يُعْرَفُ عن البابا شنوده الثالث أنه إعلامي بارع ليس فقط لكونه عضواً بنقابة الصحفيين أو لكونه رئيساً لتحرير مجلة "الكرازة" التي تصدرها البطريركية القبطية المرقسية أو لكونه كاتباً معروفاً له إسهامات دورية بالكثير من الإصدارات، ولكن لكون البابا يمتلك حساً ووعياً إعلاميين متفردين يضعانه في مكانة ربما لا يقترب منها إلا الكاتب محمد حسنين هيكل. يملك البابا شنوده قدرة رائعة على قراءة الأحداث وتحليلها بصورة دقيقة تمكنه من التعاطي معها بصورة يحسد عليها. يَعْرِفُ البابا متي يتكلم ومتى يصمت، ما يجب أن يقول وما لا يجب أن يقول، كيف يقترب من الأحداث وكيف يبتعد عنها. وُضِعَت قدرة البابا شنوده الإعلامية في اختبارات عديدة نجح فيها بامتياز، وحتى حين اعتقد البعض بأن البابا خانه التوفيق في تصرف اتخذه أو تصرف لم يتخذه، عاد هؤلاء ليعترفوا بأن البابا كان محقاً.
من جديد يتعرض البابا شنوده لاختبار أخر يتمثل في اتهام السلفيين الكنيسة القبطية باختطاف السيدة عبير طلعت فخري التي كانت أسلمت في سبتمبر من عام 2010 بعد خلافات حادة مع زوجها وقصة حب مع ياسين ثابت، أحد أبناء بلدتها المسلمين. يزعم السلفيون أن الكنيسة تسلمت عبير من أهلها الذين اختطفوها من المنزل الذي كانت تعيش به مع ثابت الذي قالت تقارير أنه تزوجها عرفياً. ويدّعي السلفيون أن الكنيسة اعتقلت عبير في أديرتها طيلة الشهرين الماضيين ومارست عليها ضغوطاً شديدة لإجبارها على التراجع عن إسلامها والعودة إلى المسيحية. وسعى السلفيون لإثبات مزاعمهم عبر ترويجهم لحديث مصور أجروه مع عبير وكذلك اتصالات أجروها بعدد من القنوات الفضائية تحدثت خلالها عبير بما يؤكد اتهامات السلفيين للكنيسة.
تداولت وسائل الإعلام المحلية والإقليمية والدولية اتهامات السلفيين للكنيسة، ولكن القيادات الكنسية وعلى رأسها البابا شنوده آثرت الصمت التام. لم تقم الكنيسة بالرد وهو ما اعتبر البعض أنه أعطى السلفيين مصداقية لم يعهدوها من قبل أمام الرأي العام. ولعل المتابع لوسائل الإعلام المصرية والعربية يدرك أنها تتناول أحاديث السلفيين والسيدة عبير على أنها الحقيقة التي حدثت بالفعل. لم يتساءل أحد إن كانت الاتهامات صحيحة أم خاطئة، لكن الجميع تساءل عن مغزى "احتجاز" الكنيسة لعبير. لم يشكك احد في مصداقية السلفيين، ولكن الجميع أخذوا يفتشون عن حالات أخرى ربما تكون الكنيسة "تعتقل" فيها سجينات أخريات. لم يفكر أحد في ترتيب ادعاءات السلفين سواء التي نطقوا بها أو التي نطقت بها عبير نيابة عنهم، ولكن الجميع اعتقد أن صمت الكنيسة دليل على ضعف موقفها.
لست أدّعي معرفتي بموقف الكنيسة القبطية، ولكن الشواهد تؤكد على أن اتهامات السلفيين لا تحظى بأية مصداقية وأن كل مزاعمهم ضد الكنيسة ليست إلا محاولات يائسة للهروب من مسئوليتهم عن أحداث العنف الطائفي التي وقعت في إمبابة يوم الجمعة الماضية. وقد سعى السلفيون للتأكيد على صدق مزاعمهم عبر إظهار السيدة عبير متحدثة عن آلامها طوال فترة "اعتقالها" بالكنيسة، إلا أن أحاديث عبير أتت ببعض ردود الفعل العكسية، إذ بدت مرتبكة ومتناقضة تماماً، بل وبدا، من خلال لحظات الانتظار الطويلة قبل إجابتها على أسئلة المذيعين، أن هناك من يلقنها ما تقوله. ظهر ضعف حجج عبير حين قالت أن أقاربها أخذوها في شهر مارس الماضي من المنزل الذي عاشت به منذ أشهرت إسلامها، وتلعثمت حين تم سؤالها عن طبيعة الشخص الذي أخذها من أهلها. بدا للمستمع أن الفتاة لا تعرف الإجابة. المثير أن جريدة الوفد المصرية أكدت أن لا والد عبير ولا أهالي القرية يعلمون شيئاً عن عبير منذ تركت القرية التي كانت تعيش بها مع زوجها وعائلتها.
أما أكثر مظاهر التناقض في أقوال عبير فقد كانت حين ادّعت أن الكنيسة لم تسمح لها بالخروج من المبنى الكنسي الموجود بجوار كنيسة القديس مار مينا بإمبابة الذي قالت أن إقامتها حُددت به، قبل أن تعود وتقول أن السلفيين ربما علموا بمكانها عندما رأوها في الشارع وهي في طريقها للكنيسة، موضحة أنها استخدمت وسائل المواصلات العامة للوصول إلى مقر "احتجازها" الكنسي. الكلام هنا لا يبدو منطقياً لأن الخاطف لا يستخدم وسائل مواصلات عامة لنقل خاطفيه. ثم كيف "تسجن" الكنيسة الفتاة ولا تسمح لها بالخروج أو استخدام الهاتف ثم تنقلها في وسائل مواصلات عامة.
وناقضت عبير نفسها مرة أخرى حين قالت في أحد أحاديثها أنها لم تتصل بأي شخص لطلب المعونة ولم تعلم صديقها ياسين ثابت بمكان وجودها لأنها لم تمتلك تليفوناً ولم يسمح لها باستخدام أية تليفون، وهو الأمر الذي نفته في حديث أخر قالت فيه أنها استخدمت هاتفها المحمول في الاتصال بياسين ثابت لطلب المساعدة في الخروج من الكنيسة وللتأكيد على أنها تريد أن تبقى معه. وقد فشلت عبير في تأكيد عما إذا كانت تزوجت عرفياً من صديقها.
من المؤكد أن هناك غموضاً يتعلق بقضية الفتاة. هناك اتهامات يطلقها السلفيون، ولكن الطرف الأخر الذي ينبغي أن يعرف الرأي العام رده على على هذه الاتهامات يلتزم الصمت. لست أعتقد أن موقف الكنيسة ضعيف لأنها عودتنا على الصمت حين يتعلق الأمر بأكاذيب. لم يسبق للبابا شنوده أن قام بالرد على شتائم واتهامات السلفيين بشأن السيديتين وفاء سلطان وكاميليا شحاتة لأنه كان على يقين من صحة موقفه. غير أن صمت الكنيسة في قضية السيدة عبير ربما كان أمراً غير مرغوب فيه لأن عبير ظهرت بنفسها وأيدت ادعاءات السلفيين. من المهم أن تتكلم الكنيسة لتبريء ساحتها ولتجيب على الأسئلة المطروحة مثل هل تواجدت عبير بالكنيسة؟ وإن كانت الإجابة بنعم، لماذا تواجدت؟ وهل ذهبت بمحض إرادتها؟ وهل أرادت العودة للمسيحية ثم غيرت من رأيها؟ كل هذه الأسئلة وغيرها لن يجيب عنها إلا رجال الكنيسة.
إذا كنا نشيد بقدرات البابا شنوده الإعلامية الرفيعة، فمن المؤكد أن البابا يعي الامر تماماً ويدرك خطورته الجمة ليس فقط على الكنيسة ولكن أيضاً على مصر التي يستقوي فيها السلفيون لتحقيق أهدافهم بمزاعم اعتدنا في الماضي أن تكون محشوة بالأكاذيب. لقد أوشك السلفيون أن يشعلوا نيران حرب طائفية بسبب السيدة عبير فخري بعدما هاجموا كنيسة إمبابة التي زعموا وجودها بها، وهو ما أسفرعن مقتل وجرح ما يزيد عن مائتين وخمسين شخصاً. ترى هل يكذب السلفيون بشأن السيدة عبير؟ ترى هل كانت القضية برمتها مجرد مسرحية عبثية قام بها السلفيون بمساعدة الفتاة للرد على هزيمتهم في قضية السيدة كاميليا شحاتة ولإقناع الرأي العام بأن الكنيسة تقوم باعتقال المتحولات إلى الإسلام؟ هل هناك احتمال في أن تكون عبير ذهبت إلى رجال الدين المسيحيين في إطار خطة سلفية للإيقاع بالكنيسة؟ أسئلة كثيرة لا نجد لها اليوم إجابات محددة، ولكن من المؤكد أنه عندما تخرج الكنيسة عن صمتها ستظهر الكثير من الحقائق. صمت الكنيسة لا يعني أبداً ضعف موقفها ولكنه يعكس حنكة كبيرة في التعامل مع الأحداث. ورغم ذلك أرجو أن تتكلم الكنيسة سريعاً.
التعليقات (0)