث في تلك المرحلة أثرها في عدم تمكن المحبوبة من كتابة شيء على المنديل .....
أما عبد الحليم حافظ الذي جاء في فترة لاحقة نسبيا نراه ومن خلال أغنيته موعود يوضح لنا أن محبوبته قد بلغت بها الجرأة مدى أبعد من (أمها) المحبوبة في أغنية عبد العزيز محمود (منديل الحلو) .... فهي حدفت لشاعرنا هنا بمنديلها ليلتقطه فيجدها قد كتبت له بخط يدها "صكاً غرامياً" يبيح له الحضور لمقابلتها. وذلك عند قوله "كاتب على طرفه أجيلو" ..... وغني عن القول أنه ينبغي التوقف بعض الشيء عند قوله "مـيّــل وحدف منديله" .... فحركة التمايل هنا دليل على جرأة الأنثى في إستعراض جسدها وبما يخدر عقل المحبوب. ثم أن تعبير "حدفت" في اللهجة المصرية يفيد الرمي بقوة تجاه هدف بعيد أو قريب ، وهذه جميعها إشارات لمدى الجرأة التي باتت عليها المرأة في عصر السبيعنات من القرن العشرين ومحاولتها عبر "التمايل" و "الحـدف" لفت الأنظار وتضييق وإختصار المسافة البعيدة بينها وبين الرجل ......
........................
وأما في الجانب السوداني ، وعند أغنية الراحل سيد خليفة .. وحيث جميع المطربين الأربعة هنا من الراحلين رحمهم الله ..... لم يحسم لنا الشاعر المستوى التعليمي لمحبوبته . وذلك لأنها بدلا من أن تكتب له حروفا نجدها قد إكتفت بالرمز التصويري فقط عبر نقش صورة قلب وسهم نحيل يخترقة والدماء تسيل من هذا القلب النحيل ..... ونحول القلب لم يأتي هنا من فراغ بقدر ما يعني في أدبيات الغرام العربي العذري الأصيل شدة الوله والعذاب بسبب غياب أو إبتعاد المحبوب وندرة اللقاء والشوق للأحضان الدافئة التي تحول دونها الشريعة السماوية ولا يبيحها سوى الزواج .......
وأما القصيدة التي تغنى بها المطرب عبد العزيز محمد داود فهي من جانب آخر تشير أيضا إلى وجود نقش على جانب هذا المنديل والذي ربما كان قلب وسهم نحيل مثل منديل سيد خليفة . أو ربما كان صورة عين ينسكب منها الدمع الغزير .. أو نقش لقلبين ملتصقين .... ولكنها في كل الأحوال رسالة غرامية من الفتاة لمحبوبها .......
والجديد الذي تتطرق إليه الأغنية هنا هو قول الشاعر "ما كان قصدي أن أبوح فربما لا تصفحين" ... وهو ما يشير إلى مدى الحساسية وحالات الكتمان الشديدة التي كان يحرص عليها المحبان في ذلك الزمان ، وعلى نحو يكون فيه منديل مثل غيره من ملايين المناديل لا صاحب له ، ويحمل نقشا نمطيا مدعاة لخوف المحبوبة الأنثى من أن يفتضح أمرها . وتصبح سيرتها لبانة تلوكها الأفواه والألسن . وتكون مبررا لإنخاذها موقفا حاسما بمقاطعة الحبيب وعدم العودة إليه نهائيا مهما كلفها ذلك من أحزان ......
وبوجه عام تغلب الرومانسية والعفة في الجانب السوداني من خلال ما تم إيراده من نماذج شعرية غنائية فلا يوجد هنا مقابلات ومواعيد أو تمايل وحدف بل يظل الأمر في طي الكتمان ومشاعر يجري تبادلها عن بعد وعبر الإيحاء ليس إلا ..... وقطعا لم يظل هذا الحوار العاطفي وطبيعته هو نهاية المطاف ، وإنما إستجدت تراكمات أخرى حديثة فرضت نفسها حسب الظروف الإقتصادية على المجتمع ... وحيث الملاحظ أن مجتمع المدينة السوداني بنحو عام يتأثر كثيرا بما يجري في القاهرة حتى في جانب ظواهر من قبيل الزواج السري والعرفي الذي إنتشر في العاصمة المثلثة جراء التأثر الإنفعالي بالأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية المصرية ؛ وعلى الرغم من أن الفقه والقضاء في البلدين قد حرما وجرما مؤخراً هذا النوع من العلاقة بين الرجل والمرأة وإعتبر كل ما ينتج عنها من أجنة أبناء زنا غير معترف بهم شرعا أو قانونا.
..................
من كل ما سبق الإشارة إليه يتضح لنا أن العادات والتقاليد تبدو وكأنها كائن حي يعتريه الكثير من التغير والتبديل "التراكمي" على مر السنين .... وأننا بالفعل نتغير ونتقبل الجديد التراكمي بإيجابياته ومثالبه رويدا رويدا ولكن دون أن نشعر أو نحس بذلك ..... وحيث يتضح من خلال رصدنا المقارن أن كثيرا مما بات المجتمع في الزمان الراهن يتقبله لم يكن مقبولا به في الماضي ... وبالتالي فإنه يظل من العبث أن نرفض التعامل إيجابياً مع هذه الحقائق والنزوع نحو الاكتفاء بتسوير حواكير عائلية إجتماعية ودينية قسرية قد تؤدي لاحقا بعد خروج الفتاة للحياة العامة إلى تفلتات دراماتيكية في شكل زواج البيبسي والعرفي والسري .... وأن البديل الأفضل هو محاولة إيجاد حلول منطقية مقنعة ذكية تتماشى مع هذه المستجدات الشرسة كواقع معاش لن يفيد التهرب منه وإنكاره والتحايل على مواجهته بأسلوب "جحـا" في التعامل مع الأحداث وفق المسافة بينها وبين بيته وجسده ........ وحيث أثبتت التجارب أن الفصل وحده بين المرأة والرجل ليس كافيا بقدر ما تكون للتربية القدح المعلى في ضمان المسلك السوي العفيف.
ومن ضمن الحلول المطلوبة التخفيف إلى الحد الأقصى من تكاليف إحتفالات الزواج وإستنكار بذخها عبر وسائل الإعلام والتوجيه بكافة صوره وأشكاله. والتأكيد على أن المسألة تتعلق هنا بأسباب أهمها أن للظروف الإجتماعية وخروج المرأة للتعليم والعمل والمناشط العامة قد وضعتا النار جوار البنزين والبيضة في مواجهة الحجر.... وحيث لا يأتي من الإحتكاك سوى الحرارة وإرتفاع الدخان وإشتعال النار في الجسد المترع بالمشاعر والعواطف.

 ثم أن للإنتعاش الإقتصادي وتوافر الوظائف برواتب مجزية أثره الفاعل في الحد من مشكلة العزوبية بالنسبة للذكر ، والعنوسة بالنسبة للأنثى.

وإنه إن كان هناك من مقولات يجب إستيعابها وفهم مقاصدها ، فإنه وإذا كان أقرب طريق إلى قلب الرجل هو معدته .... فإن أقرب طريق إلى قلب المرأة هو أذنها .... وقد بات الوصول إلى أذن المرأة وغزو قلبها بالكلام الحلو الجميل المعسول المنمق أسهل ما يكون بعد إختلاطها مع الرجل خارج المنزل وفق ما تقدم ... ثم وبعد عودتها للمنزل يلحق بها الكلام المعسول عبر الموبايل الذي بات ثالثة الأثافي والشيطان الناطق الواصل بين الطرفين الذكر والأنثى.




التعليقات (0)

أضف تعليق


الشبكات الإجتماعية

تابعونـا على :

آخر الأخبار من إيلاف

إقرأ المزيــد من الأخبـار..

فيديوهاتي

LOADING...

المزيد من الفيديوهات