خلال حرب فلسطين حاصرت مجموعة من الصهاينة فرقة من الثوار داخل إحدى البيارات ، قاوم الثوار حتى انتهت ذخيرتهم واضطروا للانسحاب والتفرق خلال الليل ، سار أحدهم على غير هدى حتى وصل مع الفجر إحدى القرى والتي لم تكن قد وصلتها ألأحداث بعد ، سمع أذان الفجر فتوضأ من نبع هناك وصلى وجلس حتى انتشر ضوء الصباح قريبا من أحد البيوت .
مع ضوء الصبح خرجت فتاة من البيت وراحت تجمع الحطب وباشرت بإشعال التنور ثم دخلت إلى البيت وأحضرت وعاء العجين وجلست قرب التنور حتى يصبح جاهزا وحاميا لخبز العجين.
اقترب الثائر منها وتنحنح ثم ألقى عليها السلام فردت عليه ، فتشجع وطلب منها شيئا من الطعام ، فقالت له أن ينتظر حتى تخبز له رغيفا وتحضر له شيئا من ألأدام للأكل مع الخبز فجلس بعيدا على حجر ، لم يكن في داخل البيت إلا أمها وأخاها الصغير فقد مات ألأب في حادث أثناء عمله في مقلع للحجارة قريبا من القرية .
عادت البنت إلى البيت وأحضرت صحنا به زيت وآخر به زعترا وناولت الرجل رغيفا وجلس بعيدا يأكل ، في هذه الأثناء كان أحد أبناء ابن عم الفتاة ذاهبا إلى أرضه فمر بقرب بيت الفتاة ، وكان هذا الشاب معروفا في القرية والقرى المجاورة بسوء أخلاقه وفساده ، وقد كان قبلا خطب الفتاة ليتزوجها فأجابته أنها تريد أولا أن تربي أخاها وتخدم أمها وبعد ذلك تنظر لنفسها ، وهي لا تزال صغيرة وأمامها العمر كله ، ولم يكن ذلك إلا لعدم رغبتها بهذا الشاب فحقد عليها وأخذ يتعمد المرور عدة مرات في اليوم من أمام دارها ليذكرها أنه لا يزال موجودا ، وعندما مر هذا الصباح ووجد الرجل يتناول الطعام قريبا من بيتها تبادر إلى ذهنه ألانتقام منها لرفضها إياه ، فأخذ يصيح ويجمع الناس ويقول أنها تأوي في بيتها رجلا غريبا ولا يعلم ما كان الرجل يعمل داخل البيت في هذا الوقت المبكر من النهار وقد رآه يخرج من البيت يصلح ملابسه والبنت تخرج خلفه .
ذهل الثائر ولم يدر ما يفعل ، أن هرب تكون التهمة ثابتة على الفتاة وأن بقي فسيقتله أبناء القرية وقد رآهم من بعيد يتراكضون يحملون بأيديهم العصي والفؤوس فقرر أن يوكل ألأمر لله ويترك القرية هاربا فركض ابن العم خلفه فهدده بالبندقية مع علمه أنها لم تكن بها ذخيرة .
سار الثائر فالتقى بمجموعة من الثوار فقرروا أن يلتحقوا بفرق المقاومة والتي لا تزال تقاوم في منطقة بعيدة عن منطقتهم.
اجتمع أقارب الفتاة وأمسكوا بالفتاة وربطوا يداها ورجلاها وألقوها داخل بيتها أمام اعتراض ألأم وولولتها وصراخ أخاها الصغير ، وبعد مداولات وأخذ ورد قرروا أن يتخلصوا من الفتاة والتي كانت سببا بإلحاق العار بهم بالتخلص منها وذلك بأخذها بالليل بعيدا عن القرية وقتلها ودفنها ، وتطوع ابن العم وبإصرار أن يقوم بذلك هو الذي اتهمها وحده وليس معه أحد لأنه هو أقرب الناس إليها وأكثرهم تضررا مما عملته وهددوا أمها إن هي تكلمت أن تلقى نفس المصير .
بعد الغروب خضر الشاب إلى بيتها وقد حمل على جنبه خنجرا استعمله لقطع رباط رجلي الفتاة وهي ترجوه وتحلف له أنها بريئة ولكنه لم يعرها أي اهتمام وأبقى يداها مقيدتان وأمرها أن تلحق به دون صوت.
سار الشاب أمامها ولحقته مذعنة حتى خرجا من القرية باتجاه الجبال وهي تدعو الله أن ينقذها مما هي فيه وسارا حتى صارا بعيدين عن القرية واختفت أضواء البيوت ، هناك وقف فوقفت وقد أصبحت كأنها مخدرة ، وفجأة عاد إليها وضمها إلى صدره محاولا تقبيلها وقد أضمر في نفسه سوءا وحاول إلقائها على ألأرض وكانت يداها لا تزال مقيدتان ، ففكرت بسرعة ووجدت أن الحيلة هي ما يتماشى مع هذا الوحش فقالت له بصوت مرتعش ، لماذا تفعل هذا غصبا وأنا في ألأصل لم أكن أرى في شباب القرية خيرا منك فأنت ابن عمي وأنت أقوى شخص في القرية وأنت فيك كل الصفات التي تعجب أي فتاة ، ولكني رفضت الزواج منك لأني كنت أود أن أنتظر حتى يكبر أخي قليلا وأستطيع أن أكون مرتاحة معك وأكون لك وحدك ، وأنت تعلم دون كل الناس أنني بريئة وطاهرة . دعنا نبتعد عن القرية مسافة أكثر وهناك تحصل على ما تريد مني وبخاطري ورغبتي ورضاي على أن تعدني أن لا تقتلني وتدعني أذهب بحياتي حيث أشاء ، ولن أعود إلى القرية أو إلى أي قرية مجاورة ولن يعلم أحد ما حصل بيني وبينك ، راحت تمدحه وتقول أنها كانت تأمل أن يكون رجلها ولكن ألآن لا يستطيع بسبب ما ألحق بها من عار وسمعة سيئة .
اغتر الشاب بكلامها وقام بقطع رباط يديها بخنجره ووضع الخنجر تحت حزامه على جنبه ، وسار أمامها حاثا إياها أن تسرع وهي تفكر وتدعو الله أن يخلصها من شره وبدأ يسمعها حلو الكلام وهي في حاضرها معه وفي نفسها تفكر كيف ستتخلص منه ، وعاد إليها عدة مرات محاولا ضمها وتقبيلها ولكنها كانت في كل مرة تتهرب منه بقولها أنهما لا يزالان قريتان من القرية ، ووصلا إلى نهاية الطريق وكانت تشرف على جرف عال فوقف وعاد إليها وضمها إلى صدره بشغف كبير وحاولت هي أن تدفعه عن نفسها وحاول هو أن يلف يداه على خصرها لإلقائها أرضا فدفعته فجاءت يدها على الخنجر فأخذته وغرزته في خاصرته فصاح وتعلق بها فطعنته مرة ثانية ودفعته بكل قوتها فسقط من أعلى الجرف إلى الوادي.
ذهلت الفتاة وكانت ترتجف ثم وعت لحالها فرمت الخنجر وراءه وراحت تركض على غير هدى في جنبات الجبل فوصلت إلى السفح ألآخر وكان تحت السفح سهل واسع فوقفت ونظرت فرأت من بعيد نارا فنزلت من السفح وسارت باتجاه النار ، فإذا بيت من الشعر يجتمع حوله عدد من ألأغنام داخل صير من الحجارة وجذوع الشجر نادت على من في البيت فخرج شخص يحمل سراجا من بيت الشعر وقال: من هناك عرفت الفتاة به صوتا نسائيا فاطمأنت وردت هذه أنا يا خاله فاقتربت عجوز وبيدها السراج فلما رأت الفتاة وكانت تبكي وترتجف أدخلتها إلى بيت الشعر وناولتها إبريق ماء فشربت وطمأنتها فشعرت الفتاة بالأمان ، وقد بات الصبح قريبا ففرشت العجوز للفتاة فراشا إضافيا وطلبت من الفتاة أن تنام ونامت العجوز كذلك .
بعد الفجر قامت العجوز وصلت ثم خرجت إلى الصير فحلبت ألأغنام ووضعت لها ما تيسر من القش وأشعلت نارا وسخنت الحليب وسكبت كأسا للفتاة وكأسا لها ودخلت فوجدت الفتاة لا تزال نائمة تأملتها كم هي جميلة وبريئة وشابة ، ففكرت بابنها الذي ذهب مع الثوار يدافع عن المدن التي كان الصهاينة يحاولون طرد أهلها منها ودعت الله أن يعيده لها سالما .
أيقظت العجوز الفتاة وناولتها كأس الحليب فبدأت تشرب وتبكي فسألتها العجوز عن أمرها فقالت لها والله يا خالة إنشاء الله سأكون صادقة معك والله يشهد على ذلك ورجت العجوز أن تحفظ سرها واستحلفتها على ذلك وحكت لها قصتها فتأثرت بها العجوز وبكت وأحست بداخلها بحب للفتاة لصدق حديثها وبراءتها ، فقالت لها اطمئني يا ابنتي فإن الله لم يرزقني إلا ولد وحيد مات أبوه وهو صغير ومن يومها وأنا أقوم على تربيته وقد كبر وصار يساعدني على الحياة حتى بلينا بالصهاينة فذهب مدافعا عن ألأرض ولا أعلم ألآن أين هو وإني أرجو الله أن يرده لي سالما.
تأزمت ألأمور واحتل الصهاينة معظم الساحل وراحوا يحولون أنظارهم باتجاه الداخل وعاشت الفتاة مع العجوز وكأنها ابنتها ، وفي إحدى الليالي عاد ابن العجوز إلى أمه وقال لها : إن أهل مدن وقري الشمال والساحل قد غادروا البلاد معظمهم باتجاه الشمال وعن طريق البحر وأصبح لا بد لهم أن يهاجروا أيضا ، وسأل أمه عن الفتاة فقالت إنها فتاة هرب أهلها بسبب الحرب وبقيت هي عند أقارب لها في قرية أخرى وجاءت هنا تفتش عن أهلها ، فنام في الخارج .
عند الفجر ساق ألابن الغنم وأخذ أمه والفتاة وساروا باتجاه الشرق وتجمعوا هم وكثير غيرهم واختاروا مرجه قرب إحدى المدن في شرق البلاد وتم إسكانهم في خيام. بعد مدة تزوج ألابن من الفتاة وأخذ ألابن يتاجر بالغنم والخيول، وكانت الفتاة مثالا للزوجة الصالحة وأنجبت الزوجة وتكون لهم عائلة من ألأولاد والبنات.
في أحد ألأيام جاء إلى المخيم شاب يسأل عن فرس هربت من عنده فأرشده أهل المخيم إلى بيت ابن العجوز وقالوا له أنه يتاجر بالخيل وربما تكون الفرس عرضت عليه ، فأدخله ألابن إلى بيته وعرض عليه جميع الحيل التي عنده ولم تكن الفرس بينها ثم أدخله إلى بيت الضيافة وطلب من الزوجة إعداد الشاي وراحوا يتحدثون ، وعندما سأل الرجل الشاب عن بلده واسمه وأهله وكانت الزوجة تسمع حديثهما قال الشاب عن اسم بلده أولا فثارت ثائرة الزوج وقال : والله لقد مررت ببلدكم في احد ألأيام وقص على الشاب ما حصل وكيف اتهمه الناس بفتاة جادت عليه برغيف من الخبز وشيئا من الزيت وأقسم قائلا : والله ما رأت عيني أشرف ولا أطهر من تلك الفتاة التي أعطتني الطعام وأسأل الله لها الستر أينما كانت والرحمة لها إن كانوا قتلوها فلما سمعت الزوجة وهي في مطبخ البيت باسم القرية والقصة علمت أنها هي المقصودة فاندفعت إلى حيث يجلسون وتأملت الشاب لتجد أن أخاها والذي كان طفلا وقد غدا شابا يجلس أمامها .
التعليقات (0)